كردفان… ستالينغراد السودان: كيف يحدد الجيش مستقبل البلاد

كردفان… ستالينغراد السودان: كيف يحدد الجيش مستقبل البلاد

د. عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس السويد باحث في اداره الازمات ومكافحه الارهاب في الحروب التي تحدد مصير الأوطان، لا تُحسم المعارك فقط بالسلاح، بل بالقدرة على إعادة السيطرة، وكسر التمرد، واستعادة السيادة. وهذا ما فعله الجيش السوداني، حين اختار أن تكون كردفان بوابة النصر.
مع مطلع عام 2025، أطلقت القوات المسلحة السودانية حملة عسكرية واسعة في الإقليم، مدفوعة ليس فقط بالحاجة إلى طرد قوات الدعم السريع، بل لفك الارتباط الجغرافي واللوجستي بين دارفور والمركز، ولتجفيف موارد التمرد التي تمر عبر طرق تهريب ممتدة من الحدود حتى قلب العاصمة.
جغرافيًا، كردفان ليست على الهامش، بل على المفصل. تربط الشرق بالغرب، وتتحكم في خطوط تمتد عبر الأبيض والدبيبات والخوي نحو دارفور. من يسيطر عليها يتحكم عمليًا في التوزيع الجغرافي للنزاع، ويعيد تشكيل حدود القوة.
الجيش تحرّك بخطة دقيقة. لم يختر الاجتياح، بل اتّبع تكتيك “القضم المحوري”؛ تثبيت الأبيض كقاعدة عمليات وتموين، استعادة الدبيبات كحلقة ربط، وتأمين ود بندة، التي مثّلت أحد أهم المعابر غير النظامية للتهريب. في النهود والخوي، استمر الضغط دون تعجّل، ضمن سياسة خنق تدريجي.
العمليات أظهرت تفوقًا تكتيكيًا للقوات المسلحة، خصوصًا عبر استخدام الطيران المسيّر والمدفعية الدقيقة، ما عكس جاهزية قتالية عالية وتفوقًا تكنولوجيًا حاسمًا. هذا التناغم بين القدرات الميدانية والتخطيط الاستراتيجي شكل قاعدة صلبة لاختراق دفاعات التمرد.
اللافت أن قوات الدعم السريع لم تنسحب طوعًا من المواقع التي خسرتها كما رُوّج في بعض التقارير، بل تكبّدت هزائم ميدانية مباشرة بفعل الضغط العسكري المركّز. كثافة القصف المدفعي والطيران المسيّر، إلى جانب الاختراق البري المحكم، أدّت إلى تفكك خطوطها في مناطق عديدة، خاصة في الدبيبات والخوي. أسلوب “الضغط المتعدد الاتجاهات” الذي انتهجه الجيش أفقد تلك القوات القدرة على المناورة أو تنظيم دفاع فعال، ما جعل الهزيمة أمرًا واقعًا لا خيارًا.
ومع أن التحدي الإداري لا يقل أهمية عن العسكري، إلا أن الجيش شرع سريعًا في التنسيق مع الجهات المحلية لإعادة المؤسسات، مدركًا أن النصر لا يكتمل إلا باستعادة الدولة بمفهومها الكامل. تجربة “أبو زبد” تؤكد أن إعادة الشرطة والخدمات كان لها دور حاسم في استعادة الثقة.
تتسم الخارطة السكانية في كردفان بتداخلات إقليمية، وتنوع مجتمعي كبير، ما يفرض على الجيش مراعاة حساسية التحالفات المحلية المتغيرة. ضمان الاستقرار بعد التحرير يتطلب أكثر من تواجد عسكري؛ يحتاج إلى تواصل سياسي واجتماعي حقيقي مع زعامات هذه المجتمعات.
الحملة العسكرية، وإن حققت أهدافًا واضحة، فتحت جغرافيا جديدة للحسم: دارفور. من تمركزه الحالي، يمكن للجيش أن يتحرّك بثلاثة محاور نحو العمق الغربي، لكن دون تأمين كردفان إداريًا، فإن أي تقدم نحو الفاشر أو نيالا سيكون قائمًا على أرض رخوة.
وتُظهر خارطة التقدّم أن المسافة الفاصلة بين أبرز المدن المحررة والفاشر لا تزال كبيرة، ما يفرض تحديات لوجستية وأمنية مضاعفة. فمدينة الأبيض، باعتبارها مركز الانطلاق الأساسي، تبعد عن الفاشر نحو 876 كيلومترًا، مرورًا بمحطات مثل النهود وأم كدادة. أما من الدبيبات، فإن المسافة الكلية تُقدّر بما يقارب 976 كيلومترًا، فيما تبتعد الخوي عنها بنحو 979 كيلومترًا عبر الطرق البرية. هذا الامتداد الطويل، الذي يعبر مناطق ذات كثافة سكانية وقبلية متداخلة، يتطلب سيطرة متدرجة وتأمينًا متعدد الطبقات، خصوصًا عند المرور بنقاط حيوية مثل النهود والكومة، قبل الوصول إلى الفاشر، هدف الحملة الأبرز في شمال دارفور.
ويُنظر إلى مدينة النهود باعتبارها أحد أبرز الخطوط الدفاعية التي يعتمد عليها الدعم السريع لحماية مداخل دارفور الشرقية. السيطرة عليها لن تُحقق فقط تقدمًا جغرافيًا، بل ستُسقط معنويًا آخر نقاط الثقل الدفاعي شرق الإقليم، مما يُتيح للقوات المسلحة التقدّم نحو الفاشر بوتيرة أسرع وبمخاطر ميدانية أقل. فتح النهود يعني كسر “درع دارفور الشرقي”، وهو ما قد يُفضي إلى انهيار متسلسل في بنية الدفاعات الممتدة حتى أم كدادة والكومة.
في السياق نفسه، فإن الانهيار المعنوي والتنظيمي لقوات الدعم السريع في صالحة يجعل من غير المرجح أن تكون قادرة على تنظيم مقاومة فعالة في ربك. ومع انهيار خطوط الانسحاب، يصبح وجودها في النيل الأبيض رمزيًا أكثر منه ميدانيًا، ما يُتوقع أن يُمهّد الطريق أمام الجيش للسيطرة على المدينة خلال وقت وجيز ودون مقاومة تُذكر.
في المدى الأوسع، لا تزال خطوط التهريب بين كردفان وتشاد نشطة جزئيًا. الذهب والوقود والسلاح يمكن تهريبها بسهولة عبر دروب لا ترصدها الرادارات. ما لم يتم إنشاء طوق أمني – اقتصادي يغلق هذه النوافذ، فإن التهديد سيبقى قائمًا، ويتحول لاحقًا إلى تمويل لحرب جديدة من خارج الحدود.
كل ذلك ينعكس على المشهد السياسي. من يسيطر على كردفان لا يسيطر على الجغرافيا فقط، بل على إيقاع المفاوضات المحتملة. لقد تقلصت قدرة الدعم السريع على المناورة السياسية بعد أن خسر أرضه في الوسط، ولم يعد يملك سوى جيوب في دارفور. في المقابل، أصبح الجيش ممسكًا بالمفاصل، مما يجعل كلمته أثقل في أي تسوية، حتى قبل أن تبدأ.
وعند النظر إلى وتيرة العمليات وتوزيع السيطرة الميدانية الحالية، يمكن تقدير الفترة التي قد يحتاجها الجيش للوصول إلى مشارف الفاشر بين خمسة إلى ثمانية أسابيع. هذا يعتمد على استكمال السيطرة على النهود والخوي، وفتح محور التقدم عبر أم كدادة والكومة. الظروف الجغرافية، وتنوع الولاءات المحلية، تتطلب تقدّمًا مدروسًا لا اجتياحًا مباشرًا، لكن انهيار الدعم السريع في محاور الوسط والشرق قد يجعل العملية أسرع مما يتوقع البعض، إذا ما استُمرّ في الضغط الجوي والبري على النحو الحالي.
كما شكّلت مدينة ستالينغراد نقطة التحوّل في الحرب العالمية الثانية، حين نجح الجيش الأحمر في قلب موازين المعركة أمام قوات مدججة ومدعومة دوليًا، تشكّل كردفان اليوم لحظة مماثلة في الحرب السودانية. ففي كلتا الحالتين، كان الرهان على انهيار الدولة، لكن الصمود العسكري المنظم أعاد ترتيب التاريخ. ستالينغراد لم تكن فقط جبهة قتال، بل جدار صد أعاد ثقة الروس في دولتهم؛ وكردفان، رغم اختلاف السياق، تُعيد اليوم إنتاج ذات المعنى: أن النصر في هذه الجغرافيا الصغيرة يُعيد تثبيت عمود الدولة في كامل البلاد.
في المفهوم العسكري والسياسي، النصر لا يُقاس فقط بعدد المواقع المحررة، بل بقدرة الدولة على فرض النظام. وهذا ما يفعله الجيش السوداني اليوم، وهو يعيد تعريف سيادة الوطن، على الأرض لا بالكلام.
كاتب سوداني