من عرفات إلى غزة

د. كمال ميرزا
للموسم الثاني على التوالي بعد انطلاق معركة “طوفان الأقصى” المباركة، يتقاطر الحجيج من كلّ فجّ عميق إلى مكّة المكرّمة وبيتها الحرام والمشاعر المقدّسة من أجل أداء فريضة الحجّ.
من الشبهات التي طالما حاول أعداء الدين ومرضى النفوس إلصاقها بالإسلام وصفهم شعائر الحجّ والعُمرة بـ “المظاهر الوثنيّة”.
الحجّ والعُمرة كعبادتين هما أعظم وأجلّ بمراحل من مثل هذه الشبهات الواهية، وهما جملةً وتفصيلاً نقيضٌ موضوعيٌّ للوثنيّة والشِرْك، ولكن هذا سياق آخر للحديث والشرح والتفصيل.
في المقابل، فإنّ الحجّ والعُمرة للأسف يمكن أن يتحوّلا حقّاً إلى “مظاهر وثنيّة” بالنسبة للأفراد في حالتين اثنتين:
الحالة الأولى: أولئك الذين يشدّون رحالهم إلى الحجّ والعُمرة من قبيل السياحة والتسوّق و”شمّ الهوا”.. ثمّ تأتي العبادة تالياً بالمعيّة أو “حُجّة بحاجة”!
الحالة الثانية: أولئك الذين يذهبون إلى الحجّ والعُمرة نفاقاً ورياءاً لكي يُقال: لقد حجّ فلان.. لقد اعتمرتْ فلانة.. ولكي يتقاطر عليهم المُهنّئين حين عودتهم.. وطبعاً في الحالتين الله تعالى وحده هو الأعلم بالنوايا والقلوب والإخلاص!
بالإضافة إلى هاتين الحالتين، هناك في ضوء السياق الحالي شبهة ثالثة قد شابتْ الحجّ والعُمرة، وجعلت إخلاص المرء فيهما موضع شكّ ومُساءلة ولو بينه وبين نفسه، وهي أن يحجّ أو يعتمر بينما إخوانه في غزّة يُقتّلون ويُذبّحون ويُشرّدون ويُهجّرون ويتضوّرون جوعاّ وعطشاً ومرضاً وزمهريراً وقيظاً!
أيّهما أولى بالتلبية: طلب الله من المسلم أن ينصر أخاه، ويذود ويدفع عنه، ويعصم دمه، ويصون عرضه، ويروي عطشه، ويسدّ رمقه، ويعالج سقمه وجرحه، ويكفل أهل بيته، ويعيد إعمار داره وترميم معاشه.. أم دعوة الله المسلمين للتطوّف بالبيت العتيق لمن استطاع لذلك سبيلاً؟!
أليست حُرمة دم المسلم أكبر عند الله من حُرمة الكعبة نفسها؟! وأكبر حتى من أن تزول الدنيا بما فيها؟!
لا داعي لأن تكون هذه مقابل تلك؛ إذا كنتَ مُقتدراً ميسور الحال فهلّا أوصيتَ لغزّة وأهلها بنفس المبلغ الذي ستنفقه على حِجّتكَ أو عمرتكَ وسفركَ وتنقّلكَ وإقامتكَ وتسوّقكَ وهداياكَ و”فاست فودكَ” الذي ستأكله هناك.. لا أكثر من هذا ولا أقل!
أمّا إذا لم تكن مقتدراً فأيّهما في ضميركَ ووجدانكَ أولى: أن تحجّ أو تعتمر، أم أن تؤدّي ما ادّخرته لحِجّتكَ أو عُمرتكَ إلى أهل غزّة؟
لو لم نحجّ أو نعتمر السنة فقد نستطيع لذلك سبيلاً إن شاء الله العام التالي، ولكن إذا بادت غزّة اليوم فلن يكون هناك غزّة العام التالي!
ما يسري على الحجّ والعمرة هنا يسري أيضاً على رحلات الترفيه والاستجمام التي يذهب إليها الناس، خاصةً وأنّنا على أبواب الموسم الصيفيّ.
وما يسري على الحجّ والعمرة هنا يسري كذلك على كلّ مال يدّخره المرء أو يستطيع الوصول إليه ويخصّصه لأغراض تزيد عن حاجته الأساسيّة: مال لتجدّد موديل سيارتك.. مال لتقتني شقة جديدة أو مزرعة.. مال لتجديد عفش بيتك.. مال لتحديث خزانة ملابسك لتواكب الموضة.. مال لشراء أحدث موبايل أو جهاز إلكترونيّ.. إلخ.
مرّةً ثانية، لا داعي لأن تتوقّف عجلة الحياة وتكون هذه بدل تلك؛ إذا كنتَ مقتدّراً أو مستطيعاً فهلّا خصصتَ لإخوانكَ في غزّة نفس المبلغ الذي تنفقه على أي نفقة كماليّة أخرى أو زائدة عن الحاجة.. لا أكثر ولا أقل؟!
ما بين صعيد عرفة وصعيد غزّة، أظنّ أن صعيد غزّة هو الأولى وهو الأقرب إلى الله تعالى في هذه المرحلة من عمر الأمّة!
كاتب اردني