غزة: الخطوات القادمة؟

غزة: الخطوات القادمة؟

 

 

علي الزعتري
حتماً ستنتهي الحرب في غزة، فماذا بعدها؟ غَزَّاوياً و عموم فلسطين و الجوار العربي و الصهيونية المتمددة و اليمن العنيد و ربما العالم الذي تتحسسُ في قارَّاتهِ فئاتٌ حاكمةٌ و شعبيةٌ سوءَ استئناس الصهيونية عبر السنين و صاعقةَ اكتشافهم صورِ الشرِّ المطلق فيها. نعلمُ يقيناً أن تحرير فلسطين ليس أسطورةً وإن يحاول البعض جعلها واحدةً و خرافةً بل كياناً حَيَّاً يحمله فؤاد و رحم كل امرأةٍ فلسطينيةٍ تنقله للجيل الآتي بقدسيةٍ وتصميم. التحرير لم يستسلم منذ الانتداب البريطاني و رغم الاحتلال الصهيوني، بل إن أردتَ منذ الاحتلال المغولي والصليبي، ولم يتنازل الشعب العربي عن فلسطين الكاملة تحت كل ظروف وضغوط الحياة. تحرير فلسطين كالروح ما دمنا نعيش. ولقد وقف هذا الكيان التحرير الروح الحر الحي بوجه كل المؤامرات و التقتيل الذي مارسته الصهيونية. لذلك لا مجال للقول أن تسوية غزة بالأرض وقتل أهلها سيؤدي لموت التحرير.  ولا هو ممكنٌ ذوبان المقاومة ضد الصهيونية من الوجدان والعمل العربي عند حزب وجماعة و بيت و فرد، و نأمل كذلك عند دولة العرب و المسلمين.

إننا نُطالعُ مجاميع من المواقف والتحركات التي أفرزتها ثورة أكتوبر ٢٠٢٣. الموقف الأساس أنها مقاومةٌ تقاوم محاولات إزالتها في محيطٍ عربيٍّ متناقض، فهو رسمياً لا يقبلها وشعبياً لا ينصرها.  و الموقف المضاد  في صهيونيةٍ تتمادى بكل قوةٍ ووقاحةٍ وتفرض مواقفها وتنتظر سقوط العواصم في أحضانها.  و هو عالمٌ ينظر لإيران والصين وأوكرانيا كمشاكل كُبرى حسابات الربح والخسارة فيها تخلخل الميزان و ينظر لنا بعيونٍ طامعةٍ، لا تشفق على شهيدٍ و لا تشفي الجريح، حين تجمع الجباية. و نشهد اليوم كذلك انكشاف جبلٍ من الخرافة الصهيونية و الإنحناء لأكاذيبها. وإن كان ما هو صهيوني قد أصبح بفضل دماء غزة مفتوحاً للتدقيق في أصولهِ وصِدْقيتهِ المُختلقة فإن للصهيونية من الحلفاء ما يمكنها من الصمود و استعادة المبادرة في تثبيت مواقفها، و من الحلفاء من هو للأسف عربي الأصل وصهيوني الفعل والعقل.  وستنجح في ذلك إن انطفأت شعلة الثورة ضد أكاذيبها ولإبقائها مُضاءةً سيحتاج العالم الحر للكثير من الدعم الذي تحتكره القوى الصهيونية.
لقد شهدت الساحات العربية تجاذباً حاداً بين كل فئاتها الرسمية و الشعبية و ذلك بعد انطلاق طوفان الأقصى وبدء الانتقام الصهيوني. كان التجاذب والتضارب يأتي تحت عناوين الوقوف مع المقاومة ولومها، وكيفية مساعدة المدنيين الخاضعين للانتقام و تبرير العجز عن مساعدتهم، أو رفض التدخل لصالحهم بغير أساليب المعونات التي سرعان ما خضعت للإرادة الصهيونية. وما ارتفعت منذ أكتوبر ٢٠٢٣ دعوةٌ رسميةٌ عربيةٌ للاشتباك المسلح مع الصهيونية، وهو ما كانت تتمناه الشعوب، فانبرت أطراف حزبية للنصرة وكان اشتباكها مدعاةً للغضب الرسمي والغضب الصهيوني الذي أثبت قدرته اللامتناهية في الاختراق المميت.  كما كان التجاذب والتضارب يأتي شعبياً بين من يريد دعم المقاومة دون حدودٍ و من لا يريد، و من فرَّقَ بين المقاومة، بين واحدةٍ تستحق الدعم وأُخرى لا تستحقه، وكانت التفرقة مبنيةً على الأسس الطائفية و هوية داعمي المقاومة. رأى بعض داعمي المقاومة في التجاذب فائدةً فرحوا بها، لأن مأساة غزة كما قالوا نجحت في فَرْزِ الدول والشعوب و كشفهم أو فضحهم بين مؤيدٍّ و معارضٍ. فانتشرت عبارات “غزة الفاضحة والكاشفة” لكنها سقطت حين فَضَّلت فئةً على فئةٍ وأظهرت لذلك واضحةً الفوارق العربية والإسلامية التي حملت عيوب معانٍ طائفية وعنصرية بين الشعوب، فلا يخلو موقعٌ من صريح الهجوم والغمز واللمز بحق هذا وذاك كلما ذُكِرَتْ المقاومة، وتصدت الجهات المتضاربة لتعيين مقاومةٍ بعينها لحمل شرف المقاومة ونبذ وتخوين غيرها، وانساقت بعدها نعرات الفوارق المادية والثقافية بين الشعوب العربية لتؤكد أفضلية هذا ضد ذاك. لا تستفيد فلسطين من الفرقة العربية والإسلامية بل تستفيد الصهيونية التي نجحت في تجنيد عرب وفلسطينيين للعمل معها جنوداً وخونةً واستمالت تطبيعيين وآملي تطبيع. أعتقد أن الغثاء الذي نذكره ليل نهار يصف هذه الحالة بجميع مكوناتها فهي حالةٌ من الفيضان الذي يحمل القذارة والطهارة و لا يُستفاد منه. ومن الجَلَّي أن طوفاناً أخذَ المنطقة و ربما العالم لِما لم يكن أحدٌ يتوقع و يريد، أو ربما لما يتوقع ويريد أحدهم كما تردد نظريات التؤامر، وإن كانت ثورةَ ٧ أكتوبر رميةً لمكانٍ أرادته المقاومة فهي رميةٌ قد صارت بحكمِ تطور الأحداث لمكانٍ غيرِهِ، وسواء قبلنا أم رفضنا فهذا المكان الجديد هو كالغثاء الذي لا يفيد أحداً في طوفانه الهادر وعلى الجميع إنتظاره لينتهي لنعرف إن منه فائدة. أكتوبر ٢٠٢٣ اخلَّ بالتوازنات و المبادئ وربما يكون قد شَقَّ الارض عن كثير الإيجابيات و السلبيات و خلق مجرىً جديداً قديماً فيه عنفوانٌ مقاومٌ لا ندري إن سيدوم و آخر ناقمٌ لا ندري إن سيسود، و مآسٍ إنسانية لا تختفي فلا الميت يعود من الموت ولا الذراع والرجل المبتورة تنمو من جديد ولا التشويه يختفي ولا جروح الأنفس تندمل.
كتبتُ منذ شهورٍ أن هناك تناقضاً واضحاً و يصيرُ مأساوياً حين تصبح المقاومة سلطةً تقع عليها مسؤوليةً مدنيةً لمواطنيها.  وهذا ما حدثَ في غزة.  تَلَّقى الفلسطيني المدني الانتقام الصهيوني و لم تستطع المقاومة أن تمنع الجوع و الدمار و الموت النيل منه في كل ساعات اليوم، وهي واقعياً لا تستطيع وقف هجمةٍ صهيونية تحظى بدعمٍ داخلي وخارجي و سكوتِ الرد الفعلي العربيٍّ والإسلاميٍّ عليها. الرد الذي يتمناه كل صاحب ضميرٍ حيٍّ في أمة العرب هو الدخول مع المقاومة في حربها المقدسة ضد “إسرائيل” ليوقفها أو يُخيفها فتقف أو حتى ينتصر عليها.  لكن هذا لم يحدث، ولن يحدث بما أن هذا واقعنا، و بما أن المجتمع المقاوم في غزة وفلسطين لا يمتلك بُعداً استراتيجياً من الدعم والأرض فهو لن يستطيع أن يقاوم لفترةٍ طويلةٍ، و لهذا نرى غزة تُمسح فعلياً، وفي مدنٍ فلسطينية عديدة تُهدم الأحياء والمخيمات وتُقامُ المُستعمرات، ولا من أحدٍ في العالم استطاع منع الصهيونية من أن تفعل ذلك و تتبجح به. لا ينفي هذا وجود الرد المُقاوم و الموجع عبر الكمائن غير أنه يبقى مُقَيَّداً بظروفٍ قاهرةٍ تحكم حركته و فعاليته وبظروف المعاناة الإنسانية غير المسبوقة في التاريخ الفلسطيني. و ينطبق الوصف على لبنان واليمن فهناك مقاومةٌ ضُرِبتْ شديداً ولا تحظى بالدعم الشامل في محيطها الوطني أو الإقليمي. هي حزبٌ من أحزابٍ في لبنان وجماعةٌ من جماعاتٍ في اليمن. وقد عانت و تعاني حواضنها الشعبية المحدودة من الهجمات الصهيونية الكاسحة للبنُية و فقدان السند المحلي والإقليمي للإعمار.  بالإضافة بالطبع لمحاصرتها بالقوانين و بالقوة العسكرية الغربية ودعوات بني جلدتها للقضاء عليها.
وإذ لا يغيبُ عن عاقلٍ الحاجة لمقاومة الصهيونية، عندما لا تتوقف الصهيونية عن مطالبتها ببلدان عربية شرقاً وجنوباً وغرباً، يبدو العالم العربي ممزقاً في هذا المضمار لوجود اعتقادٍ عند الرسمي العربي بعدم الحاجة للمقاومة المسلحة أو للمقاومة بكل أشكالها. يرى المجال العربي بكل مستوياتهِ فوضىً متعاظمةً منذ أكتوبر ٢٠٢٣ وغالباً ما يرمي بذنبها على مقاومةٍ عبثيةٍ كما يصفها، فتَعَرْقُلَ التطبيع وتباطؤ الاقتصاد و التململ الشعبي كلها من ذنوب المقاوم الذي ألقى المنطقة للجحيم. هذا بينما يرفض العربي الرسمي توصيف ماهيةِ المقاومةِ غير العبثية التي يريد أو يحب. و الحقيقة الموجعة أن المجال العربي الرسمي يرفض كل نوعٍ من أنواع المقاومة السائدة باستثناء اتباع مفهوم المسارات الرسمية الدبلوماسية لتسجيل الاحتجاجات العربية والإسلامية و يتبنى الدعوات للسلام المبني على حل الدولتين، و نعم، البكاء بمجلس الأمن لتحقيق ذلك.  والغريب هو الاستمرار في بناء القوة العسكرية العربية التي لا تحدد عدوها! والأغرب أن يقول قادةٌ عرب أن بلادهم و “إسرائيل” لهم نفس العدو والمصالح، هذا مع احتلال “إسرائيل” لبلادِ أحدثهم و قصفها دون هوادة. لا أعلم كيف لا يستثير التصريح بالمصالح والعدو المشترك الاستعجاب. أما المجال العربي الشعبي فهو  في وقفته مع المقاومة عاجز ليس بإمكانه عمل شيء سوى المقاطعة المتقطعة والنحيب وبذل العواطف والأمنيات. وإن رفضَ المقاومة كما يفعل الكثير في كثير الشعوب العربية، حتى الفلسطيني منها، فهي وقفةٌ لا تستحي من فاحشةِ أن تزدري و تشمت بالمقاومة بل و حتى بالشهداء.
ماذا بعد؟ هي العموميات التي نتوقع. لا اختفاء للمقاومة فكرةً و وعداً وعملاً تتناقلها الأجيال و لا تَوقُفَ للمكر الصهيوني ضد هذه الأجيال ولا بريق عملٍ عربيٍّ  ينصر فلسطين، طالما العرب يختارون العدو صديقاً والأخ عدواً، ومن غير وجود عربٍ بمواقف وطنية فلن يكون من تغيير ولا تحرير. لكن كذلك لا يمكن تخيل مقاومةً تنوء بأحمال دولة ضمن دولة أو لوحدها.  لا المنطق المعوج العربي يسمح بذلك طالما قرر أن لا يمنح المقاومة بعداً و دعماً جغرافياً و مادياً و معنوياً يمكنها من أن تكون مقاومةً مؤسسية و لا العدو المتربص سيقبل. ستأرِزُ المقاومة لما يمكن وربما ستنطوي أعمالها للخفاء تراقبها الأعين وتنالها كلما استطاعت السهام.  بالمقابل سيكون الانتشاء العربي والصهيوني متعاظماً على قدم المساواة في طلبِ التطبيع و طوي صفحة غزة ولبنان عميقاً في مجلد التفاهمات والمصالحات و تبادل مسرات الحياة. إنهم يتحدثون عن المشاريع العملاقة عابرة الحدود ولا يصير هذا إن كانت الحدود مهددة و حين الشعوب المُجَوَّعةَ تريد هي أيضاً أن تعيش وتأكل وتُنجب.  إنه مستقبل التسويات العقارية والثروات التي تبلع الثوران والثورات فالمطلوب والآتي هو الاستقرار وحسن الجوار.  هذا هو ما بعد غزة ولبنان. أما اليمن فإنه سيهمدُ في العنفوان بالتدريج وقد يكون شوكةً في خاصرة لكن القوى لن تسمح له بالمزيد.  الجميع سيلملم الجراح و سينظر وينتظر وستصبح غزة بعد مائة عام كما دير ياسين من قبل. ذِكرى ومشروع ثورة لتحرير بلاد العرب من الإمبراطورية الصهيونية.

الأردن