استعراض تاريخي لشهر يونيو 1967

استعراض تاريخي لشهر يونيو 1967

 

دكتور محيي الدين عميمور

صدق أستاذنا فؤاد البطاينة وهو يقول:  الشعوب التي لا تقرأ التاريخ فلن تكتبه.
ووقفتنا عند هزيمة 1967، في رأيي المتواضع، يجب ألا تكون بكائية مازوشية للانخراط في البكاء على الأطلال أو للتبارى في الشماتة أو للتغني بالبلاغيات، ناهيك من أن تكون تمجيدا للعدوّ على انتصارات ليس له الفضل الأول في تحقيقها.
لكنني أدّعي أن الوقفة النقدية والتحليلية هي أكثر من ضرورة لضمان القوة الذاتية للوطن العربي، وهي وقفة تؤكد عدة عناصر لا مفر من مواجهتها.
وأهم العناصر هي أن الكيان الصهيوني هو قوة ميدانية حقيقية لا مجال للاستهانة بها أو التلذذ بالقول إنها مجرد زائدة دودية للشمال النصراني العبري.
وحقيقي أن الكيان ما كان يُمكن له أن يظل حيّا لولا عمليات نقل الدم المتواصلة التي تمده بأهم ضرورات الحياة، لكن الأكثر أهمية هو أن نعرف لماذا نجح دائما في ضمان التأييد المطلق لا من قيادات الشمال فحسب وإنما من شعوبه، نخبا وأحزابا وإعلاما، وبهذا أصبح واقعا فرض وجوده وحقق أحلامه.
 وبغض النظر عن أن هناك من يتقزز من تذكيري بما سبق أن قاله مثقفون كثيرون يشرفني أن كنت من بينهم، فإنني أواصل ذلك إيمانا بأن تجاهل زفرات المثقف منذ عقود وعقود كان من أهم أسباب النكسات وتعثر القيادات وهزيمتنا أمام الخصوم والأعداء.
ولقد قلت في الحديث الذي احتضنته مجلة “الجيش” في جوان 1967 بأن: عنصر القوة الأول عند إسرائيل هو اليهودي نفسه .. الذي يقف وظهره إلى البحر، ويدرك أن القضية بالنسبة له أما قضاء مبرما على كل المكاسب التي حصل عليها بعد طول تشريد وأما مضاعفة لهذه المكاسب وتثبيتا لوجوده وحماية لأمنه وسلامته.
هو هذا الجيل من أبناء إسرائيل الذين لم يعرفوا لهم أرضا غير هذه الأرض .. شبوا فيها وترعرعوا ورضعوا أسطورة أرض الميعاد، وتنفسوا الحقد والكره والاحتقار للشعوب العربية المحيطة بهم، وفرضت عليهم قيادة جدية جدار اللغة العبرية يوحد صفوفهم ويعزلهم عن كل الأفكار التي قد تهدد معنوياتهم أو تشككهم فيما يؤمنون به.
وهكذا رُبط اليهودي التائه بالأرض، ربما لأول مرة في التاريخ، وكنتُ ذكّرت بنظام المستعمرات الإسرائيلية (الكيبوتز) وبدورها الاجتماعي والعسكري في دولة إسرائيل.
                ويضاف إلى هذا كله عشرة ملايين يهودي يمسكون بمفاتيح بيوت المال في العالم كله ويسيطرون على معظم الاحتكارات الرأسمالية ويوجهون سياسة الدول التي تملك التأثير على موازين القوى في التجمعات السياسية المختلفة إلى جانب سيطرتهم على أجهزة الإعلام الرئيسية في الغرب كله.
وبالنسبة لهذه النقطة بالذات علينا أن نتساءل اليوم، ولمجرد المقارنة، عن الدور الذي يقوم به المال العربي، وعن الدور الذي يقوم به الإعلام العربي، وسنجد على الفور أن مجرد طرح التساؤل يجعلنا نشعر بالخزي والعار والمهانة، ولا مجال لكلام آخر.
يأتي هنا عنصر آخر أرى أن له أهميته البالغة في السقوط المشين للوطن العربي، وهو تعامل كثيرين مع الأحداث بمنطق تصفية الحسابات الرخيصة مع هذه القيادة أو تلك، وهو ما لاحظه كل مراقب يقظ تابع المسيرة العربية منذ الستينيات.
وأعود هنا فورا إلى ما عشناه آنذاك.
كان منطلق التطورات المجنون الذي قاد إلى الخامس من يونيو هو ما أُبلغ به أنور السادات في زيارته الروسية منتصف مايو 1967 من أن هناك حشودا إسرائيلية تستعد للهجوم على سوريا، التي كانت آنذاك بقياد نظام لا جدال في وطنية قيادته، والتي كان البعض يرها تجسيدا لتعبير “المراهقة السياسية”.
قبل ذلك كان الملك حسين قد وضع جانبا كل عناصر الشنآن مع القاهرة واستدعي الفريق عبد المنعم رياض ليُسرّ له، وبهدف أن يُبلّغ ذلك لجمال عبد الناصر، بأن هناك فخّا رهيبا يُعدّ له، مع ملاحظة أن العاهل الأردني كان يشعر بالكثير من النفور تجاه القيادة السورية التي كان على رأسها الثلاثيّ الدكاترة نور الدين الأتاسي ويوسف زعين وإبراهيم ماخوص، والتي كانت قوتها الفعلية في قبضة اللواء حافظ الأسد.
ولقد أكد لي الملك حسين شخصيا عندما رافقته عند زيارته إلى الجزائر في بداية الثمانينيات بأنه حذر الرئيس عبد الناصر من هجوم إسرائيلي مباغت.
ولأن انتصارات 1956 كانت جزءا رئيسيا في تفكير القياد المصرية، بدأ الانزلاق المصري نحو الفخ، بحيث بدت القيادة كمن يسير خلال نومه.
وهكذا وصلت الأمر إلى إغلاق مضيق تيران، وهو ما اعتُبِر قمة التصعيد الذي يتحمل ناصر مسؤوليته الأولى، وبدون أن نتناسي أن عبد الحكيم عامر أكد له بأن “كل شيئ تمام”، وبأن جاهزية القوات في أعلى مستوياتها، و…”برقبتي يا ريّسْ”..
والغريب أن البيان الذي وقعه المشير موجها للقوات المسلحة لم يكن يتوقع أن تكون هناك حرب حقيقية.
وأقفز هنا إلى الأمام عقودا لأتوقف لحظات عند جنسية كلٍّ من جزيرتي تيران وصنافير، لأوضح بأنه إذا كانت الجزيرتان  تتبعان مصر فإن المضيق يعتبر ممرا مائيا مصريا لمصر حق السيطرة عليه عند ضرورة ترتئيها، أما إذا كانت الجزيرتان سعوديتين فإن المضيق يعتبر ممرا دوليا، وأترك للقارئ الاستنتاج الذي يريد.
وتفاصيل ما حدث في نهاية مايو وبداية يونيو 1967 معروفة، وأكتفي بالتذكير أن عبد الناصر حذر في 2 يونيو القيادات العسكرية المصرية وبعد لقائه بالوزير البريطاني السابق أنتوني ناتنغ، بأن العدوّ سيضرب ضربته بعد أيام قليلة، بل وحدد ذلك بـ 48 ساعة.
أكثر من ذلك، ومما يُؤكد أن عملية التحذير كانت متواصلة، نجد أن صحيفة “الأهرام” التي لا تنطق عن الهوى، نشرت على صفحتها الأولى في بداية الشهر “مانشيت” ضخم عن أن الرئيس الأمريكي جونسون يقود حملة من الضغط السياسي والعسكري والإعلامي ضد مصر، وبأن هناك حاملة طائرات أمريكية مرت عبرة قناة السويس ورابطت عن قربٍ في المياه الدولية.
ونشرت الصحيفة في اليوم التالي أخبارا عن تجمعات عسكرية في قاعدة “هويلس” الأمريكية في ليبيا، وتأكد فيما بعد أن نحو عشرين طائرة وضعت في القاعدة تحت تصرف الطيارين الإسرائيليين (وهو ما يفسر ما أعلنته القيادة المصرية بعد ذلك من أن الهجوم الجوي الذي استهدف المطارات المصرية جاء أساسا من جهة الغرب، وهو ما أعطى جنرالات المقاهي فيما بعد  فرصة السخرية من الإعلان المصري).
وتنشر الأهرام في 3 جوان أخبارا عن انقلاب عكري صامت في إسرائيل جاء بالشهير موشي  دايان كوزير للدفاع، لتقول في 4 جوان بأن العسكريين هم من يحكمون إسرائيل.
 ويقول الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقال نشر في نفس اليوم أن الصدام مع إسرائيل بالسلاح أصبح حتميا، ويوضح ذلك بأن مصر سدّدت ضربتين، الأولى سحب القوات الدولية والثانية إغلاق مضيق تيران، وهذا يعني أن ضربة ثالثة يجب أن تُنتظر من الطرف الآخر، ولا بد من الاستعداد لتوجيه ضربة رابعة له.
هذا يعني بكل وضوح أن ما حدث صبيحة الخامس من يونيو لم يكن مفاجأة بأي حال من الأحوال، خصوصا وأن سوء الأوضاع الاقتصادية في الكيان الصهيوني واختلال عملية الهجرة اليهودية من وإلى إسرائيل لحساب الفرار منها لم يكن سرّا.
والاستنتاج النهائي الذي يفرض نفسه هو أن القيادة العسكرية المصرية، ومقارنة بحرب 1973 التي أبلت فيها القوات المصرية بلاء رائعا، كانت أبعد ما تكون عن المستوى الذي يتطلبه الصراع مع العدو الصهيوني، ويتعاملت مع الموقف باستهتار عجيب، وكأن هناك من أطلق سحبا من الغاز المخدر الذي شلّ حركة الجميع، ولا أجرؤ على القول باحتمال وجود اختراق ما للصفوف المصرية، لأن أشرف مروان لم يكن آنذاك في أي موقع قيادي.
وواضح هنا أنني أحمل القيادة العسكرية المصرية مسؤولية التقصير، والذي حاول بعض المتحمسين لها فيما بعد توجيه الاتهام الحصريّ للقيادة السياسية بحجة أنها رفضت القيام بهجوم استباقي على العدو الصهيوني، وهو مما كت قلته في حديث مطول نُشر في أبريل 1968 في مجلة “الجيش” دائما، وركزت فيه على رفض محمد حسنين هيكل محاكمة القيادات العسكرية.
وقلت آنذاك: محاولة إقناعنا بأنه لم يحدث في التاريخ أن قُدّم ضابط مسؤول إلى المحاكمة نتيجة لفشل تقديراته هي مغالطة كبيرة، فمردخاي ( قائد السلاح الجوي الإسرائيلي ) لو لم يصل إلى تلك النتيجة لما حوكم أو عوقب، لأنه قام بعمل شجاع وجّه فيه كل قوة الطيران الإسرائيلي نحو المطارات المصرية ولم يترك على أرض إسرائيل أكثر من سبع طائرات، وفي الوقت الذي كان يجب فيه أن يكون ثلث الطيران المصري في الجو.
وعندما يقول هيكل إن ضباطا في الحرب العالمية لم يحاكموا لأنهم أساءوا التقدير، نقول له أن أولئك الضباط.. انتحروا .. حاكموا أنفسهم وأصدروا بأنفسهم الحكم على أنفسهم .. ووضعوا حدا لحياتهم بالهاراكيري.
ولا مجال لمقارنة تحطيم الأسطول الجوي المصري في بداية الأسبوع الأسود بتحطيم الأسطول البحري الأمريكي في مياه ميناء اللؤلؤ ( بيرل هاربر ) في عام 1941.
فبداية، لم تكن صدر عن القيادات الأمريكية ما يمكن أن يُعتبر استفزازا لليابان كما حدث عندنا، ونظرة إلى خريطة جغرافية تظهر بُعدَ الميناء عن بلاد الشمس المشرقة مقارنة بموقع مطار الأقصر وبعده عن اللد، مما يعني أيضا أن قرب مصدر الخطر الذي تم التحذير منه يجعل أتفه العقول الدفاعية في حالة تحفز لا يمكن معها أن تفلح ضدها أي ضربة مؤثرة.
كان الأسطول الأمريكي ( حسب تعبير هيكل نفسه ) راقدا كالبط الوديع في خليج هونولولو، تماما مثل الطائرات الحربية على أرض المطارات. المصرية.
وبعد.
هذا قليل من كثير لو كنا نكذّبُ مقولة موشي دايان.
وليس من حقنا أن تساءل اليوم: لماذا زادت أوضاعنا سوءًا.
وإذا كان الأمس خيرا من اليوم فكيف يكون الغد؟

كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق