كيف خسرت أمريكا الجولة الأولى من المفاوضات النووية في مسقط قبل ان تبدأ؟ ولماذا “عززت” حرب ترامب التجارية الخاسرة الموقف التفاوضي الإيراني؟ وما هو الدور الذي لعبه الرئيس الصيني في إسقاط نظرية الترهيب والتهديد الأمريكي؟

عبد الباري عطوان
نجحت ايران في تسجيل هدفا كبيرا في المرمى الأمريكي في مباراة صراع الإيرادات التي بدأت اليوم في العاصمة العُمانية مسقط بإصرارها على ان تكون المفاوضات “غير مباشرة” على عكس ما يريده خصمها الأمريكي، أي مفاوضات “مباشرة”، مثلما اعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مؤتمره الصحافي في حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي، الذي فوجئ بهذا الإعلان الصدمة بالنسبة اليه.
الوفد الأمريكي الذي يتزعمه ستيف ويتكوف مستشار الرئيس ترامب، يشارك في هذه المفاوضات من الموقع الضعيف المنكسر خاصة بعد فشل المشروع الأمريكي في فرض ضرائب جمركية على أكثر من 200 دولة وكيان في العالم، وباتت أمريكا بدون أصدقاء، بل وتحويل الأصدقاء الى أعداء، وخاصة في أوروبا وجنوب شرق آسيا (كوريا الجنوبية واليابان).
***
الإيرانيون الذين يمثلهم في المفاوضات عباس عراقجي وزير الخارجية المخضرم الذي قاد مفاوضات الاتفاق النووي الأول مع الدول الست الكبرى عام 2015، ويملك خبرات عالية جدا في فنون التفاوض واستراتيجياته لم يرضخوا لسياسة “التهديد والترهيب” التي يتبناها الرئيس ترامب ضدهم، وفرضوا شروطهم بالكامل على خصمهم الأمريكي عندما أصروا على حصر المفاوضات في الملف النووي فقط، وعدم التطرق الى ملفات أخرى مثل منظومات الصواريخ والمسيّرات، وقطع العلاقة مع أذرع المقاومة في غزة ولبنان واليمن والعراق، وكان لهم ما أرادوا.
من طلب العودة الى الحل الدبلوماسي للازمة الإيرانية الامريكية، وتراجع عن تهديداته بالضربة العسكرية التدميرية الساحقة هو الرئيس ترامب، عندما أدرك ان التهديدات بالضربات العسكرية، وارفاقها بإرسال ثلاث حاملات طائرات أمريكية، واسراب من القاذفات العملاقة B.52 أعطت نتائج عكسية، عندما لم ترهب الإيرانيين، بل دفعتهم بالرد عليها من قبل السيد علي خامنئي المرشد الأعلى عندما أعلن بنفسه حالة الطوارئ في الجيش الإيراني، ووضع منصات الصواريخ العملاقة، والغواصات المتطورة، والقوات البرية والبحرية في حالة التأهب القصوى، وهدد بتدمير جميع القواعد العسكرية المحيطة ببلاده (10 قواعد) ويتواجد فيها 50 الف جندي، وإغلاق مضيق هرمز ومنع صادرات النفط الخليجية الى العالم بأسره.
الجانب الإيراني لا يثق بالرئيس ترامب الذي مزق الاتفاق النووي عام 2018، ويدرك جيدا انه بات دمية في يد العدو الإسرائيلي، مثلما بات يدرك أيضا ان أمريكا المهزومة في أوكرانيا لم يكتف بالذهاب زاحفة رافعة الرايات البيضاء الى موسكو ومستعدة لبيع أوكرانيا وشعبها للروس، والاستسلام لكل شروطها بضم خمس الأراضي الأوكرانية الى روسيا، ودون التشاور مع حلفاؤها الاوربيين الذين ورطتهم في هذه الحرب.
عندما يطالب الرئيس ترامب بتوصل مفاوضات مسقط الى اتفاق سريع، وفي غضون شهرين فإن هذا يعود الى تجربته المريرة في مفاوضات فيينا التي استمرت عاما ونصف العام وانتهت بالفشل نتيجة الدهاء الإيراني في استخدام نظرية “نعم ولكن”، ودون تقديم أي تنازلات ولا نعتقد ان هذه النظرية سيتمم التخلي عنها في مفاوضات مسقط، خاصة ان أمريكا اليوم المكروهة عالميا التي خسرت جميع حلفاؤها في الغرب والشرق، باتت ضعيفة، وتقف على حافة الإفلاس بسبب العجز الضخم في ميزانيتها العامة السنوية (1.4 ترليون دولار) ووصل ديونها العامة الى أكثر من 42 تريليون دولار.
ما سيشجع ايران على تصليب موقفها في هذه المفاوضات الموقف الصيني القوي والمتحدي في الحرب التجارية ضد الولايات المتحدة، حيث أعلن رئيسها شي جين بينغ أنه سيرد الصاع صاعين الى أمريكا ورئيسها، وسيذهب الى هذه الحرب حتى النهاية مهما كانت النتائج باهظة، وقرر رفع الضرائب الجمركية على البضائع الامريكية بنسبة تاريخية زادت عن 125 بالمئة، وإعطاء الضوء الأخضر لحلفائه في منظومة البريكس بإعلان الحرب على الدولار، ونظام سويفت المالي العالمي الذي تسيطر من خلاله أمريكا على الاقتصاد وحركة المال العالمية.
ترامب المثخن بجراح الفشل في مقامرته بإشعال فتيل الحرب التجارية، والثورة الداخلية أولا والعالمية ثانيا ضدها، وبدء تدهور قيمة الدولار وتصاعد حالة الكساد في الاقتصاد الأمريكي كأول ثمارها، اضطر مرغما على وقف هذه الحرب بعد أقل من ثلاثة أيام من إعلانها تحت غطاء تجميد تطبيق الضرائب الجمركية لمدة ثلاثة أشهر، ومن هنا فإن تهديداته، أي ترامب، بضرورة التوصل بسرعة الى اتفاق نووي، والا فإن ايران ستواجه ضربات عسكرية ساحقة لن يكون لها أي تأثير، وسترد على صاحبها من إجباره على تقديم تنازلات كبيرة، وغير مسبوقة، للخصم الإيراني للتوصل الى “اتفاق سريع” ينقذ ماء وجهه.
***
ايران التي منيت بخسائر كبيرة في لبنان، بإضعاف ذراعها العسكري القوي في لبنان (حزب الله) وسورية بسقوط نظام الرئيس الأسد، أجرت مراجعات سريعة داخليا وإقليميا، وتخلت عن الكثيرين عن سياساتها المتبعة في السنوات الأخيرة، بعد ان أدركت ان السكين تقترب من رقبتها، وان المؤامرة الامريكية الإسرائيلية لا تريد تدميرها، ونزع مخالبها وأنيابها العسكرية فقط، وانما تغيير النظام الإسلامي فيها أيضا، وانعكست نتائج هذه المراجعات، بالانتقال من مرحلة الصبر وطول النفس الى مرحلة المواجهة بشقيها العسكري والسياسي، وتعزيز الاذرع العسكرية الحليفة بدءا بالذراع اليمني الضارب الذي يخوض حروبا بطولية ليس ضد حاملات الطائرات والبوارج الحربية الامريكية في البحرين الأحمر والعربي، وانما بتكثيف القصف الصاروخي الباليستي والمسيّرات للعمق الفلسطيني المحتل في يافا وحيفا وإيلات، وتسريع عملية التعافي لحزب الله في لبنان، وإيجاد طرق أخرى لإيصال الامدادات العسكرية اليه بعد اغلاق الممر السوري التاريخي بسقوط حكم الأسد.
أمريكا تحولت الى مهزلة كبرى مضحكة في الأشهر الأول من حكم ترامب، ولا نستغرب ان تكون ايران واذرعها الحليفة من أكثر المستفيدين والشامتين ومن يضحك أخيرا يضحك كثيرا… والأيام بيننا.