دجوار أحمد آغا: هل تعرفون عن “التوباماروس”!

دجوار أحمد آغا: هل تعرفون عن “التوباماروس”!

دجوار احمد اغا
مقدّمة
ربما الجيل الجديد من شعوب المنطقة والعالم، لم يعد يهتم كثيراً للتاريخ بقدر ما يهتم بالمستقبل، وهو الأصح. ولكن يبقى الانسان بشكل عام بحاجة الى العودة لماضيه ومعرفة ما جرى فيه خاصة مع الاكتشافات المذهلة من جانب علماء الاثار والتنقيب والتي تُثبت بأن الانسان القديم كان لديه وعي ومكتشف علوم مثيرة استخدمها في البناء. ولعل عجائب الدنيا السبع القديمة أكبر دليل على ذلك. فأهرامات الجيزة (خوفو، خفرع، ومنقرع) ما تزال تُشكّل لغز بالنسبة للعلماء من حيث طريقة بناءها الهندسية الدقيقة وكيفية صف الحجارة الضخمة على هذا الارتفاع الشاهق.
لذا؛ ومن هذا المنطلق، لا بد للجيل الجديد أن يتعرف ايضاً على تاريخ المجتمعات البشرية في كل مكان وأن يكتسب الخبرة والفائدة من هذا التاريخ خاصة في مجال الدفاع عن حقوق الانسان والشعوب والمجتمعات التي قدمت الكثير من أجل نيل حريتها والتخلص من نير العبودية والاستعمار. بالإضافة الى تلك القوى الثورية التي عملت من أجل تحرير مجتمعاتها وشعوبها من سيطرة الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية. في هذا المقال سوف نتحدث عن إحدى تلك القوى الثورية والتي تُدّعى التوباماروس.
موطن التوباماروس (الاورغواي)
قبل أن نتعرّف على هؤلاء الثوار، علينا أن نتعرف على موطنهم. جنوب شرق القارة الامريكية الجنوبية، تقبع جمهورية صغيرة تبلغ مساحتها حوالي 176 ألف كم2 وعدد سكانها بحدود 3 ملايين ونصف نسمة، انها “الاورغواي” الجمهورية المنفتحة لاستقبال المهاجرين وخاصة من أوروبا (اسبانيا، إيطاليا، المانيا، فرنسا، وانجلترا) الى جانب العديد من الافارقة الذين جيء بهم كعبيد خلال القرن الثامن عشر وصاحبة أقدم ديمقراطية في القارة.
الاورغواي الدولة الأكثر حرية، والأكثر أمناً واستقراراً في القارة الامريكية، الدولة التي احتضنت أول بطولة لكأس العالم لكرة القدم وفازت بها سنة 1930 عقب الانتصار على منتخب الارجنتين في المباراة النهائية 4 / 2، كما فزت بكأس العالم للمرة الثانية عام 1950 في البرازيل من خلال فوزها في المباراة النهائية على البرازيل 2 / 1 في إستاد ماراكانا الشهير بمدينة ريو دي جانيرو البرازيلية.
أصل التسمية وتأسيس الحركة
يعود أصل تسمية هذه المجموعة الثورية لنفسها بهذا الاسم الى اسم القائد التاريخي في أمريكا الجنوبية وتحديداً في البيرو الذي قاد ثورة وانتفاضة للسكان الأصليين في البلاد ضد سلطات الاحتلال الاسباني في العام 1780 وهو الثوري “خوسيه جبرايل توباك أمارو” الملقب بتوباك أمارو الثاني. قضت السلطات الاسبانية المحتلة على الانتفاضة وقامت بإعدام قائد الانتفاضة في 18 اذار 1871. أصبح هذا القائد الثوري أيقونة للشعب البيروفي بالدرجة الأولى وعموم شعوب أمريكا الجنوبية من أجل التحرر من الاحتلال الاسباني والبرتغالي وتحقيق الاستقلال.
أما تاريخ تأسيسها فيعود الى ستينيات القرن الماضي وتحديداً في العام 1967 حيث تم اغتيال الثوري الأممي أرنستو تشي غيفارا في 9 تشرين الأول 1967 في بوليفيا الامر الذي أدى الى حدوث حركات احتجاجية واسعة في مختلف أرجاء العالم والقارة الامريكية الجنوبية على وجه التحديد. ولم تكن الاورغواي بعيدة عن ذلك خاصة مع تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد بعد الحرب العالمية الثانية مما أدّى الى حدوث توترات في البلاد مع انخفاض أجور العمال وانعكاس ذلك على الوضع المعيشي في عموم البلاد وخاصة المناطق الريفية. هنا ظهرت حركة “التوباماروس” تحت قيادة راؤول سنديك ورفاقه أمثال فيرنانديز هويدوبرو، خوسيه موخيكا، هنري إنغلر، موريسيو روزنكوف للعمل من أجل تحقيق اهداف الطبقة العاملة وتحسين وضعها المعيشي والاطاحة بالنظام الرأسمالي.
أسلوب كفاح الحركة
اختلفت حركة التوباماروس عن بقية الحركات والقوى الثورية التي كانت تنشط في قارة أمريكا الجنوبية والوسطى والتي كانت تمارس نشاطاً ثورياً في الأرياف (حرب العصابات) وفق النموذج الكوبي الذي انتصر بقيادة فيديل كاسترو وتشي غيفارا ورفاقهم. فقد انتهجت أسلوب مختلف تمثل في الكفاح المسلح المديني حيث قاموا بتنفيذ عمليات مسلحة ضد اجهزة القمع المرتبطة بالطبقة الحاكمة، من أجل الاطاحة بها وبناء سلطة العمال والفلاحين. عملياتهم شملت ايضاً الاستيلاء على البنوك ومصانع وشركات الأسلحة وشراء الطعام وتوزيعه على الناس المحتاجين في العاصمة “مونتفيديو”. شعار هذه الحركة كان (الكلمات تفرقنا والعمل يوحدنا).
ذروة النشاط السياسي والعسكري
لم تقم الحركة في البداية بأية أعمال عنف أو اختطاف أو غيرها من الاعمال العسكرية، بل انها حاولت أن تظهر بمظهر حركة سياسية نقابية تعمل من أجل تقريب وجهات نظر القوى اليسارية في البلاد. لكن مع مجيء الدكتاتور خورخي باتشيكو الى الحكم في الاورغواي عام 1969 وقيامه بقمع الاضطرابات العمالية بالقوة المفرطة واعتقال المعارضين واستخدام التعذيب الوحشي أثناء الاستجواب، انتقلت حركة التوباماروس الى العنف المسلح في بداية سبعينيات القرن الماضي خاصة عامي 1970، 1971 حيث بدأت بعمليات خطف شخصيات سياسية مثل مدير البنك القوي “يوليسيس ريفربيل” والسفير البريطاني في الاورغواي “جيفري جاكسون” بالإضافة الى اغتيال عميل ال FBI مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي “دان ميتريوني” الذي كان يعمل في الوقت نفسه لصالح الاستخبارات المركزية الامريكية CIA عبر مكتب السلامة العامة التابع لوكالة التنمية الدولية كنوع من التمويه.
الاعتقال والسجن والتعذيب
العام 1972 شهد تصاعداً كبيراً في العنف الوحشي من جانب الجيش وأجهزة الدولة القمعية الفاشية حيث قامت بحملة شرسة ضد الحركة مما تسبب في القاء القبض على الكثيرين من قادة الحركة واعضائها حيث تم الزج بهم في السجون والمعتقلات. تعرض المعتقلون من قادة الحركة الى التعذيب الجسدي والنفسي بشكل كبير. بعد اعتقال معظم القادة الكبار أمثال سنديك، وموخيكا، وهويدوبرو، أصيب أعضاء الحركة الباقون بالإحباط الأمر الذي دفع بالكثيرين منهم الى ترك الحركة بالإضافة الى عمليات القتل والتنكيل التي كان يقوم بها جيش الطاغية بحق البقية الباقية منهم، مما أدى الى انهيار الحركة تماماً مع بقاء هؤلاء القادة والالاف من انصارهم في المعتقلات والسجون لما يزيد عن عقد من الزمن.
القراءة الصحيحة للمرحلة القادمة
قادة التوباماروس كانوا أصحاب فكر نير يتطلع الى المستقبل لذا كانت قراءتهم للمرحلة القادمة قراءة صحيحة وبالتالي استطاعوا بفضل هذه القراءة الصحيحة التحول من مرحلة الكفاح المسلح الذي حقق أهدافه المتمثلة في إيصال الفكر والفكرة الى الشعب، والانتقال الى شكل جديد من اشكال الكفاح والنضال عبر صناديق الاقتراع والانتخابات.
الانفتاح السياسي الذي جاء مع مجيء الرئيس خوليو ماريا سانغوينيتي في العام 1984، جلب معه الكثير من الفرص لتحقيق أهداف حركة التوباماروس عبر طرق وأساليب أخرى غير الكفاح المسلح. فقد أصدر الرئيس عفواً عاماً عن أعضاء الحركة بعد أكثر من عقد من الزمن حيث شارك الكثير منهم في التحالف السياسي ضمن جبهة “أمبليو” وحققوا نجاحات باهرة
الانتخابات الرئاسية في الأورغواي
أن يصل أحد قائدة التوباماروس الى سدة الحكم في البلاد وعبر صناديق الاقتراع، أمر في غاية الأهمية، وهذا يعني بأن كفاح ونضال هذه الحركة الثورية استطاع أن يصل الى عقول وقلوب أبناء الشعب في الاورغواي.
“خوسيه ألبرتو موخيكا” أحد أبرز زعماء التوباماروس الذي توجه في العام 1984 الى العمل السياسي بعد الانفتاح الذي جرى في الاورغواي حيث شغل منصب وزير الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية من عام 2005 الى 2008 ومن ثم فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت سنة 2009 حيث تولى الرئاسة في الاورغواي من 1 اذار 2010 الى 1 اذار 2015 ليبرز نهجه وطريقة تعامله المختلفة عن سائر رؤساء العالم حيث وصف بأفقر رئيس في العالم كونه كان يتبرع بنحو 90% من راتبه البالغ 12 ألف دولار للجمعيات الخيرية في بلاده وكان يقيم مع زوجته لوسيا توبولانسكي في مزرعة بسيطة بالقرب من العاصمة مونتفيديو. السيارة التي كان يقتنيها كانت من نوع فولكس فاجن موديل 1987. يُذكر بأنه في شتاء 2014 عرض فتح أبواب القصر الرئاسي في العاصمة للمشردين في حال لم تكفيهم مراكز الإيواء. جدير بالذكر أن الرئيس موخيكا توفي في 13 أيار 2025 عن عمر يناهز 89 عاماً وحزنت البلاد كلها لرحيله.
الختام
وفي الختام نعود ونؤكّد بأنه من الضروري للجيل الشاب الموجود الان ويقود الكفاح والنضال في مختلف مجالات الحياة أن يلتفت الى الماضي ويُعيد قراءة تاريخ هذه الحركات الثورية في مختلف أرجاء العالم ويستفيد من تجربة نضالهم التي كلّفت الكثير من التضحيات من أجل مستقبل مشرق يتسم بالأمن والأمان والاستقرار وتستطيع شعوب العالم أن تمارس حياتها وفق ما تراه مناسباً لها وفي جو من الحرية والسلام. شعوبنا في الشرق الأوسط قدمت الكثير وما تزال الى يومنا هذا تقدم التضحيات الجسام من أجل العيش بسلام ومحبة دونما حرب وعداء وكراهية وبعيداً عن الصراعات والنعرات العرقية والطائفية والمذهبية.