من تلاعب “الطائرات بدون طيار” إلى استهداف السيادة: الضاحية تكشف مآرب الاحتلال

من تلاعب “الطائرات بدون طيار” إلى استهداف السيادة: الضاحية تكشف مآرب الاحتلال

 

 

نجاح محمد علي

في تطور جديد يُضاف إلى سجل الانتهاكات المتواصلة للكيان الصهيوني ، شنّ جيش الاحتلال الصهيوني عدوانًا جوّيًا استهدف منطقة الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت. هذا الاعتداء الذي جاء خارج نطاق أي اشتباك عسكري مباشر أو تهديد آني من الطرف اللبناني، يشكل حلقة إضافية في سلسلة خروقات الاحتلال المتعمدة لقرار وقف إطلاق النار القائم منذ حرب تموز 2006، والذي ترعاه الأمم المتحدة عبر قوات اليونيفيل ولجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية.
العدوان لم يكن الأول من نوعه خلال الأشهر الأخيرة، لكنه الأكثر وقاحة لكونه استهدف قلب العاصمة السياسية والأمنية للمقاومة اللبنانية، وجرى في وضح النهار، في رسالة واضحة تحمل أبعادًا تتجاوز الحسابات العسكرية التقليدية.

 ذريعة المسيّرات: كذبة لتبرير القصف

عقب العدوان، سارع الناطق باسم جيش الاحتلال إلى الزعم بأن الضربة استهدفت “منشآت لصناعة المسيّرات” تابعة لحزب الله. لكنّ هذه الرواية سرعان ما تهاوت على صخرة الواقع الميداني، إذ إن المواقع المستهدفة هي عمارات مدنية مأهولة، يعرف سكان الضاحية تفاصيلها بدقّة، وهي بعيدة كل البعد عن أي نشاط عسكري.
وسائل إعلام لبنانية مثل قناة “المنار” وصحيفة “الأخبار” نشرت تقارير ميدانية تُظهر أن الأبنية المستهدفة لا تحتوي على أي ورش أو مصانع، وهو ما أكده أيضًا شهود عيان من سكان المنطقة في مقابلات مع قناة “الميادين”.

 الدولة اللبنانية تحت الاستهداف

ما يجب الانتباه إليه هو أن العدوان لم يكن موجهًا فقط ضد حزب الله أو البنية العسكرية للمقاومة، بل كان موجهًا بصورة رئيسية ضد الدولة اللبنانية نفسها. فحين تُقصف العاصمة بيروت، ويتم استهداف مناطق مدنية دون رادع، فإن الرسالة المبطنة هي أن لبنان كدولة عاجز عن حماية سيادته ومواطنيه.
في تقرير لمركز كارنيغي للشرق الأوسط، نُشر في أبريل 2025، جاء أن “الضغط {الإسرائيلي} المتواصل على الضاحية يحمل دلالة رمزية، مفادها أن لا منطقة محمية في لبنان، وهو ما يهدف إلى تقويض أي بنية دولة تحاول النهوض من أزمتها” (Carnegie Middle East Center, April 2025).

أهداف تتجاوز “السلاح” نحو فرض سلام بالإكراه

من يراقب سلوك الاحتلال خلال العامين الأخيرين، يلحظ تحوّلًا واضحًا في الاستراتيجية تجاه لبنان. فبعد عقود من التركيز على ملف سلاح حزب الله فقط، باتت الأهداف تتخذ أبعادًا أوسع، تشمل فرض معادلة سياسية وأمنية جديدة على لبنان بأسره.
الصحفي {لإسرائيلي} باراك رافيد نشر عبر موقع “أكسيوس” تقريرًا يؤكد أن بعض دوائر صنع القرار في تل أبيب تعتبر لبنان “بوابة أمنية شرقية” لا بد من تأمينها سياسيًا عبر الضغط العسكري والاقتصادي (Axios, May 2025). وهو ما يفسر تكثيف الغارات منذ بدء حرب غزة، ومحاولات إضعاف الموقف اللبناني الرسمي.

إجماع لبناني رسمي على إدانة العدوان

جاء الموقف اللبناني الرسمي موحدًا هذه المرة في إدانة العدوان. فقد أصدر رئيس الحكومة بيانًا وصف فيه القصف بـ”الخرق الصارخ للسيادة اللبنانية”، ودعا الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى التدخل (الوكالة الوطنية للإعلام، 4 حزيران 2025). كما أدانت وزارة الخارجية اللبنانية العدوان، واصفة إياه بـ”الاستفزاز المتعمد الذي يقوّض الأمن الإقليمي”.
حتى القوى السياسية التي عادة ما تتخذ موقفًا رماديًا أو مؤيداً للعدوان ، كحزب الكتائب والتيار الوطني الحر، أصدرت بيانات تنديد، ما يشير إلى أن الاحتلال أخطأ تقدير نتائج هذه الضربة سياسيًا.

لجنة وقف إطلاق النار: مؤسسة شكلية بلا فاعلية

في ظل هذا التصعيد، يُطرح مجددًا دور “لجنة الإشراف على وقف إطلاق النار”. تقرير صادر عن مجلة “Foreign Policy” الأميركية أشار إلى أن هذه اللجنة “لا تملك أي آلية تنفيذية فعلية منذ أكثر من 10 سنوات، وهي رهينة إرادة الطرف الأقوى ميدانيًا”، في إشارة إلى عدم قدرة الأمم المتحدة على الضغط على الاحتلال .
والواقع الميداني يثبت ذلك، فالقصف يتم على مرأى من اليونيفيل، ولا تصدر سوى بيانات “قلق”، دون أي تحرك فعلي لردع الاحتلال أو حتى تسجيل الانتهاك بشكل ملزم.

دور أميركي مباشر في العدوان

واحدة من أكثر النقاط إثارة جاءت عبر القناة 14 العبرية، القريبة من بنيامين نتنياهو، والتي قالت بالحرف: “العملية الجوية التي نُفّذت ضد الضاحية الجنوبية جرت بالتنسيق مع وزارة الدفاع الأميركية، وجرى إبلاغ واشنطن بتفاصيلها قبل التنفيذ بساعات” . هذه التصريحات لم تُنفَ لا من الجانب الأميركي ولا الإسرائيلي، ما يعطيها بعدًا رسميًا غير مباشر.
والأخطر أن هذا التنسيق يتزامن مع تحركات أميركية واضحة في المتوسط، وعودة فرقاطات وسفن حربية إلى قبالة السواحل اللبنانية، كما أشار تقرير لـ”Defense News” الأميركية (June 2025)، ما يعكس سياسة ضغط متعددة الأذرع، تستهدف ليس فقط حزب الله، بل الموقف اللبناني ككل.

المقاومة باقية والردّ قادم

لا يمكن النظر إلى هذا العدوان إلا في إطار صراع طويل بين مشروع الهيمنة الصهيونية ومشروع المقاومة. ورغم فداحة الاستهداف، إلا أن الضاحية – ومن خلفها جمهور المقاومة – يدركون أن هذه الضربات لا تهدف إلى النصر العسكري بقدر ما تهدف إلى إرهاب معنوي وفرض شروط سياسية.
لكنّ تجربة حرب تموز 2006، وتجارب ما بعده، أثبتت أن كلما ارتفعت شراسة العدوان، كلما تماسك الداخل اللبناني المقاوم أكثر، وزادت شرعية المقاومة في الوعي الجمعي.
وقد ألمح أمين عام حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، في تصريح بعد العدوان، إلى أن الردّ “لن يكون مباشرًا بالضرورة، لكنه حتمي”، مشيرًا إلى أن “المعادلة التي أرساها سماحة  السيد حسن نصرالله منذ سنوات لا تزال سارية:
العين بالعين، والضاحية مقابل يافا/تل أبيب” .

لبنان بين نار العدوان وصمت العالم

عموماً ، ما بين صواريخ الاحتلال وصمت المجتمع الدولي، يقف لبنان اليوم عند مفترق دقيق، ليس فقط على المستوى الأمني، بل على مستوى السيادة والقرار الوطني. العدوان الأخير على الضاحية الجنوبية لم يكن حدثًا عابرًا، بل هو إشارة تحوّل في طبيعة الحرب الصهيونية – التي لم تتوقف أصلًا – من استهداف البنية العسكرية للمقاومة إلى ضرب البنية السياسية والاجتماعية والرمزية للدولة اللبنانية بأكملها.
في ظلّ تواطؤ دولي مكشوف، ودور أميركي متزايد في تغطية الاعتداءات وتبريرها، يبدو أن الاحتلال يعمل على إعادة تشكيل المشهد اللبناني عبر تفريغ المؤسسات من معناها، وتظهير لبنان كدولة مفككة غير قادرة على حماية شعبها أو الدفاع عن سيادتها.
غير أن هذا المشهد القاتم لا يلغي حقيقة تاريخية ثابتة: لبنان الذي قاوم الاحتلال في 1982، وأسقط مشروع شارون، وانتصر في تموز 2006، وأسند غزة في 2024، ليس دولة مستسلمة، ولا شعبًا قابلًا للكسر.
الرد ربما لن يأتي بصاروخ عابر للحدود، لكنه سيأتي كخطوة محسوبة في مشروع طويل النفس، تُدركه المقاومة وتعدّ له بدقّة. فكما بات واضحًا:
الحرب التي يخوضها الاحتلال ليست على حزب الله وحده، بل على فكرة أن يكون في هذا الشرق بلدٌ حرّ، يملك قراره، ويقف مع فلسطين.
وهنا، يتحوّل صمود الضاحية من مجرد تحدٍ محلي إلى رسالة إقليمية: أن من يجرؤ على كسر المعادلة، قد يفتح أبوابًا لن يستطيع هو إغلاقها لاحقًا.
كاتب مختص بالشأن الايراني