لبنان كدولة مقاومة!

د. بلال اللقيس
لا يُقصد بدولة مقاوِمة دولة ثورية ولا دولة لزوم الانخراط العسكري والاشتباك السياسي لصالح القوى والشعوب الساعية للتحرر بمواجهة قوى الهيمنة الدولية وانظمة الاستبداد، فهذا مما لا يقل به احد ولا يتحمله لبنان ! فالدور اشبه بصيرورة تأخذ بجملة عناصر وعوامل ليس اخرها تبلور الاستعدادات والقدرة المجتمعية والسمات والتصورات عن الذات والتوقعات حولها.
ان يكون لبنان بلدا مقاوِما يعني ان يكون قادرا بإرادة بنيه وقواه الذاتية ان يضطلع بمهمة حماية كيانه اولا ورسالته وانموذجه ثانيا ، وان ينحاز للعروبة الحضارية بين أنواع “العروبات” ثالثا، وان ياخذ بمصالحه الاستراتيجية بعلمية وعقلانية ككل التجارب والدول رابعا وان يبني اجتماعا متماسكا وحيويا خامسا ، وان لا يتجابه مع منطق التاريخ المؤيد لقضايا الحق والانسان وصوت الشعوب . تلكم هي الخطوط الحمر التي تشكل قوام هوية لبنان مما لا يمكن التنازل عنها البتة تحت اي ظرف . وهذا يَعوز قيادة سياسية تحسن قراءة مجتمعها وخصائصه وعناصر قوته وتجول النظر من الجواني إلى البراني وليس العكس .
في نظرة سريعة لملامح المجتمع اللبناني يلحظ انه مجتمع يحفظ للمقدس قيمته وبالأخص الدين ولا يساوم على الحرية ويقر ان الاستمرار والاستقرار رهان العدالة ويقر ضمنا ان التوافقية والحوار هو ما يجب التمسك به واعتناقه كمنهج (احيانا تفرز صناديق الانتخاب “عنصرية” الأكثرية)، ولا يتردد ان يُبّدي الحق على القوة ولا ينشغل بالقوة عن القدرة ، ولا يتوانى عن مسار الاصلاح ويتطلع لبناء الدولة الوطنية ولم ييأس بعد من ذلك فبناءها هو احمد السبل او أقل الخسائر .
ان هذه العبارات المكثفة تستبطن تحديات وتتطلب استراتيجيات عمل وخطط ودأب وقبل ذلك تصميم وارادة وعزم وجهدا صادقا صار لازما… وتحتاج إلى التفكير والعمل فوق ضغط اللحظة والظرف لا من تحته ، فضغط اللحظة قد يدفع بقصد او بدونه لتنازلات تهدد لبنان وكينونته لاحقا ، ناهيك انه في لحظات التحول الكبرى كحال العالم اليوم -التي قد تأخذ بعض الوقت- نحتاج لمنهجية ادارة ازمة لا وضع الجوهر على طاولة التفاوض ( بالأحرى الإرغام ) مهما بلغ الإغراء او التهديد.
نعود إلى لبنان، البلد الذي يعيش تحد جيوبوليتيكي وجيوثقافي متنام وما يتمخض عن ذلك من تحديات متراكبة.
هو لا يستطيع ان يقفز عن حيوية واستثنائية مجتمعه باسم اللادور ولا يمكنه ان ينعزل عن الآخرين ، انه وجود تاريخي في متن هذه المنطقة وتفاعلاتها اجتماعياً وسياسيا وثقافيا ، ولقد مدته العقود الأخيرة بأفق كبير وسجل ادوارا نوعية لم تكن منظورة من قبل ولا متخيلة عربيا كان منها تحرير اول أرض عربية بالمقاومة دون تفاوض ولا تنازل من اصغر دولة عربية.
لذلك لا يمكن للبنان ان يتحول الى القوقعة او ينكفئ او يستقيل عن دور استنهاضي يعجز ان ينهض به اقرانه العرب كما اثبتت تجارب العقود الماضية، ولا ان يكون تابعا لخارج دولي او عربي ! فكيف إذا كان الواقع العربي يتهدده الانزياح إلى دول الحظ والمال (إمارات سعودية قطر) فلك ان تتخيل هيئته ومستقبله!!.
ان تصورا للبنان ك”دولة مقاوِمة” يحتاج رفع اشكالية فعلية وربما معضلة. هل يمكن لِ “الدولة الوطنية” ان تنشأ ذات يوم في لبنان؟ واذا كان ذلك ممكنا فعلى أية اسس؛ هل على اساس القانون ام الحقوق ام المصلحة !! . ولماذا انقضى قرن واكثر من عمر لبنان ولمّا تنوجد الدولة الوطنية بعد او حتى منزلة من منازلها !! وانّى لنا ان نصل منزلة دولة وطنية فيما لو كنا امتداداً لخارج ومهيمن او تقمصا او تقليدا له اي نفتقد فلسفة كينونة مميِزة تضمن خصائصنا الجوهرية وسيادتنا !! وهل يمكن ان تكون دولة مستقلة القرار دون ان تكون مقاوِمة للضغوط ومطالب الإذعان والإكراه والإغراء التي تمارسها قوى الهيمنة العالمية !! انه اينما تواجد التسلط والهيمنة ان وجدت مقاومته وحيثما حل الاستبداد توفرت مسوغات مواجهته، فالأمران متلازمان.
بالنسبة لدعاة نظرية لبنان كدولة مقاوِمة، بالنسبة اليهم النظرية لها موقعها ومنطقها المحكم، فليست المقاومة خارج الدولة بل انً السلطات هي خارج مجتمعاتها وفي غربة عنها.
بحسبهم، انه في استقراء التجربة التاريخية للبنان السياسي وخطاب مكوناته وسردياتهم (١) وفي مطارحات ومقولات كبار شخصياته(٢) لرأيناها تصب في هذا الاتجاه.
اما الدستور (٣) فقد جاهر بعروبة لبنان في قبالة التغريب (ربما لم يكن متوقعا ان يأتي الغرب بكله إلى المنطقة ويحتوي اغلب دول العرب، كما لم يُتوقع اننا سنكون امام تشظي نماذج العرب ) ويجاهر الدستور بالعداء لاسراءيل ورفض التوطين ومشروعية مواجهة الاحتلال الاسرائيلي بكل الوسائل الممكنة، وينبّه: ان المجتمع هو صاحب السيادة الفعلية والحقيقية وأنّ السلطة ليست إلا جهة معبرة عن السيادة التي هي ملك الشعب!.
ويحاجج من يتبنى اطروحة الدولة المقاومة انّ الناظر لغالبية المكونات اللبنانية يلاحظ في سرديتها تمجيد التضحية وروح المقاومة والايمان والإرادة والحق في الحرية!. وهنا تكمن المفارقة اذ ان الذي دافع عن فكرة المقاومة لحماية ذاته الطائفية ووجوده كمكون تراه يتراجع عنها لحماية لبنان كوجود جديد ، ينظر لطائفته او حزبه او جماعته بمنظور واقعي اما الدولة فبمنظور اعتباري !، المقاومة مقبولة مهما بلغت التضحيات في الاولى بينما مرفوضة في الثانية ! (ما يدلل على عدم تشبع اللبنانيين بفكرة الدولة ويدلل ان غالبهم لا زال حبيس الطائفة ، ويعني ان علاقته بالدولة انها اشبه بمنحة او وَهبة وُهِبها او شركة وليس انصهاراً وتخليقا حضاريا جديدا).
ويتباهون القول انه لمن المفارقات الكبرى ان يتواجد التنوع ويُحفظ نسبيا في الساحات التي تنشط فيها المقاومة بينما يتراجع وينتهي في دول التطبيع ومستلحقاتها .
ومما يدعو إلى تبني لبنان ل دولة مقاومة بحسبهم هي قضية العدالة ، فالعدالة لها موقعها الرفيع والحساس في الثقافة العامة اللبنانية وغالبية مكونات هذا الشعب جماعات مؤمنة تأخذ الدين مرجعية اخلاقية وفكرية واجتماعية بل وسياسية .
اما مقاومة العدو الصهيوني العنصري فلها موقعها العميق في ثقافة المكونات اللبنانية فالغالبية الساحقة من اللبنانيين تعادي “إسرائيل” بخلفيات مختلفة ان قومية او دينية واخلاقية وحضارية او مصلحية او وطنية او كل ذلك مجتمعا. كما ويمكن استقراء موقف وقناعة شريحة وازنة من اللبنانيين ممن يرون ان المقاومة لا يجب ان تنحصر في الدفاع عن الذات اللبنانية فقط بل يجب ان تضطلع بدور ريادي في الاقليم لهزيمة المشروع الصهيوني على غرار المقاومة الفرنسية وهذا واجب إنساني (المقاومة الفرنسية اعتبرت ان معركتها لا تنتهي في تحرير ارضها بل في الإطاحة بالنازية في كامل اوروبا – وكان هذا مما أعطى لفرنسا مكانتها وقيمتها بعد محطة الثورة الفرنسية) .
ومن مسوغات اهل هذا الطرح ان لبنان بطبيعته لا يمكن إلا ان يعيش التحرر في قبالة الاستعباد والتسلط ، فلا يحتمل كغيره سلطة قابضة على المجتمع! ، ولولا هذا النموذج المتميز لم يقم لبنان ولم يستمر ، فالمقاومة لا تتفّعل إلا في فضاء الحرية والحرية لا تنوجد إلا بالمقاومةً ، لقد بدّى لبنان تاريخيا الحرية والتنوع (اليوم يعيد بعضهم النظر بهذه المسلمة !).
ويحاجج اصحاب خطاب لبنان دولة مقاومة بموات المنظومة الدولية وانتهاء صلاحيتها ، فإلى من سيلجأ لبنان بعد موات الأخيرة علما انها في ذروتها لم تقدم للبنان شيئا سوى الاعتراف المنقوص بالحق او الاعتراف بالحق دون الاعتراف بكيفية بلوغه ! فإلى من يلجأ لبنان هل إلى الأمريكي الذي ليس هو الا اسرائيل العالم كما ان اسرائيل هي اميركا منطقتنا !!.
ويكملون، ان لبنان تمكن خلال تجربة المقاومة (حزب الله نموذجا) ان يصنع لنفسه موقع الفاعل والمؤثر وينتقل من الضعف إلى القوة ومن الشاعرية إلى العقلنة وتعميق الوجدان الجمعي ومحاولة بناء سلطة المعيار من خلال النموذج، وان يحول بمفرده دون هيمنة اسرائيل عليه وعلى المنطقة لعقود اربعة (ولا زال الامر ساريا نسبيا رغم التفاوت بالآراء حول هذه المسالة في ظل الحرب المفتوحة في المنطقة) وان يحفظ التنوع بدل نسّيد العنصرية الصهيونية، وتراهم ينبهون من مخاطر ما اصاب النظام الرسمي العربي من تراجع حاد وتهافت (العرب مختلفين لحد التناقض في سوريا وليبيا والسودان والمغرب وفلسطين واليمن و… ) !!.
بالنسبة اليهم ، لماذا نبقى أسرى المسبقات والإسقاطات فالعلم يحتاج إلى شجاعة في المقاربات وتحرر. فلولا جرأة العقل وتحمله للتبعات لما خرجت أوروبا من عصر الظلام بل كانت لا تزال في الانغلاق ( بغض النظر اننا عدنا دخلنا انغلاقا جديدا باسم العقل ثم العلم والان التقانة)، ولولا ” تضحيات” بعض اللبنانيين الاوائل لما أخذنا استقلالنا بحسب الرواية الرسمية لكتاب التاريخ في لبنان، ولولا حنكتنا حينها لما استطعنا ان نقنع فرنسا بدعمنا (بحسب الرواية التاريخية نحن استغلينا التناقضات الدولية واستطعنا ان نجير الخارج لمصلحتنا لنيل الاستقلال! علما ان فرنسا كانت الأضعف مقارنة باميركا وبريطانيا وروسيا الخ …).
وفي معرض تقديمهم للمسوغات ، فان عالم اليوم هو عالم التحالفات المرنة وليس الجامدة ولا الانعزال والانكفاء ، الناتو كآخر التحالفات الجامدة يتصدع اما الحياد فسقط حتى في منشئه اي في سويسرا وغيرها . كل الدول اليوم تسير بتحالفات حسب المصلحة ( حتى الدول العربية ك السعودية توزع علاقاتها بين اميركا وأوروبا والصين وايران وروسيا …).
وفي محاججاتهم يتطرقون إلى قصة النجاح الكبرى وغير المسبوقة التي حققتها المقاومة في لبنان وأثرها على كل الاقليم ويدعون إلى قراءتها بعلميّة وعقل مسؤول ، وكيف عجزت أنظمة العرب مجتمعة عن ذلك ، وبأقل كلفة ممكنة حين حاذرت المقاومة ان يدفع لبنان الكلفة فخففت عن غالبية اللبنانيين وتحملت هي وبيئتها او حينما اهدت النصر للجميع ولم تبحث ولم تطلب مكسبا مقابلا في السلطة شأن بقية التجارب ما ينبه إلى هويتها كمقاومة ورديف ومؤازر للدولة والمجتمع وليس منافسا لها ولا مزاحما .
ومن المحاججات ، ان التجربة التاريخية ل لبنان قالت انه لا يستطيع ان يجنب نفسه القضية الفلسطينية حتى لو ادعى ، إنها تقتحمه وتهز استقراره ، فهو لا يمكن ان يكون محايدا حيالها البتة . يتفق اللبنانيون انهم لا يجب ان يكونوا حياديين حيال القضية الفلسطينية نظريا ، لكن تبقى اشكالية معرفية لم نجد سبيلا للحل. بعضهم ينظر لإسرائيل ككيان محددة الحدود اي “دولة” بينما هي في حقيقتها وواقعها سياسة من سياسات التوسع و الهيمنة الدولية ونموذج لممارسة سياسات الاذعان الدولية ، فهم يفترضون امكانية تجزئة المشروع الهيمني فلا يرونه ككل متكامل قلبه الكيان الصهيوني وروافده الانظمة الجاثية على صدور الشعوب بالاستبداد والقهر ، لذلك يريد بعضهم ان يعالج المشكلة الاسرائيلية حيال لبنان باميركا بينما هما واحد في الواقع مع فوارق تكتيكية تظهر احيانا.
ويحاججون ان الغرب متقلب وتاجر لا يأبه إلا بمصلحته (بالأمس سلمنا لسوريا النظام القديم ، فهل من ضمانات ان لا يسلم لبنان لسوريا النظام الجديد إذا قدم الأخير أوراق اعتماده لاميركا برعاية خليجية وتركية مبرمة !!.) .
وفي محاججتهم ايضا، إذا كان مكون لبناني تمكن بسعي وجهد مركز وتصميم وثقة من تحقيق مستوى عال من النجاحات لعقود وصولاً لصمود أسطوري في الحرب الأخيرة. كيف الحال فيما لو تبنّت الدولة خيار غالبية شعبها !! فالدولة بنهاية المطاف تحوز سعة مكانية وعلاقاتية وسياسية واستراتيجية وخيارات لا تتوافر لحزب مهما سعى.
ان لبنان وفق رؤيتهم لا يمكن ان يقوم الا بالحرية والمعنى ولا يمكن لنظامه السياسي ان يكون ملكية او ديكتاتورية او نظام بوليسي ولا أوليغاركية ولا نظام اكثرية . بقاؤه رهن تثبيت فلسفته وتميزها من الحرية والاهتداء للعدالة التي لا تزال ناقصة الحضور في أدبياتنا وثقافتنا وقواعدنا القانونية وفي نظامنا السياسي برمته.
فإما ان ينزاح إلى الديمقراطية والحرية والعدالة والثقافة والحضارة وإما إلى العاجل والآني فيتحول إلى شركة مقاولات او يتدجن المجتمع ويتقولب كما تريده السلطة والخارج.
اما سوال ، الخوف من كلفة المقاومة وانها ستحرمنا من الافادة من امتيازات لبنان في السياحة والاقتصاد والرغبة بالعيش الرغيد فهذا مما دحضته الأرقام ووقائع العقود الاخيرة.
بالنسبة اليهم المقاومة اطروحة حضارية وليست تمحور .المقاومة مصداق الكرامة الوطنية والجمعية وسياسة ان لا نَظلم ولا نُظلم.
انها اعتماد على الذات اولا. انها مرونة وحيوية في عالم جديد يولد وجسورا لعلاقات جديدة تستكشف. فالمقاومة التي يقصدونها ليست خيارا ولا أسلوبا بل منهجا ورؤية وارادة واستعدادا مطلقا للدفاع عن الجوهر والمعنى فضلا عن الامن الفيزيائي اما دعوى الحياد التي تسمع بين الفينة والأخرى، فإلى هشاشتها العلمية والتطبيقية فهي مصادرة للغالبية الشعبية اللبنانية وإرادتها… واذا ارتضينا هذه المصادرة فعلينا ان نقبل مصادرات كثيرة تنتظرنا قد تهّز ما تبقى من قواعد وتوافقات.
اهل هذا الطرح يطالبون بالتفكير في لبنان دولة مقاومة بدل الاستغراق في “اللادور” باسم الحياد واشتقاقاته (السلبي منه والإيجابي) واستمرار الهروب من الواقع بدل مواجهته بجرأة ولو لمرة واحدة بدل الاستمرار في تحمل غصاته طول الزمن.
بين الطرحين الآنفين، لبنان الحياد ولبنان كدولة مقاوِمة، طالما كان يتردد طرح ثالث لم يأخذ حقه في بلد غلب مؤخرا الضجيج و”الخفة”، طرح لا ينكر لمقولة لبنان دولة مقاومة نظريا بل ربما يؤيدها لكن ايضا لا يتعجلها باعتبار ثابتة التوافق وضرورة الاقتناع العام التدريجي بها بعد ان يجرّبها اللبنانيون ويقبلوا بها بالخبرة.
مقاربة “الدولة القادرة العادلة” التي قدّمها شهيد الامة ولبنان امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله باعتبارها افضل السبل وأكثرها واقعية ومعقولية وتمتلك افضل إمكانيات من غيرها للعمل بها بالمدى المنظور .
وبعد السير بها واختبارها بما يكفي … قد نستقر او يمكن ان نتوسع في البحث عن هيئة لبنان الأقوم مراعين مكامن قوة اللبنانيين وتحدياتهم ومتغيرات العالم والمنطقة وتفاعلاهم بها ومعها.
كاتب لبناني