خان يونس: التحدي المستمر الذي يمثله الكيان الصهيوني

خان يونس: التحدي المستمر الذي يمثله الكيان الصهيوني

 

 

يونس الديدي
في زوايا الأزقّة المدمّرة، بين الركام، حيث لا مكان للمنطق العسكري التقليدي، تكتب خان يونس من جديد صفحة نادرة في سجلّ حروب الشوارع؛ صفحة لا تُقرأ بالحسابات الإسرائيلية بل تُفهم فقط بلغة الأرض وأصحابها.
«جهنّم الجنوب»: لماذا خان يونس تحديدًا؟
في العقل العسكري الإسرائيلي، لم تكن خان يونس يومًا مجرد مدينة جنوبية في قطاع غزة، بل كانت منذ عقود تختزن رمزًا متراكمًا من التحدي التاريخي. فمنذ الانتفاضة الأولى، مرورًا بانتفاضة الأقصى، وصولًا إلى حرب “سيف القدس” (2021) وحرب “الطوفان” (2023)، ثم الاجتياح البري الواسع في نهاية عام 2024، ظلت هذه المدينة بمثابة ما يشبه العقدة النفسية والتكتيكية بالنسبة لإسرائيل.
تبدو المدينة، في الخرائط الميدانية، محاصرة وسهلة التوغّل، لكن الواقع يتكشّف عن كذبة عسكرية كبرى: خان يونس ليست رقعة جغرافية فقط، بل نسيج عصيّ على الاحتلال، متداخل، نابض، وذو مناعة سوسيولوجية مستعصية.
حرب الشوارع لا تعترف بالتفوّق التكنولوجي
في يناير وفبراير 2025، خاضت قوات النخبة الإسرائيلية معارك ضارية في أحياء كحي الأمل والقرارة وعبسان الكبيرة، لكن الصدمة لم تكن في حجم المقاومة فحسب، بل في طبيعتها الذكية وغير المتوقعة. ففي زمن الطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي، انهار التفوّق الإسرائيلي أمام تكتيكات بدائية في ظاهرها، عبقرية في جوهرها: أنفاق تتقاطع تحت الأحياء كما تتقاطع الشرايين، عبوات ناسفة تُفجّر عن بُعد، كمائن تُنصَب في أنقاض البيوت، ومقاتلون يخرجون من تحت الرماد ليضربوا ثم يختفوا.
أشارت تقارير استخبارية إسرائيلية، كما أوردتها صحيفة هآرتس ويديعوت أحرونوت، إلى أنّ الكيان الصهيوني تكبّد في خان يونس وحدها خسائر بشرية فاقت التوقّعات بثلاثة أضعاف، وأن وحدات النخبة كـ”يهلوم” و”غولاني” واجهت مقاومة «تشبه الجحيم».
الجغرافيا تتكلم بلسان الأرض لا الخرائط

ما لم تدركه إسرائيل أن خان يونس ليست موقعًا فحسب، بل ذاكرة مكانية متجذّرة. من يعرف شوارعها ليس الجندي الغريب المدجّج، بل الطفل الذي لعب فيها والشيخ الذي صلى في زوايا مساجدها. الذاكرة المجتمعية هنا هي السلاح الأقوى، لأنها توجّه الكفاح وتعرف الثغرات وتستنهض الصمود. لا يمكن لأي سلاح أن ينتصر في بيئة فقد فيها الرؤية والشرعية واللغة.
لقد راهنت تل أبيب على مزيج من الصدمة والتجويع لإخضاع خان يونس، لكن المدينة ردّت بخارطة أخرى: خارطة العناد، والحفر في الجدران، والتكافل العفوي، وسيناريوهات الكرّ والفرّ التي جعلت من كل زاوية كمينًا محتملاً، ومن كل منزل «عشّ دبابير».

 

لماذا لا تفهم إسرائيل هذه المدينة؟

لأن منطق الاستعمار لا يفهم إلا بالأرقام. في قاموس الاحتلال، النصر يُقاس بالأمتار التي احتُلّت أو عدد الأبنية التي دُمّرت. لكنه لم يتعلم أن الهزيمة الأخلاقية والسياسية والعسكرية قد تبدأ من شارع واحد صامد في خان يونس.
ولأن خان يونس ليست حيًّا سكنيًا فقط، بل مختبر مقاومة مفتوح، فيه يُختبر الإنسان حين يُسلب كل شيء: الغذاء، الماء، الضوء، الصوت، ومع ذلك يصرخ: “لن تمروا!”

 

خان يونس والخرائط الجديدة للمقاومة

 

لقد دخلنا، من بوابة خان يونس، إلى مرحلة تتجاوز حروب الدول والجيوش. نحن أمام نموذج فلسطيني جديد في فهم الصراع: مقاومة غير مركزية، هجينة، ذات طابع محلي ولكن بأفق استراتيجي. إنها مقاومة لا تتعامل مع الزمن بصيغته التقليدية، بل تبني الانتصار على المدى الطويل، عبر استنزاف الخصم، وكسر هيبته، وتقويض أسسه الأخلاقية.
في تقارير لمراكز دراسات إسرائيلية مثل “مركز بيغن-السادات”، هناك تلميحات إلى أن السيطرة على خان يونس باتت “مستحيلة دون تدمير كامل”، ما يعني أن الكيان دخل فعليًا في فخّ تدمير الذات، إذ لا انتصار ممكن دون إبادة جماعية، ولا إبادة دون تكلفة وجودية وسياسية دولية.

 

من المدينة إلى الأسطورة

 

خان يونس اليوم ليست فقط عنوانًا لمعارك طاحنة، بل هي مرآة لكل مدينة عربية قاومت ذات يوم ثم نُسيت. خان يونس تستدعي بيروت (1982)، الفلوجة (2004)، سجن جنين (2002). لكنها تتفرّد لأنها قاومت بينما أطفالها يُذبحون على الهواء مباشرة، ورغم ذلك لم ترفع الراية البيضاء.

 

خاتمة: المدينة التي كسرت الرواية

 

في النهاية، يخطئ من يظن أن خان يونس مجرد عنوان جانبي في نشرة أخبار. إنها المدينة التي كسرت الرواية الإسرائيلية الكلاسيكية عن الجيش الذي لا يُقهر، وجعلت العالم يشاهد جنود الاحتلال يهربون من «أشباح الأنفاق» ورصاص المقاومين المتخفيين في العتمة.
هذه المدينة، التي اجتمع عليها الجوع والقصف والنسيان، صارت أيقونة للذين لا يملكون شيئًا سوى الكرامة. وإن لم تكن هذه مقاومة تستحق الاحترام والانتصار، فماذا إذن؟
كاتب مغربي