رانية مرجية: الإعلام المُستغل… عندما يصبح المايكروفون سلاحًا في المعركة

رانية مرجية
من الرملة إلى غزة، ومن القدس إلى مخيمات الشتات، ما زلنا نشهد ظاهرة باتت مقيتة بقدر ما هي مدمّرة: الإعلام المُجَنَّد. إعلام فقد بوصلته الأخلاقية، وتحوّل من منصة لكشف الحقيقة إلى منبر لطمسها، من أداة لتنوير الرأي العام إلى سلاح دعائي في يد الساسة والأجهزة.
لسنا بحاجة لعين خبيرة كي ندرك حجم التواطؤ، فالشاشات لا تكذب، وإن كانت تضلل. يكفي أن تشاهد نشرة أخبار واحدة من قنوات معينة لتدرك أنّ هناك من يختار لك كلماتك، صورك، دموعك، وحتى شكل دمك. في تغطية الحروب الأخيرة، بدا واضحًا كيف تمّ تجنيد الإعلام، لا لنقل الحقيقة، بل لتبرير المذبحة. فالعناوين لا تقول “قصف”، بل “ردّ”، ولا تقول “مجزرة”، بل “اشتباك”، ولا تذكر اسم الضحية، بل تتحدث عن “موقع إرهابي” وكأن الأطفال أصبحوا مواقع
هذا الإعلام لا يسأل: من بدأ؟ ومن خرق؟ بل يسأل: كيف نُقنع الجمهور أن الضحية هي الجلاد؟
في الداخل الفلسطيني، نحن نرى الوجه الآخر لهذا الإعلام: إعلام التطبيع الناعم، الذي يتخفّى خلف “برامج ترفيهية” و”حوارات ثقافية”، بينما هو يمارس رقابة ذاتية شديدة، ويحاول تجميل صورة المحتلّ أو مساواة القاتل بالمقتول. إعلام لا يتحدث عن الأسرى إلا بوصفهم “مخربين”، ولا يجرؤ أن يلفظ كلمة “احتلال”، بل يستعيض عنها بعبارات مشوّهة كـ”الوضع الأمني”، أو “التوتر في المنطقة”.
والأخطر من كل هذا، هو الإعلام الذي يصمت. الإعلام الذي يرى، يسمع، ويعرف، لكنه يختار الصمت لأنه ممول، أو خائف، أو متواطئ. أليس هذا صمتًا مُجَنَّدًا أيضًا؟ أليس هذا نوعًا من الخيانة المهنية؟
الصحافة ليست مهنة من لا مهنة له، كما يتعامل معها البعض. إنها موقف، وانحياز، وضمير. فإن لم تكن منحازًا للضحايا، فلا تسأل عن مهنيتك، لأن المهنة بلا أخلاق، ليست سوى تجارة. وقد آن الأوان أن نعيد تعريف الإعلام الحرّ، لا كذريعة للحياد الزائف، بل كوقوف شجاع في وجه السائد. الإعلام ليس مرآة لما تقوله الحكومات، بل مطرقة تُكسر بها الروايات الكاذبة.
في زمن صار فيه الكذب مُمنهجًا، والمونتاج أداة تضليل، نحتاج إلى إعلاميين لا يكتفون بنقل الحدث، بل يصرخون معه، يتورطون فيه، ويعرّونه. نحتاج إلى صحفيين لا يحتمون بالمكيّف، بل ينزلون إلى الميدان، حيث الدم، والغبار، والارتباك. أولئك الذين يعرفون أن المايكروفون قد يكون في لحظة ما أخطر من البندقية.
وفي الختام، أقولها بصدق ومرارة: إن لم نُعرِّ الإعلام المجنّد، فسيستمر بتعريتنا جميعًا. وسنبقى ندفن أطفالنا ونبحث عنهم في نشرات الأخبار، فلا نجدهم إلا في الهوامش، إن ذُكروا أصلاً
كاتبة اعلامية فلسطينية وموجهة مجموعات
الرملة/ فلسطين