د. خالد فتحي: “الغواص” لريم بسيوني – الغزالي بطريقة جديدة تماماً.

د. خالد فتحي: “الغواص” لريم بسيوني – الغزالي بطريقة جديدة تماماً.

 

 

د. خالد فتحي
حين تلقّفتُ في القاهرة رواية «الغواص» للروائية المصرية ريم بسيوني، شعرت بشيء من الرهبة. ليس فقط لأن الرواية تدور حول شخصية بالغة التعقيد والتوهج مثل الإمام أبي حامد الغزالي، بل لأنني كنت أعلم أن هذا العمل استغرق من كاتبته ست سنوات من البحث والتأمل والجهد الإبداعي المكثف، ما يجعل القارئ مدعوًا هو الآخر إلى قراءة من نوع خاص، تتطلب انغماسًا فكريًا وروحيًا غير عادي.
 كان التحدي الذي أعلنته الروائية منذ البداية لافتًا: هي لا تكتب عن الغزالي الفقيه أو الفيلسوف أو المتكلم فحسب، بل تسعى إلى إحياء الغزالي الإنسان، بما يحمله من صراعات، وهواجس، وترددات، وشكوك، ويقين هش أحيانًا، وقاطع أحيانًا أخرى. وهذا وحده كان كفيلًا بإثارة أسئلة كثيرة بداخلي قبل أن أشرع في القراءة.
فقد قالت ريم بسيوني في أحد لقاءاتها:
“كان في عندي رهبة، وكانت أصعب رواية كتبتها في حياتي، لأن أبو حامد الغزالي كان عبقري، أنا كنت بفكر، العبقري هيعيش مع مراته وعياله ازاي، هيتكلم معاهم ازاي، هو شخصية مش زي أي حد عرفناه، أتقن علم الفلسفة والكلام وعلوم الفقه والصوفية والمنطق”.
للموضوع عندي أيضًا بُعد شخصي مثلها . فقد كان جدي لوالدتي، فقيه القرويين، يحتفظ بجميع كتب الغزالي في غرفته، وكان يجمع سكان القرية في بلدتنا غفساي ويطلب مني أن أقرأ لهم من إحياء علوم الدين، وأنا بعد غضّ حدث. وكنت كلما فتحت دفّتي الكتاب وجدت أوراقًا مالية كثيرة يخبئها بين الصفحات، تبرّكًا وإيمانًا منه أن الكتاب حصن منيع. هكذا، ومنذ الطفولة، تشكلت في وجداني صورة مهيبة للغزالي، قريبة من التقديس، بعيدة المنال، وكأن الاقتراب من إرثه نوع من الجرأة غير المحسوبة لايقوى عليه إلا من تبحروا في علوم الدين .
لاحقًا، وبين كتب الاستقصاء في اخبار المغرب الأقصى  للناصري في بيتنا بفاس، قرأتُ عن العلاقة العجيبة التي ربطت الغزالي بـالمهدي بن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية. تقول الروايات إن الغزالي كان أستاذه في نظامية بغداد، وإنه حين علم أن سلطان المغرب والاندلس  علي بن يوسف بن تاشفين قد أحرق إحياء علوم الدين نزولًا عند رغبة فقهاء البلاط، دعا قائلًا: اللهم احرق ملكه كما أحرق كتابي. ويُقال إن المهدي استأذنه أن يكون ذلك على يديه، فدعا له، فكان ما كان. وتأسست دولة الموحدين وعاصمتها الرباط ، وسواء صحت الرواية أم لا، فإنها تشير إلى مكانة الغزالي وسطوع نجمه في مشارق الأرض ومغاربها، ومقدار التعلّق به باعتباره مخلّصًا للأمة من ضلالات الباطنية، وغلو الفرق، وتيه المذاهب.
وتفتح هذه الحكاية ،وغيرها ايضا  مما لم تبخل بسرده كاتبتنا في قالب روائي جذاب ، بابًا كبيرًا على شخصية  جدلية ،قلقة ،ومتوترة باستمرار. فالرجل، رغم مكانته العالية، كان في صراع داخلي دائم: بين العقل والنقل، الفلسفة والتصوف، السلطة والجاه  والصيت والعزلة والخلوة والتخلي عن الدنيا وزيفها  . تنقل في حياته بين طوس، أصفهان، ، نيسابور، بغداد، دمشق،و  مكة ، بل يُرجّح أنه فكّر جديًّا في المجيء إلى مراكش  بالمغرب، طلبًا للسكينة وتملّصًا من عباءة “واعظ السلطان” لدى السلاجقة والخليفة العباسي ببغداد ،  والتي خنقته في نهاية أيامه،لولا إحراق كتابه .
هذا التوتر ذاته التقطته ريم بسيوني ببراعة. فعبر عملها الروائي، لا تعيد فقط سرد ما قاله الغزالي في سيرته الذاتية  المنقذ من الضلال ، بل تجسّده في مشاهد نابضة، وحوارات حية، وهواجس داخلية تمشي على قدمين وتمنح الغزالي لحما ودما. تقدمه ريم بسيوني  إنسانًا يخاف أن يكون علمه رياءً، وسلطته خداعًا، وإيمانه مجرد عادة لا يقينًا. وقد بدا لي أن الروائية كسبت نصف الرهان منذ لحظة اختيارها العنوان: «الغواص». لم يكن الغزالي في سردها المتألق  غواصًا في أعماق البحار، بل في دهاليز النفس البشرية،في الظلمة الكثيفة للعقل، في شكوكه ويقينه، في طمأنينته وقلقه، في تصوفه وعقلانيته، حيث يتصارع المنطق مع الإيمان، البرهان مع العرفان، ويتقاطع التصوف مع المنهج الجدلي، وتتراكم الحيرة فوق الحيرة.
أثناء قراءتي للرواية على متن الطائرة، وجدتني أتوقف كثيرًا، وكأن الغزالي نفسه يُطالبني ببطء أكثر، وتأمل أعمق. لم يكن شخصية تُروى، بل عقلًا يُقلق، ويوقظ في النفس أسئلة لا تخمد. رحت استجمع أنفاسي مع كل صفحة، فالروائية  كانت ذات نفس إبداعي يقطع الأنفاس. كانت مبدعة حقًا ،وهي تحكي عن الغزالي الآخر الذي لانعرفه . لم تخدش أبدًا صورة الفقيه العلامة المتكلم الصوفي الفيلسوف فيه… كنت أدقق  وأملي النظر في،عباراتها، وأسطّر على الفقرات التي اعتبرها محورية. لكني ما لبثت أن توقفت عن هذه العملية حين اكتشفت أني أسطر تحت كل الكلمات. كانت ريم غزالية في كتابها بامتياز. غاصت بدورها في أعماق الإمام الأوحد، زين الدين،حجة الإسلام، مفتي الائمة وشرف الائمة …. كغواصة متمرسة وذات دربة ومهارة وحذق  ،  ولذلك قررت أن أرجئ القراءة إلى الرباط، حتى أراجع الرواية على مراحل.
في الرباط، وجدتني أعمق البحث في الغزالي على الشاشات واستمع لبعض كتبه المسموعة كأنها الولد ،وتهافت الفلاسفة   كي أقيم السرد حق التقييم. ماذا عساك فعلتِ يا دكتورة بسيوني بالغزالي؟ لقد أعدتِ اكتشافه من جديد، ولكن في إهاب آخر مدهش لايخطر بالبال . لم تقدميه لنا  كرمز ديني وشيخ تلتف حوله العامة، وكمجادل صارم ينتصر في كل مناظراته فقط ، وكسياسي يؤثر في الاحداث الرهيبة لعصره بورعه وعلمه، واحترام رجال الحكم له ، وإيمان  العامة والجمهرة به في كل العالم الإسلامي،   بل قدمته كإنسان يعاني، يتشكك، ويبحث عن الله في متاهات النفس والوجود.
في رواية الغواص، لا تقدّم ريم بسيوني اذن  سيرة الإمام الغزالي كعرضٍ تاريخي تقريري، بل تُعيد تشكيلها أدبيًا بروح فكرية وإنسانية متكاملة. تكتب  عن الغزالي  المفكر  الذي يعيش تمزقاته، و عن الروح الحلقة الوثابة  التي  تجاهد  بداخله منذ صغره من أجل اليقين، تلك الروح التي كان يتغاضى عن ندائها  إلى أن يستجيب لها في السنوات الأخيرة من عمره.
 لحظة التحول الحاسمة،كما ابريت كاتبتنا،  كانت عندما أمره الخليفة المستظهر بالله بكتابة الرسالة المستظهرية، حينها بدأ الغزالي يدرك أنه أضحى مجرد أداة في مشروع سلطوي يلبس لبوس العقيدة، لا باحثًا حرًا عن الحقيقة.  ولقد عبّر عن هذه الأزمة بوضوح في المنقذ من الضلال حين قال:
“ظننت أني بلغت في العلم غايته، فإذا أنا في ظلمة، والعلوم لا تزيدني إلا حيرة…”
وهذا الشرخ بين العالم والسلطة ، نجحت ريم بسيوني في تمثيله روائيًا بذكاء بالغ؛ فقد خلقت شبكة من الحوارات والمواقف تُترجم هذه الأزمة، دون أن تتورط في التقريرية.  استدعت شخصيات حقيقية ضرورية في السرد، كنظام الملك ،ومنصور ،والمقتدي بالله ،والمستظهر ،وتركان خاتون ،فخر الملك ،السلطان سنجر … بالإضافة الى الشخصيات المتخيلة التي أبدعتها  – مثل ابراهيم السباك ، والمجدوم،  وعبد الملك السكندري ، وارسلان –  والتي لم تكن زوائد فنية، بل أدوات ذكية استخدمتها لتكثيف البعد النفسي والروحي للغزالي، وتمرير التاريخ من خلال مواقف انسانية  لا من خلال الخبر.
وهنا تبرز قضية تجسيد شخصية كهذه روائيًا:  ترى هل يحق للفن أن يقترب من قامات كالغزالي؟ أن يخرجهم من تمثالهم الرمزي إلى بشر مثلنا يتوجسون، يترددون ويشكون؟ في هذا السياق، يستدعي الذهن حديثًا جليلًا من السيرة النبوية، حين قالت قريش مستنكرة: “ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟” فيأتي الجواب القرآني: “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي…” (الكهف: 110). بذلك تذكّرنا الرواية بأن العظمة لا تُنقَص بالإنسانية، بل تُعمّق بفعل الاقتراب. شخصية الغزالي في الغواص لا تُحرَف، بل تُروى من الداخل، كما لو أن الروائية أرادت أن نلمس صدقه من شكّه، وقوته من هشاشته، ويقينه من قلقه الوجودي.
ورغم بقاء الغزالي فقيهًا شافعيًا وعقيدته أشعرية، إلا أن الغواص ترصد بعمق تمرده على اختزال الدين في الإيديولوجيا. لم ينقلب على مذهبه، بل على تسخيره السياسي. رفض أن يُستخدم في ترسيخ السلطة، وأن يكون الفقيه الذي يُشرعن به  الاستبداد. فكتب في المنقذ ناقدًا المسار الذي يكاد يطمس روح الدين باسم خدمته:
وهذا الصراع بين الوفاء للمذهب والحرية الفكرية، هو ما تصوّره الرواية ببراعة عبر حوارات الغزالي مع مريديه، ومع ذاته، بل حتى عبر صمته الطويل  في بعض المشاهد ،وانعقاد لسانه  وعجزه عن الكلام في ازمته الروحية وسياحته الروحية بدمشق حين غادر منصب أمام بغداد   ، حيث يعبّر الصمت عما تعجز عنه الكلمات.
ظني، بل يقيني، وقد استوثقت مؤلفتنا بمرور الروايات  التي اتحفتنا بها ،من قدرتها على الحبك والحكي، أنها استحلت مثل  هذه المغامرات السردية ، فهي روائية، ويهمها أن تنبش في الجانب الإنساني. قدمت لنا الغزالي، الأخ الذي يجزع لجزع أخيه، الرجل الذي يجادل خصومه ويطرحهم ارضا ،  الشاب الوسيم البهي  الذي تتمناه أرفع النساء زوجًا لها ،…ذاك  الذي يحب، يتزوج، يرعى زوجته ، ينجب، يرنو لأرقى المناصب، ويجذبه المال والجاه والشهرة والمنصب  والقصور وهتاف الناس له   ، و الذي يمكنه ان يزهد أيضا  في  كل زخرف الدنيا ويلبس ملابس كالاسمال بعد لبوسه الحلل الزاهية الرفيعة .
الغزالي كما صاغته ريم بسيوني، ليس متكلما او فقيها منغلقًا على برجه العقلي، بل “غواص” ينزل إلى قاع التجربة الروحية. من خلال الحوارات الدقيقة، والنزعات الصوفية المؤثرة التي كانت تلح ليسلك مدارج الاحوال ويبلغ مرتبة العارفين ، تبرز الرواية تمييزه بين العامة والخاصة:
“فالعامة أهل تقليد، والمتكلمون أهل نظر، والصوفية أهل ذوق ومكاشفة.”
صوفية الغزالي لم تكن دردشة وليس بها شطحات ،صوفية لانتخلى عن الشريعة بل تحييها،صوفية ،بينت الكاتبة ،انها ممزوجة بالعلم والمعرفة والذوق ،صوفية أعادت للاسلام جوهره النقي.
ولذلك لم يسع  الغزالي، كما تصوره الرواية، لازدراء   العامة، بل سعى لتربية ذوقهم دون أن يفرّط في عمق الحقيقة. و لقد نجحت الرواية في تصوير هذا التوتر بين خطاب الظاهر للناس، وخطاب الباطن للخواص، بأسلوب سردي يجعل القارئ نفسه يعيد التفكير في مراتب الإدراك. لنستمع له وهو يحاور في الصفحة  432: لا بأس بالشك المؤدي إلى اليقين ،ولا بالغوص في العلوم اذا كنت قادرا على السباحة،اما لو كنت مازلت تتعلم السباحة ،فالحذر أولى.
 ولكن ،لماذا لم تعلنيها مدوية،الغزالي هو من أسس الشك المنهجي وليس ديكارت الذي أتى بعده . لكن شك الغزالي وسيلة للله و يقين في الروح وتثبيت لمراجعة الوحي والشريعة،أرأيت الى اين قدتنا وآية أسفار تاخذيننا فيها معك؟
نعم   لقد قمنا معك يا اديبتنا الأريبة  باستشفاف كل هاته المعاني ….وصلتنا  بذلك رسالتك البليغة  من خلال هذا العمل الإبداعي المتميز: التاريخ ليس ما كُتب فقط، بل هو ما يمكن تخيله أيضًا. إنك لم تعيدي لنا  سرد حياة الغزالي كما روتها الكتب، بل أعدت تشكيله ليصبح شخصية روائية بكل ما تحمل الكلمة من عمق نفسي وهواجس وتحولات داخلية ،فحببت الإمام إلينا اكثر واكثر  ،ورميت بنا  في لجج كتبه دون ان “تكثرثي” ان كنا نتمنى السباحة ام لا  ،لنكتشف انه يكتب بأسلوب عصري ،كأنه كتب  لكل القرون ،لنا . لقد أضفتِ بكل هذا ، لقبًا آخر اضافيا لبحر العلوم وشيخ الاسلام ، لقب “الغواص”، ولا  اظنك الا موفقة ،ولا أظنه إلا يقرك عليه.
ليس الغزالي في روايتك مجرد عقل مجتهد، بل روحا مجروحة. فقده  لوالده وووالدته في طفولته ، تحمله لمسؤولية أخيه ،افتراقهما واختلاف سعديهما  ، انسحابه من الحياة العامة  ، كل ذلك شكل مخاضا وصهرا متواصلا لشخصيته التي تبلورت رويدا رويدا بتعاقب الأحداث واستخلاصه المستمر  للعبر  منها وهو يتقلب بينها .  موت ولديه بعد ذلك ، كان لحظة إدراك قاسية لهشاشة الدنيا.
“لا يتم الزهد إلا بتقصير الأمل، ولا يتم تقصير الأمل إلا بالتأهب للموت.”
علاقته بأخيه أحمد الغزالي – الذي لم تهمشه الرواية بل منحته حضورًا رمزيًا – كانت حوارًا دائمًا بين العقل والعشق. لم يكن الخلاف بينهما، بل التكامل: أحدهما عقل ينشد الصفاء، والآخر قلب يهتف بالحب، وكلاهما يسعى إلى الله.
من أقوى محاور الرواية تصوير الصراع بين العقل والإيمان. الغزالي لا يقبل الموروث كما هو، ولا يطمئن للسلطة دون تمحيص، ولا يركن إلى التصوف بلا تجربة. تسأل الرواية: هل يكفي أن نؤمن بالعقل؟ وهل يمكن الوثوق بالروح دون فحص؟. وهنا تتجلّى براعة الكاتبة: لا خطابًا وعظيًا، ولا تقريرًا فلسفيًا، بل عرضًا فنيًا يجعل الشك أداة للتأمل، واليقين ثمرة للمعاناة.
ذاك ما قاله الغزالي في الرواية  لاحد مريديه:  من نبض فيه عرق من عروق التقليد،فلايصلح لصحبتي، ولا أصلح لصحبته.
إن نجاح ريم بسيوني في الغواص لا يكمن فقط في حسن البحث أو إخلاصها للمصادر، بل في تطورها كروائية تعرف كيف تسكب المعرفة في قوالب فنية تنبض بالحياة. استطاعت أن تُمسك بتجربة الغزالي وتعيد بناءها بلغة شفافة، وسرد يشد القلب، ويُشعر القارئ بأنه لا يقرأ الغزالي، بل يعيش معه. في لحظات كثيرة من الرواية، يغوص القارئ كما الغزالي، يشعر بقلقه، يتردد، يتطهّر، ويبحث معه عن الخلاص. هذه ليست مجرد رواية عن الغزالي، بل غوص أدبية في قلب إنسان باحث عن الله.
فنيًا، اتبعت الرواية بناءً تقليديًا يلائم طبيعتها التاريخية، لكنه مشحون بلغة شفافة وتأملية، وبزمن روائي بطيء ليس لقلة الأحداث، بل لكثافة التأمل. وقد جاءت اللغة متوازنة بين الفصاحة التراثية والبساطة المعاصرة، مما يجعل الرواية مفتوحة لقرّاء من مشارب فكرية متعددة، دون أن تفرّط بعمقها.
أما عن الحضور المعاصر في الرواية، فهو بارز وجريء. فرغم أن الغزالي عاش في القرن الخامس الهجري، فإن أسئلته هي أسئلتنا: عن الحقيقة، والسلطة، والرياء الديني، والعزلة، واليقين. الرواية لا تحاكي الغزالي فقط، بل تجعل منه مرآة للإنسان المعاصر الباحث عن نفسه وعن الله، وسط ضجيج العالم وتناقضاته.
رواية «الغواص» ليست مجرد إعادة تقديم لحياة أبي حامد الغزالي، بل رحلة فكرية وأدبية يتداخل فيها التخييل بالتاريخ، والتصوف بالفلسفة، والشك
… باليقين. ريم بسيوني في هذا العمل المتميّز تُعيد إلينا الغزالي حيًّا، نابضًا، ومأزومًا كما كان، لا كما أرادته الصور المنمّطة. وهذا ما يجعل «الغواص» رواية يجب أن تُقرأ بتمعّن، بل أن تُدرّس، لأنها لا تجيب عن سؤال “من هو الغزالي؟” فحسب، بل تطرح الأسئلة الأهم: من نحن؟ ولماذا نؤمن؟ وكيف نصل إلى اليقين؟
إن إنجاز ريم بسيوني في هذه الرواية يتجاوز الاشتغال على شخصية تاريخية استثنائية، ليعكس نضجًا لافتًا في مشروعها السردي الأوسع. القطائع،  أولاد الناس ، الحلواني ، سبيل الغارق،  مرورًا بروايتها المميزة ماريو وابو العباس، لترسّخ الكاتبة مكانتها باعتبارها واحدة من أكثر الأصوات الروائية العربية قدرةً على المزج بين السرد التاريخي والبعد النفسي، وبين الدقة البحثية والبناء الفني المحكم.
وفي الغواص، تبلغ هذه القدرة ذروتها، إذ تمسك بخيوط شخصية كالغزالي دون أن تنكسر أمام ثقلها، ودون أن تبتعد عنها بحذر فجّ. بل تنفذ إلى أعماقها كمن تكتب من الداخل، لا من خارج النص أو من وراء الحواشي. بلغة شفّافة، وإحساسٍ عميق بتعقيدات النفس الإنسانية، كتبت ريم بسيوني عن الغزالي كما لم يكتبه أحد من قبل — لا باحث، ولا روائي، ولا مؤرخ.
وقد بدا ذلك واضحًا في حسّها السردي العالي، الذي لا يعتمد على الحشو ولا على الحيلة اللغوية، بل على صدق فني يُشبه صدق الغزالي نفسه حين كتب المنقذ من الضلال. كانت الرواية محاولة لفهمه، لا لحصاره في موقف، أو تمجيده في صورة. وهذا بالضبط ما يجعل الغواص أكثر من عمل فني ناجح: إنه عمل كاشف، محفّز، صادق.
ولعل هذا ما سيفسّر ماسيكون  من وقع الرواية في نفوس قرائها، الذين سيخرجون منها لا بشعور معرفي فقط، بل بتجربة وجدانية كاملة. تجربة تعيد تعريف القراءة نفسها، لا كاطلاع على قصة، بل كاشتباك داخلي مع الذات والتاريخ والمعنى. انت لن تكون نفسك بعد الغواص.
«الغواص» عمل نادر. روائي في مظهره، فكري في جوهره، صوفي في نَفَسه، إنساني في غاياته. ومثلما كان الغزالي غواصًا في أعماق النفس، كانت ريم بسيوني غواصةً في أعماق الغزالي. خرجت منه بشخصية لا تفارقك بعد القراءة، و ألقت حجرًا ناعمًا في بحيرة الفكر العربي المعاصر، قد يكون وقعه هادئًا، لكنه عميق، وبعيد الأثر.
كاتب مغربي
[email protected]