عبد الرزاق القاروني: إلياس كانيتي.. تكريم لأصوات مراكش

عبد الرزاق القاروني
إلياس كانيتي الكاتب العالمي الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1981، ارتبط اسمه بالأدب النمساوي، لكنه يعتبر كاتبا متعدد الجنسيات واللغات. عاش حياة عابرة للحدود، مترحلا بين عدة دول أوروبية، جاعلا من اللغة الألمانية وطنا له، ولغة للكتابة والإبداع. وفي خمسينيات القرن العشرين، زار مدينة مراكش، بحثا عن أفق لتجديد القوى، وتجارب ثقافية وإنسانية مغايرة، ما ألهمه تأليف كتابه الشهير “أصوات مراكش، سجل رحلة”، الذي ضمنه انطباعاته وارتساماته عن هذه المدينة.
كاتب عالمي
رأى إلياس كانيتي النور، يوم 25 يوليوز 1905 بمدينة روسه بالضفة الجنوبية لنهر الدانوب ببلغاريا، في وسط عائلة ذات أصول يهودية سفاردية، تنحدر من بلدة كانيت بضواحي كوينكا الأندلسية بإسبانيا. وخلال سنة 1911، رحل رفقة أبيه جاك وأمه ماتيلد، وأخويه نسيم وجورج إلى مانشستر ببريطانيا. وإثر وفاة والده المفاجئة، إثر سكتة قلبية، سنة 1913، انتقلت الأم مع أبنائها للاستقرار بفيينا، عاصمة النمسا، ثم، بعد ذلك، بزيورخ في سويسرا. وفي سنة 1921، سافر كانيتي إلى فرانكفورت بألمانيا لمتابعة دراسته، حيث حصل على الشهادة الثانوية. وأثناء سنة 1929، نال شهادة الدكتوراه في الكيمياء من جامعة فيينا، غير أنه قرر أن يشق مجرى حياته في عالم الكتابة والإبداع. ورغم تملكه لناصية ثمان لغات، فضل الكتابة باللغة الألمانية، التي كان يجد ذاته فيها.
وفي سنة 1934، عقد هذا الكاتب قرانه بالكاتبة النمساوية فيزا توبنر كالديرون، وابتداء من سنة 1939، وبعد ضم النمسا إلى ألمانيا، وهربا من مطاردة النازية، نظرا لأصوله اليهودية، انتقل، رفقة زوجته، للعيش بلندن. وعقب وفاة هذه الأخيرة، تزوج من هيرا بوشور سنة 1971، التي كانت تدير مطعما بمتحف الفنون الجميلة بزيورخ. وخلال السنة الموالية، رزق الزوجان بابنتهما جوهانا، التي أبدعت في مجال الموسيقى.
ولهذا الكاتب عدة إبداعات وأبحاث متميزة، من أبرزها: رواية “الإعدام حرقا” (1935)، والدراسة النفسية الأنتربولوجية “الجمهور والسلطة” (1960)، وكتابه الرحلي والانطباعي “أصوات مراكش” (1968)، علاوة على ثلاثيته السير ذاتية: “اللسان الناجي” (1977)، و”المشعل في الأذن” (1980)، إضافة إلى “لعبة العيون” (1985).
ونظرا لتميزه الفكري والإبداعي، فقد حصل هذا الكاتب على جوائز عالمية مرموقة، بدءا بجائزة بوشنر الأدبية (1972)، ومرورا بجائزة جوتفريد كيلر (1977)، وجائزة يوهان بيتر هيبل (1980)، وجائزة فرانز كافكا (1981)، وانتهاء بجائزة نوبل للآداب، خلال ذات السنة، تثمينا “لكتاباته التي جسدت نظرته الفسيحة، وثراء أفكاره وقوته الفنية”، والتي كرست مكانته في العالم باعتباره أحد الكلاسيكيين المعاصرين. وبعد مسار إبداعي وبحثي حافل، أودع كانيتي الروح، يوم 14 غشت 1994 بزيورخ، ودفن بمقبرة فلونترن، بجوار الكاتب والشاعر الإيرلندي الشهير جيمس جويس.
أصوات مراكش
بدعوة كريمة من صديقه الأسكتلندي الثري أيمر ماكسويل، منتج فيلم “سماء أخرى” من إخراج وسيناريو الإنجليزي جافين لامبرت، زار كانيتي مراكش، خلال ربيع سنة 1954، رفقة الفريق السينمائي البريطاني المكلف بتصوير هذا الفيلم، حيث أقام لمدة تناهز ثلاثة أسابيع بفندق التازي، القريب من ساحة جامع الفنا بهذه المدينة. وكانت ثمرة هذه الزيارة مجموعة من الانطباعات والارتسامات، التي دونها في كراس، وأصدرها، باللغة الألمانية، في كتاب وسمه بـ “أصوات مراكش، سجل رحلة” (1968)، يتضمن 14 فصلا هي عبارة عن لوحات استرجاعية لذكرياته، خلال هذه الزيارة.
وحسب الباحث الألماني- الفرنسي ديرك فايسمان، لقد كانت هذه الرحلة، بالنسبة لهذا الكاتب، “مصدرا للإلهام الأدبي والفكري، وكذا لتجديد القوى، على المستوى الشخصي”، مبرزا أن البنية الضمنية لهذا المصنف تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي: اكتشاف المدينة الحمراء، وفي قلب المجتمع اليهودي بمراكش، إضافة إلى ساحة جامع الفنا وما حولها.
ونظرا لعلاقة هذا النص الرحلي بالعالم العربي، وخصوصا بمدينة عريقة، ووجهة سياحية ذات صيت عالمي كبير، فقد ترجم إلى العربية أربع مرات، إذ ترجمه كل من الكاتب والمترجم التونسي حسونة المصباحي سنة 1988 عن الفرنسية، والأديب والمترجم المصري كامل يوسف حسين عن الإنجليزية سنة 1996، والمؤلف والمترجم المصري صلاح هلال عن الألمانية سنة 2020، إضافة إلى الباحثة والمترجمة المغربية بشرى حكيم عن ذات اللغة سنة 2022.
وعلاوة على لغة الضاد، لقد ترجم هذا الكتاب إلى أزيد من 17 لغة، وصدر فيما يناهز 70 طبعة بمختلف أرجاء المعمور، ما يدل على أن هذا المؤلف قد حقق نجاحا باهرا لدى القراء، ويعتبر من الكتب الأكثر مقروئية وتداولا، ضمن المنجز الأدبي لهذا الكاتب.
وفي هذا النص الإبداعي المتميز، الذي جاء في قالب روائي، لم يهتم الكاتب كثيرا بالمشاهد والصور الحسية، وإنما بالصوت بوصفه حاملا للمعنى والأحاسيس، حيث يقول في هذا الشأن: “ما أسرني في مراكش لم يكن ما رأيته، بل ما سمعته. كانت المدينة تمتلئ بالأصوات، وكأن لكل كائن فيها لحنا خاصا به”.
وبذلك، يصبح كانيتي شاهدا سماعيا على المدينة، مثل صحفي استقصائي يرصد الأصوات في مختلف تجلياتها، لأنها هي المفاتيح والمداخل لفهم الآخر، ولكونها تشكل صدى التاريخ والهوية الجمعية، من نداءات الباعة، وسرديات الحكواتيين، وأنغام وأغاني الموسيقيين، وأصوات المارة والحيوانات، وصراخ وضوضاء الأطفال، وتوسلات العميان، الذين يسميهم الكاتب “قديسي التكرار”، ما يجعل المدينة تبدو مثل برج بابل، يعج بالأصوات المتنوعة والمتباينة، وتغدو فضاء يروى ولا يرى، بحيث يهيمن فيه السمعي على ما هو بصري.
وفي هذا الإطار، يقول هذا الكاتب: “خلال الأسابيع التي أمضيتها في مراكش، لم أبذل محاولة للإلمام بالعربية. فقد رغبت في ألا أفقد شيئا من قوة هذه الصيحات غريبة الوقع. أردت أن تؤثر في الأصوات بقدر ما يكمن في قدرتها، دون أن تخففها معرفة معيبة ومصطنعة من جانبي”، مضيفا أنه، في هذه المدينة، “كان يستمع بعينيه”.
ومن خلال التمثل الكانيتي لمراكش، فإن هذه المدينة لا يمكن سبر أغوارها بالمشاهدة، وإنما عبر الإصغاء والسماع المتأني والمتمعن للأصوات، في الشوارع والأزقة والأسواق، وخصوصا في ساحة جامع الفنا، هذا الفضاء المفتوح على العالم، والذي لا يتوقف عن الحكي، وعن ممارسة إبهار الزوار، فمراكش ليست مدينة تحكى، بل هي حاضرة ألفية، مفعمة بالحكايات والأساطير، تروي ذاتها بذاتها، عبر أفواه وطقوس الحكواتيين الذين ينشطون حلقاتها، ومن خلال صمت وعظمة معالمها التاريخية العريقة.
جامع الفنا، فرجة وسماع
في مؤلفه “أصوات مراكش”، لم يكتب كانيتي عن ساحة جامع الفنا بعيون السائح العابر أو المستشرق المتحيز والمحوري الذات، وإنما أنصت إليها بأذن الكاتب المتعاطف، الذي يروم فك شفرة أصواتها الغنية والمتنوعة، التي تشبه سيمفونية مختلفة الإيقاعات، لكنها تعزف لحنا واحدا يسر ويبهر السامعين. ومثل المجذوب، بالمعنى الصوفي، الذي أسرته إيقاعات وأصوات الساحة، كان يحلو له أن يجلس، غير بعيد عنها، بمقهى فرنسا لارتشاف الشاي المنعنع أو بمطعم الكتبية لتناول وجبتي الغداء والعشاء.
وبخصوص حكواتيي هذه الساحة، أكد هذا الكاتب: “إن كلمات الرواة تأتي من البعيد البعيد. لوقت طويل تظل معلقة في الهواء أكثر من كلمات الناس العاديين. لا أفهم شيئا مما يقولون. إلا أنني أظل واقفا قريبا من أصواتهم ودائما مسحورا ومفتونا”، مضيفا: “هنا – أي في ساحة جامع الفنا- وجدت نفسي بين شعراء يمكنني أن أرفع بصري نحوهم، لأن كل كلمة يقولونها يمكن أن تقرأ”.
والصوت، بالمعنى الكانيتي، ليس، كما يذهب إلى ذلك الكاتب والصحفي البرتغالي خوسيه ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للآداب: “هو بصر من لا يستطيع الرؤية”، وإنما هو عين من ينصت للآخر بكيانه ووجدانه، وبصر، إن لم نقل بصيرة من يرى ما وراء المشاهد، ليستنبط كنه الأشياء، على اعتبار أن الرؤية تتسم، أحيانا، بالمحدودية والتقصير في استجلاء روح مكونات العالم من حولنا.
وخلال خمسينيات القرن الماضي، كان لساحة جامع الفنا، حين يرخي الظلام سدوله، إيقاع آخر وسحر مغاير، لم تكن ساحة ساهرة، عامرة بالصخب والضجيج، لا يتفرق مرتادوها إلا مع مطلع الصباح، وإنما كانت فضاء يخلد إلى الراحة، وتقل فيه الحركة مع غروب الشمس، وفي هذا الصدد، يقول هذا الكاتب: “طاب لي أن أعود من جولاتي المسائية، عبر شوارع المدينة، عن طريق ساحة جامع الفنا، كان عبور هذا الميدان الهائل، وهو خاو على عروشه، أمرا غريبا، اختفى البهلوانات والراقصون وملاعبو الحيات وملتهمو النيران”.
وحين تستكين هذه الساحة من جلبتها وضجيجها، كان هذا المبدع، من حين لآخر، يتجول فيها وبجنباتها، ليصغي لشاعرية الهدوء المنبعث من هذا الفضاء، وليستكشف الأنشطة الليلية التي تؤثثه، تحت ضوء المصابيح الخافت، ممزقة عذرية الصمت المستشري في المكان، إذ يشير، في هذا الشأن، قائلا: “اعتدت في الأماسي، عقب حلول الظلام، المضي إلى ذلك الجانب من ساحة جامع الفنا، حيث تبيع النسوة الخبز، كن يقتعدن الأرض صفا واحدا مترامي الطول، وقد أحكمن وضع الحجاب على وجوههن، فما تتراءى منها إلا العيون. وضعت كل منهن أمامها سلة مغطاة بقطعة من القماش، استقر فوقها عدد من الأرغفة المستديرة المسطحة معروضة للبيع”.
وبعد الانتهاء من التجوال في الساحة، كان يطيب لكانيتي أن يدلف إلى الأسواق المجاورة، التي تعتبر امتدادات لاستكشاف أصوات المدينة، والتي يصفها قائلا: “تنشر الأسواق روائح التوابل. فيها تسيل الألوان، وينتعش المرء بالهواء البارد. والرائحة التي هي دائما لطيفة، تتغير من حين إلى حين، بحسب طبيعة السلع المعروضة. وليس هناك أسماء، أو علامات، أو واجهات. كل ما هو للبيع معروض. ونحن لا يمكن أن نعرف الأثمان التي ليست لا مبينة، ولا محددة”.
وبعد أن شارفت هذه الرحلة على النهاية، تعلق هذا المبدع، بشكل غريب، بمدينة مراكش، من خلال حي الملاح، هذا الفضاء السكني اليهودي المغلق والقريب من الساحة، لأنه كان يوحي له بأنه قد عاش فيه من قبل، ولأن زيارته كانت تعتبر نوعا من العودة إلى الجذور، ما جعله يصرح: “شعرت وكأنني في مكان آخر حقا، في نهاية رحلتي. لم أكن أرغب في المغادرة، لقد كنت هنا من قبل، منذ مئات السنين، لكنني نسيت كل شيء عن ذلك. وهنا عاد إلي كل شيء. هنا وجدت كثافة ودفء الحياة التي شعرت بها في داخلي. كنت ذلك المكان، وأعتقد أنني ما زلت ذلك المكان”.
ومن خلال هذه الرحلة العابرة إلى مراكش، والعميقة من حيث الأثر، خلف لنا كانيتي سفرا سفريا ممتعا يستكشف الذاكرة المحلية للمدينة، ويحتفي بالصوت والكلمة، على حساب المشاهد والصور، بحيث يصبح، في هذه المدينة، من سمع ليس كمن رأى، وتغدو سلطة السماع أبلغ من هيمنة العيان والإبصار.
إعلامي وباحث مغربي