يونيو 1967: من استوعب الدرس ومن اكتفى بتعلمه

دكتور محيي الدين عميمور
كلمات عتابٍ اقتربت من لومٍ كاد يكون تقريعا جاءتني تعليقا على حديث حول هزيمة جوان 1967، وكان مضمونها أنه كان عليّ، بدلا من اجترار الماضي، أن أهتم بالحاضر وبالتطورات الخطيرة التي يعرفها الوطن العربي الآن في مختلف جهاته.
ولم يدرك أولئك أنني أرفض تناول أحداث لا يكون لسطوري تأثير على تطوراتها، وأكره السباحة في دموع البكائيات أو أكون من مروّجي مشاعر إحباطٍ هو من أخطر الأمراض المُعدية .
ولقد وقفت ساعاتٍ وساعات وساعاتٍ منذ الستينيات أحاول فهم ما حدث آنذاك، ووصلت إلى اليقين بأن توضيح كل شيئ هو واجبنا أمام جيل صاعد من الشباب العربي تستثيره مواقف الذل والمهانة التي كانت هزيمة يونيو أهم أسبابها.
وأحسست بأن واجبي محاولة وضع الجيل الصاعد أمام حقائق ما حدث وتحديد المسؤولية الفعلية عمّا حدث، وذلك على ضوء ما كشفته لنا السنوات الماضية، وهكذا يمكن “تطعيمهم” ضد محاولات زرع مركبات النقص التي تشكل جزءا من عمليات الاختراق واسعة المجال التي تتعرض لها أمتنا منذ عقود، والتي كانت من أسباب روح الخذلان التي أصبحت رمزا للأمة .
وكنت وما زلت أرى أن هذا هو الطريق لمواجهة عمليات تدمير المعنويات العربية التي نعيشها منذ سنوات وسنوات، والتي تضيف إلى قوة العدوّ ما تنتزعه من معنوياتنا وما تسلبه من ثقتنا بالله وبالشعب وبالنفس، وتقف وراء الطروحات التي تبرر بها بعض القيادات العربية والإسلامية مواقف الخيانة، ليكون الاستنتاج النهائي للشباب، وهم من يتحملون مسؤولية بناء الغد، أنهم سلالة أمة فاشلة انتهى عمرها الافتراضيّ ويجب أن تلحق بديناصورات الماضي السحيق.
وهكذا يتحقق الانتصار النهائي أكبر للكيان الصهيوني ومن يدعمونه من قيادات القوى الكبرى، وفي ذيلهم من يتبارون في تقديم قرابين العشق والغرام من القيادات التي نُكبت الأمة بانتمائها الجغرافي، والتي يمكن أن يُخدع الشباب فيتصورون أن أولئك هم منّا ونحن منهم، متناسين أن الانتماء الجغرافي للوطن العربي والعالم الإسلامي يشمل، بجانب البشر، أنواعا متعددة من الحشرات والقوارض والهوام، التي جعلتها الطبيعة جزءا من مكونات الأوطان.
لكنني أضيف لما تفضلت به الدكتورة لينا الطبال، من أن “5 يونيو ليس خسارة نخجل منها” بل إنه تجربة يجب ألا ننساها ودرسا يجب أن نستفيد منه.
وكان المؤسف بالنسبة لنا أننا حفظنا الدرس لكننا لم نفهمه.
ويأتي هنا عنصر آخر شجعني على مواصلة الحديث وهو تعامل البعض مع أحداث يونيو بمنطق تصفية الحسابات التاريخية الرخيصة مع قيادات عشنا معها أروع أيام الاعتزاز الوطني، بدون أن ننسى أنها كانت بشرا يصيب ويخطئ.
وأتوقف بداية عند نقطتين لم أستطع التعرض لهما بالتفصيل في الحديث الماضي في محاولتي الفاشلة للاختصار، والأولى هي أن حجم الاختراق لمجتمعاتنا تجاوز كل الحدود التي كان يمكن تخيلها، ولدرجة أن الأستاذ محمد حسنين هيكل قال يوما في برنامج متلفز ما معناه إن كل التجمعات الدينية الكبيرة، بما في ذلك موسم الحج، كانت فرصة للعدوّ لكي يلتقط من المعلومات ما يستفيد به لرسم صورة الأمة والتعرف على توجهاتها واكتشاف نقاط ضعفها، وإن كنت شخصيا لا أعرف كيف تمكن من ذلك.
وكان مما عُرف في السنوات الماضية أن مؤسسة الأمن الإسرائيلية كانت تضم قسما متخصصا في التجسس المالي، واصبح الكيان الصهيوني يمتلك معلومات مفصلة عن الودائع المالية العربية في البنوك العالمية وعن العقارات والأملاك العربية التي تحتضنها البلدان الأوربية.
وهكذا لم تكن عمليات التجسس على مجريات القمم العربية وما ارتبط بها من تواطؤٍ مُشين هي الاختراق الوحيد للساحة العربية.
النقطة الثانية التي حققت القوة الوطنية للكيان الصهيوني، وبالإضافة إلى ما سبق أن تناولته، هو إدراك القيادة الإسرائيلية لأهمية اللغة في توحيد الصف الوطني وحمايته من الاختراقات المحتملة، ولو بالدواعي الإنسانية، وهكذا، وكما قلت في الحديث الماضي، كانت اللغة العبرية هي السور العظيم الذي تخندق العدوّ وراءه والقلعة التي تولت حمايته وانطلقت منها قواته الغازية.
وأدخل الآن في بعض التفاصيل التي ترتبط بأحداث الخامس من جوان، وأولها الضربة الجوية التي كان اسمها الحركي “البؤرة”، والتي كانت نسخة متطورة من خطة الهجوم الجوي الذي عرفته السويس في 1956، وتمكن “عزرا وايزمان” من الحصول عليها من مركز العمليات المشتركة في قبرص، وتم تطوير الخطة باستعمال خزانات وقود إضافية للطائرات.
وكان العنصر الرئيسي في الهجوم الجوي الذي تم على أربع دفعات هو تركيز طائرات الدفعة الأولى على تدمير مدرجات المطارات السبعة التي استهدفها العدوان على الساعة الثامنة وعشر دقائق من صباح الخامس من يونيو، وكان هذا التوقيت من بين الفروق التي اختلف بها الهجوم عما حدث في العدوان الثلاثي الذي تم في آخر ضوء، كما يُقال في التعبير العسكري.
ولم يعد سرّا أن طائرات “يو 2” الأمريكية التي ظلت تحلق فوق المنطقة ساعات وساعات طوال سنوات وسنوات وضعت أمام الكيان الصهيوني صورة كاملة لوضعية المطارات المصرية، وتمكنت، بجانب وسائل الاستطلاع الأخرى، من وضع جدول تفصيلي لتصرفات القوات المصرية، وقوات الطيران على وجه الخصوص، والذي كان يضم حتى مواعيد تناول الوجبات الغذائية.
وهنا نكتشف أهم معالم الإهمال الذي تتحمل القيادة العسكرية المصرية مسؤوليته الأولى، ولا بد هنا من تسجيل فشل جهاز الاستخبارات في القيام بمهمته الأساسية في معرفة أهداف العدوّ ومخططاته، خصوصا وأن وضعية التوتر لم تكن خافية على أحد.
وهكذا، وبرغم تحذير عبد الناصر يوم 2 يونيو من هجوم جوي يتم خلال 48 ساعة فإن القيادات العسكرية المسؤولة لم تدرك أن أهم ثغرات الأمن هي مواصلة الروتين اليومي الذي ألفته القوات المسلحة، وقوات الطيران على وجه التحديد.
وللتوضيح، ألاحظ بأن مسؤولا مُعرّضُا للاغتيال في جو تتكاثر فيه الشكوك وتغيب عنه المعلومات، عليه أن يتفادى الخروج من بيته بانتظام في ساعة معينة، وألا يتناول طعامه يوميا في نفس المكان والزمان، أو يركب دائما نفس السيارة التي عرف بأنه يستعملها وألا يسير موكبه دائما في نفس الطريق المعتاد…الخ.
وهكذا، كان الطيارون في المطارات العسكرية المصرية يتناولون إفطارهم صباح ذلك اليوم المشؤوم وكأن الجميع، قيادة وجندا، كانوا تحت تأثير مخدّر يُلغي الإرادة ويوقف التفكير ويشلّ الحركة (ولن أتوقف هنا عند ما قيل من أن الطيارين عاشوا الليلة السابقة حتى مطلع الفجر في سهرة غنائية لأني لا أملك تأكيدا لذلك).
أكثر من ذلك خطورة، كان ما رصده العدوّ من أن قوات الدفاع الجوي المصري تلقت تعليمات بتقييد إطلاق النار لأن “المشير” كان سيتوجه إلى منطقة “بير تمادا” صباح الخامس من يونيو، حيث سيتموقع في مركز قيادة استُحدث هناك.
وهكذا، وفي الوقت الذي كانت الميراج الإسرائيلية تتوجه لضرب المطارات المصرية كانت طائرة القائد العام للقوات المسلحة من طراز “إليوشن-“14 تطير في الجو وعلى متنها المشير وعدد هام من القيادات العسكرية بمن فيهم الفريق صدقي محمود القائد العام للطيران، بينما تَرَك عدد هام آخر مواقعهم القيادية ليتجمعوا في موقع تمادا استعدادا للترحيب بقائدهم العام.
وبدا وكأن هناك من يقول للطيران الإسرائيلي …تفضل إشرب شاي!!!.
ولقد كان مما قيل في تبرير ما قيل إنه كان مفاجأة لجوءُ الطائرات الإسرائيلية إلى الطيران المنخفض الذي لا تكتشفه أجهزة “الرادار”، وهو ما يكشف حجم التقصير الذي تتحمل القيادات العسكرية مسؤوليته، حيث كان على أي قيادة في ظروف الصراع أن تحاول الإطلاع على أهم التجارب التي عرفتها الحروب السابقة عبر العالم.
ومن تلك التجارب ما عاشته بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تم تجنيد مئات من المواطنين الذي لا يشملهم التجنيد الإجباري، وكلفوا بالمرابطة في مواقع مختلفة عبر التراب الوطني وكل منهم يحمل منظارا مكبرا، ومهمته الإبلاغ الهاتفي عن توجه أي طائرة من “اللوفتوافا”( Luftwaffe ) عبر المانش نحو الأراضي البريطانية بمجرد أن يراها، بل ويعطي عدد الطائرات المهاجمة إن أمكنه ذلك.
وأتذكر هنا أمرا طريفا يتعلق بالتستر على دور الرادار حتى لا تستهدفه طائرات “غورنغ”، وهو نشر إشاعات تقول بأن نجاح البريطانيين في اكتشاف الطائرات الألمانية عن بُعدٍ هو أنهم يكثرون من أكل الجزَر الذي يُقوّي النظر.
وكان أغرب ما حدث أن إشارة بإقلاع الطائرات الإسرائيلية صبيحة يوم الهجوم أُرسلتْ من موقع في “عجلون” تم الاتفاق عليه مع الأردنيين، ووصل التحذير فعلا إلى مقر القيادة الجوية المصرية في “الجيوشي” لكن الأمر لم يُؤخذ كما يجب.
ولست أدري ما إذا كنت قادرا على استكمال الحديث، ومن هنا أكتفي اليوم بالقول بكل أمانة أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر يتحمل المسؤولية الأولى عن المأساة لمجرد أنه المسؤول الأول عن الدولة، وربما أيضا لأنه لم يقم بتغيير القيادة العسكرية بعد 1956، وخصوصا بعد الانفصال السوري في 1961 والتعثر اليمني بعد 1962.
لكن هذا هو الجزء الأضعف في حقيقة ما حدث.
وهنا أقول لرموز التخاذل، ممن يبررون دياثتهم بادعاء إنهم تخلصوا من مرحلة الأوهام التي يزعمون أننا كنا نعيشها في الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات، أقول لهم إن التاريخ يثبت أن تلك الأيام كانت مرحلة الرجولة والشموخ التي جعلت العالم يرهف سمعه لكل همسة تصدر عنا ويتابع ببصره كل حركة نقوم بها ويسجل احترامه لقيادات لم تكن، كمعظم قيادات اليوم، ممن لا يستشارون وهم حضور ولا يتذكرهم أحد عند الغياب.
وهذا هو ما بدأ الجيل الصاعد يدركه، وما يجب أن نواصل التذكير به.
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق