محمد الخامري: اليمن تحت ضغوط الاستباحة وإكراه القيادة.

محمد الخامري
بينما تتعرض الجغرافيا اليمنية لحالة غير مسبوقة من التفكك والسيطرة المتعددة الجنسيات، وترزح صنعاء والمحافظات الشمالية تحت سيطرة الحوثيين، تلوذ الشرعية الرخوة وقياداتها المرتهنة بالصمت المطبق، وكأنها غريبة عن الوطن الذي يُنهش من أطرافه بلا هوادة، هذا الصمت الذي زاد عن عشر سنوات عجاف؛ لم يخلق فراغاً فحسب، بل أفسح المجال لقوىٰ إقليمية ودولية لتعزيز نفوذها، محولةً اليمن إلى ساحة صراع مفتوحة تتجاوز فيها المصالح الخارجية سيادة الدولة وكرامة المواطن.
في المهرة، تُنظَّم فعاليات عسكرية بواجهات محلية ورايات خارجية دون علم وزارة الدفاع ودون تنسيق مع مؤسسات الدولة، بل وبلا رموز الدولة وعلم الجمهورية، وتُستبدل بشعارات لاتمتّ للجمهورية اليمنية بصلة، في مشهد لايحتمل التأويل او التفسير بغير استباحة الوطن وانتهاك سيادته واستقلاله والعبث بأمنه وسكينته..
وفي سُقطرى، الأرخبيل السيادي، تُدار الأرض والبحر والجو من قِبل غير اليمنيين، بينما العلم اليمني غائب تماماً عن كل المشاريع والفعاليات التي تُقام هناك؛ في صورة موجعة لكل يمني لازال يحمل ذاكرة الوطن وملامحه.
أما في عدن، العاصمة المؤقتة للجمهورية اليمنية، فتُفرض أجندة انفصالية برعاية السلاح والشعارات والأعلام المغايرة للدولة وشرعيتها، في ظل غياب تام لرموز الدولة وعلم الوحدة، وتغييب ممنهج للهوية الوطنية، وتحويل المدينة إلى ساحة تنازع المصالح وصراع الاجندات، لا مركز قرار الدولة اليمنية..!!.
وفي حضرموت، يتحول مطار الريان وميناء الضبة إلى أدوات سيطرة خارجية، تُدار دون علم أو إذن من الحكومة، ويُنهب النفط اليمني في وضح النهار، بينما لايرى المواطن شيئاً من عائداته، ولايسمع من السلطة الشرعية لليمن سوى صدى الصمت المطبق، المتكئ على الاعاشة الشهرية والهبات الخاصة التي تصرف لقياداتها..!!
وفي شبوة، نشأت قوات محلية بتمويل خارجي، تُنسب نظرياً إلى الدولة، لكنها عملياً تأتمر بتوجيهات الممول لا قيادة الجيش، وتتعطل المنشآت النفطية أو تُدار بعيداً عن أجهزة الدولة، وتُحجب الأرقام، ويُعاقب السؤال والسائل ولامجيب.!!.
وفي تعز، التي أكلها الحصار وتكالبت عليها البنادق، تتقاسم الفصائل القرار وتُغيّب الدولة، بينما تتحكم بعض القوى بقراراتها الأمنية والعسكرية انطلاقاً من ارتباطات إقليمية واضحة، ويُمنع فتح الطرق رغم كل الوعود والهدن، وتُداس كرامة المواطن ويحرم من ابسط حقوقه في شربة ماء نظيفة، في صمت رسمي مخجل.
وفي أبين، تُعاد معارك الأمس بأسماء اليوم، صراع عبثي بين فصائل تموَّل خارجياً وتخوض حروب الوكالة فوق الجغرافيا الوطنية، وتُنشأ سجون لاتخضع للأمن والقضاء اليمني، وتُدار بعقلية الممول وادواته المحلية؛خارج القانون والوطن والاستقلال والسيادة.
لم يعد الأمر مقتصراً على تفكك الجغرافيا، بل امتد ليضرب نسيج المجتمع اليمني في عمقه، ويُحْدِث فجوة عميقة بين الدولة والمواطن، فبينما تُستباح السيادة وتُهدر الموارد وتُنهب الثروات، يعيش ملايين اليمنيين تحت خط الفقر، ويفتقرون لأبسط مقومات الحياة الكريمة، في ظل غياب تام للخدمات الأساسية وتدهور مريع للوضع الإنساني.
في أحد أسواق تعز، قال رجل مسن وهو يقايض الخبز ببعض المصاميص (كل شيء في حياتنا مسروق.. حتى الجوع والفقر والهوان) هذا المشهد المأساوي هو الثمن الباهظ لغياب الدولة ورجالها ومؤسساتها، ولتحولها إلى مجرد أدوات في أيدي الخارج، بينما يُترك الشعب وحيداً يواجه مصيره المجهول، بلا دولة ولا رجال..!!.
وسط كل ذلك، تواصل “القيادة الشرعية” سباتها العميق، مكتفية بامتيازات الإقامة في افخر الفنادق والقصور، واستلام الاعاشات الرواتب والهبات، والتمتع بالحراسات والسيارات والسفر بالطائرات، وإصدار البيانات البروتوكولية، دون أن يجرؤ احدهم على إصدار موقف وطني واحد يليق بحجم الخطر، أو يحفظ ماتبقىٰ من كرامة السيادة التي سحقت، والاستقلال الذي أهين في عهدهم..
لقد تحولت أدوات الدولة إلى أدوات تنفيذية لمشاريع الممولين لا لمشروع الدولة الوطنية، وأصبح القرار اليمني مرهون بإرادة الخارج، بينما الشعب يُترك وحيداً يواجه التمزق والتفتيت، والفقر التجويع، والتيه السياسي.
اليمن ليست تركة يتقاسمها الطامعون، ولا مزرعة يسوّقها المرتزقة في سوق المصالح.. إنها وطنٌ عريق، لن يموت، ولن يُمحى، مهما تكالبت عليه الأيدي، أو تواطأ عليه الصامتون، لكن الصراخ وحده لايكفي، فهل آن للأصوات الحرة أن تتوحد، وللعقول الوطنية أن تتحرر من وصاية الخارج، وهل آن لهذا الشعب أن يعيد الإمساك بخيوط مستقبله، ويصوغ مشروعه الوطني بعيداً عن حسابات الممولين وخرائط الوصاية.. ؟!!
إن استعادة السيادة لاتكون بالشعارات وترديد الأماني السرية، بل بالوعي الجمعي، وتكاتف الأحرار، ووحدة الصف، ونبذ الخلافات، والعمل الجاد لإعادة بناء مؤسسات الدولة وتفعيلها لخدمة المواطن، فالحرية والسيادة لاتُوهب.. بل تُنتزع بإرادة الأحرار وتكاتف الشعوب.
كاتب يمني