صباح بشير: روابط الروح واللغة.. مفتاح الأدب

صباح بشير
ذات مرّة، قرأت مقولة بليغة مفادها: إنّ قيمة أيّ عمل تكمن في وشائج العلاقة الّتي تنمو وتزهر بين اللّغة والتّجربة الشّعوريّة، وإنّ الفروقات الدّقيقة الّتي تتخلّق عن هذا التّآلف، هي بذاتها ما تصوغ التّفاوت الجليّ بين الأدباء، وبين نتاجاتهم الأدبيّة الخالدة أو الزائلة، وهذا القول، هو قول صدق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فكم من حروف خطّها قلم، ظنّها صاحبها آيات بيّنات، وما هي إلا رماد تتطاير به الرّياح، لأنّها جرّدت من روح التّجربة الشّعوريّة الصّادقة، ولم تسقَ بماء اللّغة الحيّة الّتي تتنفّس وتنبض بالحياة، وكم من كلمات قليلة، تركت في النّفوس أثرا عميقا، لأنّها انسجمت مع نبض القلب، فكانت كالنّهر الجاري يروي ظمأ الرّوح، أو كالبدر السّاطع يهدي الحائر في الظّلمات.
إنّ الكاتب الحقيقيّ هو من يملك مفتاح هذه العلاقة السّرّيّة، يغوص في أعماق ذاته ويستخرج لآلئ التّجربة الإنسانيّة، ثمّ يشكّلها في قوالب لغويّة بديعة، تتراقص فيها الحروف كالنّغم، وتتجلّى فيها المعاني كالبدر في ليلة تمامه. هو من لا يخشى أن يكشف عن جراحاته وأن يبوح بأسراره، وأن يمزج دمعته أو فرحته بمداده؛ ليصنع عملا أدبيّا حقيقيّا، يصدح بالحياة ويضيء دروب الأجيال.
إنّه ذلك الّذي يحوّل الأنين إلى لحن، والشّوق إلى قصيدة، والانتظار إلى حكاية؛ لتغدو سطوره جسورا من نور بين القلوب والعقول، فتخلّد ذكرى صاحبها، وتبقى شهادة على عظمة الكلمة الصّادقة، إذا ما عانقت الرّوح الملهمة. وليس عجيبا أن نرى نصوصا كتبت بمداد الوجع، أو بريشة الأمل، أو بأنامل الشّوق، فكيف تبقى عصيّة على الزّوال، تحاكي أرواحا عبر الأزمان، كأنّها كتبت لتوّها في لحظة الآن؟
في الحقيقة، هي لم تكن رصفا لحروف جوفاء، بل كانت نبضا من حياة، وهمسا من روح، وصوتا يتردّد في صميم الوجود.
إنّها تلك الرّوح الكامنة في طيّات الحرف، وتلك المصداقيّة النّابعة من حوافّ القلب، هي من يمنح العمل الأدبيّ قوة لا تقهر، وبهاء لا يخبو، وخلودا يتجاوز الفناء؛ ليصبح الأديب رسولا للجمال برسالته، وفنّانا يخطّ على صحائف الوجود لوحات أبديّة من الفكر والشّعور، شاهدا على عصره، ومنيرا دروب الأجيال بعمق بصيرته، فيظلّ صوته يتردّد عبر الأزمان، حاملا معه إرثا من الحقيقة والجمال، لا يمحوه تقادم الأيّام.
نعم، إنّ الزّمان يمضي حثيثا، ويلهث الإنسان خلف سراب لحظة عابرة، ما تلبث أن تذوي، تاركة خلفها عجزا موجعا عن استبقائها، وكما قيل في حكمة بالغة: “إنّ أوهن الحبر لأقدر على البقاء من أقوى ذاكرة”.
من هنا، لا يجد الكاتب حصنا من جبروت الفناء وزوال اللّحظات إلّا في حبره المسفوك على بياض الورق.
هكذا، يصارع الزّمن، ويخلّد اللّحظة؛ يصوغ بكلماته ما اختلج في أعماقه من تأمّلات وأحاسيس، ويبثّ بين السّطور ما أشرق في دواخله من أفكار وجدانيّات، فإن كان ما خطّه أصيلا، بقيت روح اللّحظة فيه حيّة نابضة، لا يطويها النّسيان، ولا يذيبها مرور الأيّام.
بهذا، ينهض الكاتب منتصرا على حتميّة الزّوال، مسجّلا للوجود خلودا سرمديّا عبر ما نَزَفه قلمه من إلهام، يشعل به قناديل الفكر في دروب الظّلام، ويهمس للحياة بلسان لا يعييه مرّ الأعوام.