د. خالد زغريت: جيلٌ مهدد لا يُحييه إلا الشعر “نم يا ولدي، فإن عيون التاريخ عمياء في أيامنا”

د. خالد زغريت: جيلٌ مهدد لا يُحييه إلا الشعر “نم يا ولدي، فإن عيون التاريخ عمياء في أيامنا”

 

 

د. خالد زغريت
ليتني اعتبرتُ بابن الرومي  وعدتُ ولم أمر. المشهد ذاته تكرر معي،  رأيت ضلع شباك بيتنا الأعلى منزوعاً وتحته نوى التمر  . أما ابن الرومي ففسر ذلك بـ ” لا تمر” وأقفل راجعاً، أما أنا ففسرت ذلك أن الريح خلعت ضلع مربع السياسية عفواً الشباك، و أما نوى التمر، فكان من عادة ستي خدوج  أن تنزع نوى التمر اقتداء بالصديق  و تهدي التمر لزوجة المختار، لكي لا تقول لها : كان صاحبك يأتيني بالتمر منزوع النوى. في الحقيقة زوجة المختار شابة دلوعة، وليس عجوزاً . و كانت مولعة بأحدث الموضات، و عمليات التجميل ،حيث كانت تنهال عليها الهدايا لأنها صديقة رئيس مفرزة الأمن العسكر أيام المخلوع، لكن بعد التحرير أحبّت أن تتشبّه بالصحابيات، و صارت تفكر بأن تعيد سيرة رابعة العدوية.
المشكلة أنني سمعت صراخ ستي على حفيدها، وهو يبكي، ويستجير بأم أحد الوزراء. دخلت، وجدتها تحمل في يمينها ” شحاطة ” علامة التربية العربية القومية، وبيسارها ” المكنسة” أداة البراء و الولاء. و كان الحفيد يشهق بالدمع،   ومحمر اليدين والأذنين و الوجنتين لكثرة ما لطمته ستي لطماً لا حسينياً ولا برمكياً.
وكان من تقاليد بيتنا القومية ألا ننبس ببنت شفة، إذا ما كان قائد معركة التربية بالمكنسة والشحاطة ستي، وكان  حفيدها يعذرني لمعرفته بهذه التقاليد، لكن ألمه لم يسامح عجزي. فكان يرسل نظرات استغاثة، لعلي أستثير حلم الأحنف عندها، لكني طرفة لم يستيقظ فيّ فلم يكن كري ” كسيد الغضا نبهته المتورد. و لم يلبث الحفيد أن استسلم لوقر في أذن المعتصم فيّ.
تابعت المشهد التربوي التعليمي بصمت.  ومن غير أن أفهم شيئاً، سمعت ستي تصرخ :  يا مقصوف الرقبة إياك أن تسوّد وجهنا إذا قابلك الوزير وسألك ماذا تحفظ لأبي العلاء المعري، قل لي : ماذا تقول.  تنهد الطفل وخنقته العبرة وقال: “ولما رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشياً      تجاهلْتُ حتى ظُنَّ أنّيَ جاهلُ”
سألت نفسي، أم هي سألتني، لا أدري لشدة خوفي، تُرى مَن دمّر تمثال أبي العلاء ، وداس رأسه، وددت تدمير  رأسي ليسكت. وتذكرت أن الجيل الذي لم يحفظ شعر أبي العلاء مدمر، ورددت ” إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِقُوهَا” .
تابعت المشهد. قالت ستي للحفيد : برافو.. طيب.  وإذا قابلك المحافظ ، وسألك ماذا تحفظ  من البردة، ماذا تقول. تلكأ الطفل  وتأتأ قائلاً: يا أول الخلق. ولم يدر المسكين كيف يحمي وجنتيه من الكف أم من الشحاطة أم من المكنسة، هو يبكي ويتوسل، وهي تقول: سيذبحونك، ولن تبقى المصيبة سواد وجهنا، بل ستجلب تهمة التكفير.  ردد خلفي:” يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك “
تذكرت، وأنا أسمع هذا البيت أن مِن الفقهاء مَن اتخذ  هذا البيت دليلاً على شرك البوصيري، إنما الخوف من شحاطة ستي جعلتني أبلعها. وتابعت ستي، طيب لو قابلك  أمين الفرع  وسألك ماذا تحفظ  من شعر العرب الأقحاح.
أسرع الطفل، وقد شغله اسم أمين الفرع، ولم ينتبه لغيره، فقال مغروراً بحفظه: للبعث يا طلائع للنصر يا طلائع. وجنّ جنون ستي.  وانهالت بكل أسلحة الهجوم ضرباً وقصفاً، وهي تصرخ يا كلب هذا كنت تقوله بعهد البعث البائد، وكان الصغير يبكي و يتوسل ويقول والله هذا ما حفظونا إياه في المدرسة، هنا  استجمعت شجاعتي، وقلت لستي: أمين الفرع ولى مع النظام البائد، ولم تعد هذه المسؤولية في النظام الجديد. قالت باندهاش طيب ما اسم المسؤول الكبير في المدينة قلت لها رئيس المكتب السياسي، قالت: كله عند العرب صابون. طبعاً انقطع قلبي من الخوف، قلت: ياستي والله للحيطان آذان، أنت تشبهين  الـ… بالـــ، والله يجلدونك… هزت برأسها  غير مبالية، وقالت: استشهد من أقربائي أكثر من عدد شعرات أكبر لحية. صمت خوفاً على خوف.
أما هي فعادت إلى تربية  حفيدها، وقالت له: ردد بعدي:
يا أيها الباكي على شاته      يـبـكـي جـهـاراً غـير إسرار
إن الرزيــئات وأمــثـالهـا     مـا لقـي الحارث في الدار
دعـا بـنـي مـعـن وأشـياعهم  فــكــلهــم يـعـدو بـمـحـفـار
وتابعت، قل له: – بالتأكيد الهاء عائدة إلى رئيس المكتب السياسي، وليس لأمين الفرع، أو لهاء السكت في فمي- وأنت سوري مرّ. إن  هذه الأبيات  يا رفيقنا الشيخ للشاعر العربي القح  الحارث بن حبيب بن كعب الباهلي. وتابعت:  ولكي تكبر  في عينه قل له: يُحكى  يا مولانا أن هذا الشاعر  حلب لأولاده في وعاء،  فمجت فيها أفعى من غير أن يراها، فبعث بها إليهم، فشربوها فماتوا جميعاً. أما مناسبة هذه الأبيات فيحكى أن الشاعر رأى رجلاً يبكي على شاة له أكلها الذئب، فأعطاه ناقة، وقال له: دع البكاء لأهله، ثم أنشد الأبيات.
خرجت منهزماً وأدركت أني بعد رحيل العمر كنت أطارد خيط دخان. حاولت محاورة نفسي، وقلت ألا تذكرين يا ستي أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يردد بيت شعر، إلا وكسر، وزنه أو غيّر في كلماته وترتيبه، أنا أحكي بالمنطق الذي حذف أبيات الشعر من المنهاج بذريعة مخالفة الدين، ألم يقل القرآن الكريم :(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات.). وأن الاستثناء ليس إباحة الشعر، بل إلزام الشعر  بخلق الإسلام والإيمان، وأصدق من بيّن حقيقة الشعراء ، وأن الاستثناء فيه مقطوع لا مرسل، قول  الأصمعىّ: الشعر نكد بابه الشرّ، فإذا دخل في الخير ضعف ولان.
ولايشك عاقل أن أكثر الشعراء في أرواحهم أبواب لا باب للشر، والتاريخ يحكي عن أخلاقهم، وتلك سجية الشعراء، خيال وهيام ومبالغة، وما جميل الشعر وأعذبه إلا أكذبه ،الشعر فن الكذب.
سألت نفسي وسألت، أي محك صدق لمثل اختبار يستنتج أن  الجيل مدمر،  لأنه لا يحفظ بيت شعر للمعري ، ولم يكن الاختبار في تقنيات العصر وعلومها ، يبدو أن الفيزياء علم بابه الشيطان لأن رنين الأواني المستطرق من عزف إبليس، وقيمة آنشتاين لا تساوي متليكاً لأنه لا يحفظ بيتاً للمعري، وقلت لنفسي: الآن عرفت لماذا لم نصنع سفناً فضائية واكتفينا بسفينة الصحراء، لأن سفينة الفضاء لا تسير بالحداء…  وبالشعر  نعمرها.  نعم جيل مدمر ولا يُعمَّر إلا بالشعر ، كنا العرب ولم نزل ، لنا الصدر دون العالمين أو القبر، نحن مَن صنع أبجدية العالم ، وحقنا أن نصنع تربيته بالشحاطة والمكنسة والشعر. وإنّ ، وإنّ لا كأنّ  سفن الفضاء و التكنولوجيا والطب النووي وووو والجولات وو وو. هي من علوم لعاعة الدنيا  ومَن  دنياهم الغرور ياصاحبي، نم عيون التاريخ حولاء في أيامنا