حسن لمين: المفتاح النهائي

حسن لمين: المفتاح النهائي

حسن لمين

كانت سعاد تجرّ قدميها على درج العمارة، تحمل حقيبتها بيد، ووجع النهار في اليد الأخرى. لا تزال رائحة المطهرات والموت ترافقها من المستشفى، حيث تعمل ممرضة منذ عشرين عامًا. لم تكن تتوقع أن ما ينتظرها خلف باب شقتها في الطابق الرابع سيكون أقسى مما رأته طوال مسيرتها.
أدخلت المفتاح، أدارت المقبض، ودخلت.
“مصطفى؟” نادت، ولم يجبها سوى صمت كثيف يشبه سكون ما قبل الزلزال.
خطت خطوات قليلة إلى الداخل، وإذا بها تتجمد.
زوجها ممدد على الأرض في غرفة الجلوس، وجهه إلى السقف، وعيناه نصف مفتوحتين، وقميصه الأبيض غارق في الدماء.
صرخت.
لم تكن صرخة امرأة فقدت زوجها، بل كانت صرخة روح خرجت من جسدها في لحظة، ثم عادت ترتجف.
اتصلت بالشرطة، وهي تحاول ألا تنظر إلى الجثة، ولا أن تصدّق أن البيت الذي بنياه بحب، تحوّل في لحظة إلى مسرح جريمة.
وصلت الشرطة خلال عشر دقائق. الملازم هشام كان أول من دخل. رجل في الأربعينات، حاد النظرات، يحفظ وجوه الجناة مثلما يحفظ سور القرآن. طلب من سعاد الجلوس في المطبخ، ثم بدأ فريقه في رفع البصمات وتفتيش المكان.
لا آثار اقتحام.
لا بصمات غريبة.
باب الشقة مغلق من الداخل، ومفتاحه لا يزال في جيب سعاد.
“هل كنتِ وحدكِ منذ الصباح؟” سألها هشام، بعد أن ناولها كوب ماء.
“كنت في المستشفى… يمكنكم الاتصال برئيسة القسم… لقد خرجت في السابعة صباحاً…”
“هل كان بينكما خلافات؟”
“كل الأزواج يختلفون، لكننا لم نصل يوماً لهذا المستوى…”
بدت له صادقة. أو مرهقة إلى درجة لا تستطيع الكذب.
قال أحد المحققين من الداخل: “وجدنا سكيناً في صدر الضحية… من مطبخ الشقة…”
همس هشام: “إما أن القاتل استعمل سلاح الجريمة من هنا، أو…”
نظر إلى سعاد، ولم يكمل.
بقي سؤال واحد يؤرق المحقق هشام: من دخل الشقة دون أن يترك أثراً؟ ومن خرج دون أن يفتح الباب؟
أمر بتفتيش دقيق للمنزل. وجدوا مفتاحًا غريبًا في درج بنطال الضحية. صغير الحجم، نحاسي، لا يشبه مفاتيح الأبواب أو الخزائن العادية.
سعاد لم تره من قبل. قالت: “مصطفى لا يحمل إلا مفاتيح البيت والسيارة… هذا جديد عليّ.”
جاء تقرير الطبيب الشرعي في اليوم التالي: الوفاة حدثت قرابة الساعة 5:30 مساءً. طعنة واحدة في القلب. القاتل محترف، أو محظوظ.
وعثر فريق التفتيش على صندوق صغير مغلق بقفل في غرفة التخزين. جُرّب المفتاح النحاسي، ففتح الصندوق.
في داخله:

صور حوالات مالية باسم “يونس الإدريسي”، وهو اسم لا علاقة له بمصطفى.

وثائق تحويلات إلى حساب خارجي في سويسرا.

رسالة مكتوبة بخط يد أنثوي:
“أنت تعرف ما ينتظرك إن لم تفعل ما طلبته. المفتاح الأخير سيقودك إلى خلاصك… أو نهايتك.”

من هي صاحبة الرسالة؟ ولماذا “المفتاح الأخير”؟
بدأ هشام تحقيقًا سريًا مع الشركة التي يعمل بها مصطفى. اتضح أنه كان محاسبًا موثوقًا، لكنه قبل شهور بدأ يتغير، وأصبح كثير الغياب، ويتعامل مع ملفات معينة وحده.
أحد الموظفين ذكر اسم “نسرين”، زميلته في الجامعة سابقًا، والتي عادت للعمل مؤخرًا بالشركة.
عُثر على رقمها، واستُدعيت.
جميلة، واثقة، وعيناها لا تهربان من نظرات المحقق.
“نسرين… ما نوع علاقتك بمصطفى؟”
ابتسمت بثقة: “كنا زملاء قدامى. لا شيء أكثر.”
“وهل لديك علم بأي حسابات باسمه المستعار؟”
“لا.”
لكن هشام واجهها بنسخة من رسالتها المكتوبة بخط يدها. عندها، تغير لون وجهها.
“من الأفضل أن تعترفي.”
انهارت بعد ساعات.
“لم أكن أريد قتله… أقسم… كنت أريد فقط أن يخاف… أن يعود إلي… كنا عاشقين في الجامعة، لكنه اختار غيري. حين عاد يتواصل معي، أوهمني بأنه نادم… ثم تراجع. وعندما هددته بفضح سرّه، واجهني، ودفعني. كنا نتعارك، والسكين كانت في يدي… لم أقصد طعنه.”
أُقفلت القضية.
نسرين أُحيلت إلى السجن بتهمة القتل غير العمد، مع تهم الاحتيال المالي.
أما سعاد، فبقيت في بيت أصبح فارغًا من كل شيء إلا الأسئلة.
لم تندب، لم تصرخ، لم تزر القبر. جلست كثيرًا في غرفة التخزين، حيث الصندوق والمفتاح. تأمّلت الرسالة طويلاً، وفكرت:
هل كان مصطفى ضحية امرأة؟ أم طمعًا؟ أم هو من بدأ اللعبة ثم خسرها؟
في إحدى الليالي، أخرجت المفتاح الأخير، وعلّقته على حائط غرفتها.
لا لتتذكر الجريمة.
بل لتتذكر أن الثقة وحدها لا تكفي. وأن كل باب يُفتح، قد يقود إلى سرداب لا رجعة منه.