د. غسان شحرور: تزايد تأثير “دون كيشوت” في الإعلام الاجتماعي العربي

د. غسان شحرور: تزايد تأثير “دون كيشوت” في الإعلام الاجتماعي العربي

 

د. غسان شحرور

مقدمة تمهيدية:
قبل سنوات، تناولتُ في مقالٍ نُشر في عدد من المجلات والمواقع العربية، ظاهرة البطل الرقمي في الإعلام الاجتماعي تحت عنوان: “الإعلام الاجتماعي… أم عالم دون كيشوت؟”، في محاولة لقراءة ما يحدث من تحولات في الخطاب والسلوك الرقمي.
واليوم، وقد تعاظم حضور هذه الظاهرة، بتعقيداتها وانتشارها، أجدني أعود إليها من جديد، بعدما تصاعد دور “دون كيشوت” في فضائنا الإعلامي والاجتماعي، حتى غدا مشهدًا مألوفًا، وربما مقلقًا، يستدعي التأمل والنقد.

الوهم الرقمي: “دون كيشوت” يعود بقوة

من منّا لا يعرف القصة الشهيرة “دون كيشوت” التي أبدعها ميغيل دي ثربانتس عام 1605؟ إنها من أعظم الأعمال الأدبية في التاريخ، بطلها فارس واهم يرى في نفسه بطلًا مغوارًا رغم ضعفه الجسدي وواقعه البائس. يمتطي حصانًا هزيلًا، ويرتدي خوذة متهالكة، وينطلق إلى معارك خيالية ضد “شياطين” لا وجود لها إلا في خياله، وكأن العالم كله مسرح لبطولاته.

وإلى جانبه، سانشو، تابعه البسيط، على صهوة حماره، الذي لا يكتفي بتصديق أوهامه الفارس، بل يمتدحها ويضفي عليها طابعًا من البطولة والصدق، حتى يُصبح الوهم مقنعًا بفعل التفاعل، لا الحقيقة.

اليوم، في فضائنا الاجتماعي العربي، يتكرر المشهد: “فرسان” يتجولون على صفحات التواصل الاجتماعي، يخوضون معاركهم الافتراضية، ويجدون من يصفّق لهم ويؤمن ببطولاتهم… فهل اختلف شيء حقًا؟

فارس الشاشة على مسرح الوهم

يكفي أن تقوم بجولة سريعة على “فيسبوك” أو غيره من المنصات، لتفاجأ بأن كثيرًا ممن نعرفهم في الواقع قد تحولوا — بقدرة شاشة — إلى حكماء في الرأي، فقهاء في الدين والسياسة، خبراء في العلاقات، حراس الوطن والمواطن، أدباء مرهفين، وفلاسفة لا يُشق لهم غبار.

ينشرون صورًا مصحوبة بعبارات “عميقة”، وآيات منتقاة، وأحاديث مأثورة، وسِيَرًا ملهمة، يتحدثون باسم المظلومين، ويدافعون عن القضايا الكبرى، ويتصدّون للفساد — كل ذلك من خلف الشاشة، وبضغطة زر!

لكن السؤال البسيط: هل هذه “الفروسية الرقمية” حقيقية؟ أم أنها مجرد قناع جديد للوهم، لإشباع الذات، في عالم محبط، تغذّيه الرغبة في الظهور والترويج والتسويق، أو الحاجة لأن نكون “أبطالًا” ولو على جدار افتراضي؟

تمامًا كما قاتل “دون كيشوت” طواحين الهواء، يخوض البعض اليوم معارك ضد خصوم من خيالهم، ويخرجون منها منتصرين أمام جمهور لا يملك إلا زر الإعجاب.

“سانشو” المعاصر: جمهور الإعجاب الفوري والتفاعل التلقائي

لكن هذه البطولات لا تكتمل دون “سانشو” المعاصر — النسخة الرقمية من التابع المخلص. هو من يعلّق فورًا:

“منوّر”، “كلام من ذهب”، “الله عليك”، “ملك”، “يسعدلي أوقاتك”، “ما شاء الله”، “أبدعت”، “أحسنت ودمت”، وغير ذلك.

لا يهمّ المحتوى. المهم هو الدور في اللعبة التفاعلية: أن نُصفّق اليوم، ليُصفَّق لنا غدًا. أن نكون “سانشو” الآن، ليمنحنا غيرنا درع الفارس لاحقًا.
فكم مرة لعبنا هذا الدور — دون أن ندري؟

لعبة الأدوار واللا محتوى

الأمر لا يقتصر على الصور والمنشورات. حين يُبدي شخص ما رأيًا سياسيًا أو دينيًا، تجد حوله “السانشوهات” — جمع سانشو — يحلّقون، يهاجمون من يعارضه، ويدافعون عنه بإخلاص — دون مساءلة أو مراجعة:

هل هذا الرأي منطقي؟
هل تغيّر عن الأمس؟
هل يستحق فعلًا هذا التهليل والتصفيق؟

هنا نواجه نمطًا من التفاعل المبرمج، لا يُنتج معرفة، ولا يبني ثقافة منتجة، بل ولا يشجّع على التفكير، والتقدم بفعل يواجه التحديات المختلفة،  بل وللأسف، يرسّخ ثقافة التكرار والتبجيل وصناعة الوهم.
الكل يريد أن يكون فارسًا… ولو من خيال!. ما أحوجنا إلى دراسة هذه الظاهرة، وبناء مرصد رقمي للوصول إلى التقييم والتوصيات لمعالجة ذلك.

بين الوهم والحقيقة… متى نصحو؟

هكذا يمضي كثير من إعلامنا الاجتماعي بين فارس يحارب طواحين الوهم، وجمهور من “سانشو” يصفّق له كلما تحرك أو تكلم، توجه إلى هنا أو هناك، وكلما رفع سيفه في الهواء.

ليست المشكلة في الحلم أو الطموح أو التعبير عن الذات — بل في مدى صدق هذا التعبير، وفي إدراكنا لموقعنا الحقيقي من هذا المسرح الرقمي.

هل نملك الشجاعة لنقف أمام مرآة رقمية ونسأل:
هل أنا حقًا ما أُظهره؟ وهل أسهم بأي شكل من الأشكال في بناء الفرد والأسرة والمجتمع، وهل التفاعل من حولي حقيقي… أم تمثيل صامت في مسرحية بلا جمهور؟

ربما نحتاج إلى لحظة صدق رقمية، نصغي فيها لا لصدى اللايكات والتعليقات… بل لصوت الذات.

فمتى نختار أن نكون حقيقيين… لا فرسانًا من وهم؟
————-