الأستاذ خالد الضيف شبلي: توضيح قانوني حول الحصار البحري على قطاع غزة لمواجهة التضليل الإسرائيلي

الأستاذ خالد الضيف شبلي
“إن دفاع اللص عن مسروقاته ليس دفاعًا عن النفس،كما يصف ذلك الدكتور تميم البرغوثي، بل هو تأكيد على الجريمة، وأي صمت على ذلك هو تواطؤ لا قانوني ولا إنساني يجب أن يتوقف.”
في سياق العدوان المستمر الذي تمارسه سلطات الاحتلال الصهيوني ضد قطاع غزة، صرّحت وزارة خارجية الكيان الإسرائيلي بتاريخ 8 جوان 2025 بأن “المنطقة البحرية قبالة غزة مغلقة أمام السفن غير المرخصة بموجب حصار بحري قانوني”، هذا التصريح، الذي يبدو للوهلة الأولى مستندًا إلى خطاب تضليلي، يخفي وراءه انتهاكًا ممنهجًا وجسيماً لمبادئ القانون الدولي العام، والقانون الدولي الإنساني، وحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الغذاء والصحة والتنقل والكرامة الإنسانية.
لدا نُقدم هذا التوضيح القانوني للرد على المزاعم التي تنطوي على مغالطات خطيرة تمس جوهر القانون الدولي، وتُشرعن ممارسة محظورة دوليًا، هي في حقيقتها شكل من أشكال العقاب الجماعي وانتهاك صارخ لحقوق المدنيين ولأحكام القانون الدولي الإنساني.
إن هذا المقال يسعى إلى تفكيك هذا الادعاء، من خلال تحليل الإطار القانوني الذي ينظم الحصار البحري زمن النزاع المسلح، ومدى قابلية تطبيقه في الحالة الفلسطينية، خصوصًا مع استمرار الاحتلال الصهيوني لقطاع غزة برًا وبحرًا وجوًا، وتوصيف الحصار المفروض عليه باعتباره عملًا عدائيًا يرقى إلى مستوى جرائم الحرب والعدوان.
أولًا: في شرعية الحصار البحري …السياق القانوني الدولي
إن القانون الدولي، بما فيه اتفاقيات لاهاي 1907 واتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية، فضلًا عن قواعد دليل سان ريمو بشأن القانون الدولي المطبق في النزاعات المسلحة في البحار (1994)، يضع شروطًا دقيقة لشرعية أي حصار بحري أثناء النزاعات المسلحة، نتطرق إلى مفهوم الحصار البحري في القانون الدولي الإنساني، وشروطه فما يلي:
مفهوم الحصار البحري في القانون الدولي الإنساني: الحصار البحري هو إجراء حربي تستخدمه الدول في إطار نزاعات مسلحة دولية لحظر مرور السفن في منطقة محددة من البحر، بهدف عرقلة الإمداد العسكري للعدو، ولئن كان هذا التدبير معترفًا به ضمن قواعد الحرب،
إلا أن مشروعيته مقيّدة بشروط صارمة نصت عليها:
-القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني؛
-اتفاقية لاهاي لعام 1907 (خاصة بإعلان الحصار)؛
-دليل سان ريمو حول القانون الدولي المطبق على النزاعات البحرية المسلحة (1994)؛
3- وتتضمن هذه الشروط:
أن يكون الحصار جزءًا من نزاع مسلح دولي قائم.
أن يُعلن بشكل رسمي ويُخطر به الأطراف والمنظمات الدولية المعنية.
أن يكون متناسبًا مع الهدف العسكري المشروع.
أن لا يستهدف المدنيين أو يؤدي إلى تجويعهم، أو يمنع عنهم المواد الأساسية اللازمة للبقاء.
أن يلتزم بمبدأ التناسب وحظر العقوبات الجماعية كما نصت عليه اتفاقية جنيف الرابعة.
أن يتيح مرور المساعدات الإنسانية دون عرقلة، وفق ما أكده البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.
إن أي إخلال بهذه الشروط يُسقط عن الحصار صفته القانونية ويحوّله إلى عمل غير مشروع بموجب القانون الدولي.
الرد: قطاع غزة ليس طرفًا في نزاع مسلح دولي بالمعنى التقني للقانون، بل هو إقليم محتل؛ وبما أن الكيان الإسرائيلي هي القوة القائمة بالاحتلال، فإنها مُلزمة بضمان حياة وكرامة المدنيين، لا بمحاصرتهم.
الادعاء بالدفاع عن النفس في هذا السياق باطل قانونًا. إذ لا يمكن للدولة المحتلة أن تستند إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لتبرير إجراءات قمعية ضد أرض وشعب تحتلّه، لأنها ليست في موضع دفاع، بل في موضع عدوان مستمر.
ثانيًا: مدى قابلية تطبيق مبررات الحصار على الحالة في غزة
يزعم الاحتلال الصهيوني أن الحصار البحري المفروض على غزة يندرج ضمن حق الدفاع عن النفس الذي يقره ميثاق الأمم المتحدة في مادته 51، إلا أن هذا التبرير يفتقر إلى المشروعية كما سبق بيانه، وللأسباب التالية:
-إن الكيان الإسرائيلي تُعد قوة قائمة بالاحتلال لقطاع غزة، نظرًا لاستمرار سيطرتها على الحدود، والمجال الجوي، والبحر الإقليمي، مما يجعلها ملزمة، وفق اتفاقيات جنيف، بحماية السكان المدنيين، لا محاصرتهم.
لا يجوز للدولة القائمة بالاحتلال التذرع بحق الدفاع الشرعي ضد إقليم تحتلّه، لأن الاحتلال ذاته ينفي وجود تهديد أجنبي خارجي.
المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تطبَّق فقط في حالات العدوان المسلح من طرف دولة ذات سيادة، وهو ما لا ينطبق على الكيان الفلسطيني الحالي.
ومن ثم، فإن استخدام الصهاينة للحصار كوسيلة “دفاعية” يفتقد إلى الأساس القانوني السليم، ويشكل انحرافًا في استخدام الحق وفقًا للمعايير الدولية.
ثالثًا: أثر الحصار البحري على السكان المدنيين وجريمته بموجب القانون الدولي
إن المعلومات الموثقة الصادرة عن وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية تشير إلى أن الحصار البحري المفروض على غزة:
يمنع دخول السلع الأساسية، بما فيها الغذاء والدواء والوقود.
يقيّد عمل الصيادين الفلسطينيين ويحرمهم من سبل العيش.
يعطّل وصول المساعدات الإنسانية عبر البحر.
يفاقم الأزمة الصحية والبيئية والاقتصادية في قطاع مكتظ سكانيًا ومحاصر من جميع الجهات.
وبذلك، فإن الحصار يتحول من وسيلة عسكرية إلى وسيلة تجويع جماعي ترقى إلى:
جريمة حرب وفق المادة 8/2/ب/25 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تحظر “تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب”.
خرق للمادتين 54 و70 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، اللتين تحظران تدمير سبل المعيشة أو منع الإغاثة.
وبالتالي، فإن الحصار لا يُعدّ فقط غير قانوني، بل يشكّل فعلًا مجرمًا دوليًا، يمكن مساءلة مرتكبيه أمام القضاء الجنائي الدولي.
ثانيًا: غياب أي تفويض أممي للحصار..هل منح مجلس الأمن الشرعية لهذا الحصار؟
الإجابة قاطعة: لا.
لم يصدر أي قرار من مجلس الأمن، سواء بموجب الفصل السابع أو أي أساس قانوني آخر، يجيز للكيان الإسرائيلي فرض حصار بحري على غزة أو إغلاق مياهها البحرية.
بالتالي، فإن ما يجري لا يُغطى بأي شرعية دولية، بل يشكل خرقًا لتعريف العدوان كما أقرّه قرار الجمعية العامة رقم 3314 (1974)، وخاصة في فقرته المتعلقة باستخدام الحصار البحري كأداة لإخضاع طرف آخر دون سند دولي.
يفتقر الكيان الغاصب إلى أي سند قانوني صادر عن مجلس الأمن الدولي يُجيز فرض الحصار على غزة؛ بل على العكس، دعت عدة قرارات صادرة عن الجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان إلى رفع الحصار فورًا، واعتبرت استمراره خرقًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني.
ثالثًا: هل يشكل الحصار البحري عدوانًا على دول ثالثة؟
نعم، من المنظور القانوني البحت:
اعتراض أو منع السفن المدنية الراسية تحت أعلام دول أخرى في المياه الدولية، أو داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لغزة، يُعد انتهاكًا لحرية الملاحة المكفولة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) لعام 1982.
وقد أكدت المحكمة الدائمة للعدل الدولي، في قضية مضيق كورفو (1949)، أن حرية الملاحة في البحار الدولية مبدأ ثابت لا يجوز تقييده إلا عبر قرارات دولية مشروعة.
بناءً عليه، فإن منع أو اعتراض سفن الإغاثة أو المدنيين الأوروبيين أو غيرهم، كما وقع في قضية سفينة مرمرة التركية 2010، أو سفينة أسطول الحرية “مادلين” المتوجهة إلى قطاع غزة، مؤخرًا ، يُعد عدوانًا على الدولة التي ترفع السفينة علمها، وقد يعرّض الكيان الإسرائيلي للمساءلة أمام المحاكم الدولية.
فقد اعترضت بحرية الكيان الإسرائيليي في مناسبات عدّة سفنًا مدنية، بعضها يحمل أعلامًا أوروبية أو تركية، كان آخرها بالأمس بتاريخ 08/06/2025 سفينة الحرية “مادلين” ، التي هوجمت في المياه الفلسطينية.
من الناحية القانونية، يشكل اعتراض سفن أجنبية في المياه البحرية، دون تفويض أممي، اعتداء على حرية الملاحة التي تكفلها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (1982)، كما أنه:
-يمس بسيادة الدولة الراعية للسفينة، ويُعد عدوانًا بموجب تعريف الجمعية العامة للأمم المتحدة للعدوان (قرار 3314 لسنة 1974).
-يُمكن للدول المتضررة ملاحقة الكيان الإسرائيلي دبلوماسيًا، أو عبر تحريك إجراءات أمام القضاء الدولي، وفقًا لمبدأ الحماية الدبلوماسية.
رابعًا: في الطبيعة القانونية للحصار … جريمة لا أداة مشروعة
الحصار البحري المفروض على غزة أدى بشكل مباشر إلى تدمير البنى التحتية الحيوية، وتفاقم الأزمات الإنسانية، ومنع دخول الغذاء والدواء والوقود، ما يعني أن مدنيين يُعاقَبون جماعيًا لمجرد وجودهم في منطقة تحت سيطرة سياسية لا ترضاها القوة المحتلة.
وبموجب القانون الدولي الإنساني، فإن هذه السياسات تشكّل جريمة حرب، وترتقي إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية حين تكون منهجية ومستمرة، كما ورد في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
الدفاع الصهيوني عن الحصار بذرائع أمنية يفتقد الشرعية القانونية، ويعكس محاولة لتبرير السيطرة العسكرية والاقتصادية على الإقليم، وتحويل الاحتلال إلى حالة دائمة.
خامسًا: التوصيات القانونية والعملية
إن الادعاء الكيان الاسرائيلي الغاصب بـ”قانونية الحصار” هو محاولة مكشوفة لتسويغ جريمة جماعية، فهو لا يستوفي الشروط الشكلية أو الموضوعية التي يقرّها القانون الدولي، ويشكّل انتهاكًا مركبًا يتقاطع مع جرائم الاحتلال، والتمييز، والعقاب الجماعي. وبناء عليه، يوصى بما يلي:
مطالبة الأمم المتحدة بلجنة تحقيق دولية مستقلة بشأن الحصار البحري ونتائجه على السكان المدنيين.
تحريك دعاوى قضائية أمام محاكم الدول الأوروبية بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية.
الضغط على المحكمة الجنائية الدولية لإدراج الحصار ضمن الانتهاكات قيد التحقيق في الحالة الفلسطينية.
حشد جهد قانوني ودبلوماسي مدني لتوثيق الانتهاكات البحرية وفضح التناقض القانوني في خطاب الكيان الإسرائيلي.
دعم مبادرات الإغاثة البحرية والحقوقية وتوفير حماية قانونية دولية للسفن المدنية والإنسانية.
دعوة المحامين والاتحادات القانونية الدولية لرفع تقارير موثقة إلى المحكمة الجنائية الدولية حول جرائم الحصار.
الضغط على الدول الأوروبية لحماية حرية الملاحة وحقوق رعاياها في حال تعرض سفنهم للاعتراض.
تفعيل آليات القانون الدولي لحقوق الإنسان من خلال المقررين الأمميين المختصين، وخاصة في مجالات الغذاء، الصحة، والحصار.
فرض عقوبات سياسية ودبلوماسية على الكيان الإسرائيلي من قبل الأطراف الموقعة على اتفاقيات جنيف، بصفتها ملزمة بإنفاذ القانون الدولي الإنساني.
دعم الجهود القانونية الفلسطينية في المحافل الدولية من أجل الاعتراف بالحصار كجريمة مستمرة تستدعي التدخل الدولي.
خاتمة: الاحتلال أصل العدوان لا ذريعة للدفاع
إن الزعم الكيان الإسرائيلي بأن الحصار البحري المفروض على غزة قانوني هو محاولة مكشوفة لشرعنة العقاب الجماعي، وتجريم الإغاثة، وتجويع شعب تحت الاحتلال. هذا الخطاب المضلّل يجب أن يُفند ويُعارض قانونيًا، وأخلاقيًا، وسياسيًا.
فمسؤولية القانونيين والدبلوماسيين والمجتمع الدولي لا تقتصر على الشجب، بل تفرض تفعيل الأدوات القانونية لحماية المدنيين، وضمان احترام القانون الدولي، ومنع تكرار الجرائم تحت غطاء “الشرعية الزائفة”.
فالاحتلال لا يمنح المعتدي صفة “المدافع”، والسكوت الدولي لا يُضفي شرعية على الممارسات المحظورة، وعلى كل خبير قانون دولي، وعلى كل دبلوماسي حر، أن يتخذ موقفًا واضحًا ضد هذا الشكل من الحرب الباردة على الشعوب المستضعفة.
إن دفاع اللص عن مسروقاته ليس دفاعًا عن النفس،كما يصف ذلك الدكتور تميم البرغوثي، بل هو تأكيد على الجريمة، وأي صمت على ذلك هو تواطؤ لا قانوني ولا إنساني يجب أن يتوقف.
المراجع القانونية:
San Remo Manual on International Law Applicable to Armed Conflicts at Sea (1994).
Hague Convention (VIII) relative to the Laying of Automatic Submarine Contact Mines (1907).
Geneva Conventions (1949) and Additional Protocol I (1977), esp. Articles 54 and 70.
United Nations Convention on the Law of the Sea (UNCLOS, 1982), Articles 87–90.
Rome Statute of the International Criminal Court (1998), Article 8(2)(b)(xxv).
UNGA Resolution 3314 (1974) on the Definition of Aggression.
ICJ Advisory Opinion on the Legal Consequences of the Construction of a Wall in the Occupied Palestinian Territory (2004).
Corfu Channel Case (UK v. Albania), ICJ, 1949.
UNHRC Reports on Gaza, 2009–2024.
UNGA Resolutions on the Protection of Civilians in Armed Conflict Zones.
الايميل: [email protected]