سوريا: عمليات قتل واختطاف في قلب الوطن

سوريا: عمليات قتل واختطاف في قلب الوطن

د. لينا الطبال

خطورة الجهل لا تكمن في فعله اللحظي، فالجهل لا يقتلك مرة واحدة.. إنه يمنحك شهادة شرف، وسيف، وفتوى، ويضفي على خطواتك إحساسا غريبا بالصفاء.. يتركك تمارس وظيفتك بثقة القاتل البريء، وبثقة من يعتقد أنه يصلح العالم.. القتل المعنوي أو الجسدي يعملان ضمن منظومة واحدة، تعيد إنتاج العنف بأقنعة مختلفة.
في البلاد التي تختطف فيها النساء، وتُكمم فيها الأفواه ويتم ذبح الوطن باسم الوطن، تتسائل ما هي خياراتك المتاحة؟
في هذه البلاد التي اسميها وطني، القتل يُمارس كواجب وطني، والذبح يمارس كواجب وطني ايضا. ثم يكتبون على الفيسبوك: “كل عام وأنتم بخير.” وبين اختلاط المعايدات بالمجازر، لديك فقط دقيقة هدوء واحدة. الفاصل بين موجتين من الرعب.
أيها القاتل…الذين قتلتهم لتوك ليسوا علويين ودروز ومسيحيين فقط… هم بشر، بكل ما في الإنسان من كرامة وحق في الحياة. انت وحدك من اختصر نفسه في مذهب ضيق، في تكفير وفي فصام يبرر القتل باسم الله…
أيها القاتل، كيف قررت ان تكون قاتلا؟ .. هل توضأت قبل الذبح؟.. هل نويت؟.. هل كبرت؟…
 هل رفعت يديك كما ترفعهما في الصلاة، ثم أنزلتهما على رقبة الفتى؟ هل غسلت يديك جيدا بعد الذبح، كما يغسل المصلي وجه قبل الوقوف بين يدي الله؟ هل صليت ركعتين للذبيحة التي انتهيت منها للتو؟؟ بماذا كنت تفكر، حين وضعت السكين على رقبة شاب صغير، وأمه تتوسل إليك أن تترك له الحياة؟ بالجنة؟ بالغنيمة؟ بالنصر؟ او ربما فكرت بحور العين …
في غفلتك الوحشية، حلمت بحور العين يبتسمن لك، تاه ذهنك في وهم حوريات الجنة، تلك الصور السخيفة لتبرير كل جريمة… هل تدرك أن هذا الحلم هو امتداد للثقافة التي تنتج الجريمة وتشرعنها؟ تراك تعرف كل شيء عن العفة، لكنك تجهل كل شيء عن الرحمة ايضا.
أيها القاتل، هل تعلم، أنك ضحية مثلنا؟.. انت ضحية لبنية أيديولوجية تفرغ الإنسان من ذاته… هل تعلم أنهم استوردوك كما استوردوا الذبائح والدجاج المثلج والسلع الرخيصة؟ استوردوك من بلد بعيد، ليحشوا بلحمك آلة الحرب. انت الوقود البشري لحربهم، ولخطاب ميتافيزيقي يقتل باسم الحق… زرعوك في تراب لم تحمله في الذاكرة، ولم يحملك في الحنين، بينما نحن نحمل ذاكرة الوطن بأكمله.. ذاكرة وطن نعرفه بأصواته وروائحه.. بحجارته التي تعرفنا واحدا واحدا.
أيها القاتل… انت جئت من بلد بعيد، من حضن أم ربما. هل ما زلت تذكر لمسة امك ذات مساء؟ لا يهم… انت مثلنا اخذوك الى ارض غريبة عن ذاكرتك، أرض لم تعرف ملامحك.. انت مثلنا تم اقتلاعك من جذورك، من حاراتك، من بين اهلك، القوا بك في أرض لا تعرف اسمها، وأعطوك اسما لا يعني لك أي شيء.
نحن دُفعنا إلى خيام اللجوء وهجرونا من دفء البيت الى بلاد معلبة، باردة.
.تماما كما هجروك من طفولتك ثم من إنسانيتك إلى بندقيتك.
أيها القاتل… كم يشبهك القتيل.
لكن، ثمة فرق بيننا نحن لم نختر أن نكون ضحاياك. لكن أنت اخترت الطريق، اخترت أن تكون جلادنا… أنت اتيح لك أن ترفض. وكان بإمكانك أن تبقى إنسان. واخترت أن لا تكون.
كلانا خرج من دفء، كلانا فقد شيئ، لكن نحن لم نذبح أحد، ولم نختبئ خلف فتوى أو شرف. أنت امتلكت فرصة للرحمة، ثم مشيت فوقها.
أيها القاتل، نحن، لسذاجتنا، نسامح دائما. نغفر دائما ايضا.. لذا، خذها من القلب: ارحل. اسمعها جيدا، ثم ارحل.
هل تظن أن هذا الوطن سيحتضنك حين تنتهي المهمة؟ أتظن ان التاريخ، الذي لا يرحم قتلاه ولا جلاديه، سينسى؟
هل قرأت تاريخ بلاد الشام، او ان القراءة بدعة؟
أيها القاتل، حين تأتي لتذبح، تذكر ان من تذبحه يصلي مثلك، يصوم مثلك ايضا، تذكر أن ضحيتك تحفظ الآيات نفسها وتنطق باسم الله قبل النوم مثلك أيضا… فإذا كان لا بد من الذبح، وأنت تدمنه فأتلو الشهادتين على الوطن قبل أن تذبحه.
هذا ليس مقالا عن القتل. لا، القتل هو فعل بسيط هو كلمة، رصاصة، سكين، برميل متفجر وتنتهي المهمة… هذا ليس مقالا عن القتل، وإن كانت رائحة الدم تفوح من بين السطور.. الدم في كل مكان، على الورق، على الجدران، في العيون، في الأغاني الوطنية في عيد الأضحى وفي العاب الأطفال.. هذا مقال عن الصمت الذي يملك عيون، وألسنة تتكتم. الصمت يا صديقي هو شريك القاتل…
 اكتب هنا عن العار… عن كائن يسمونه “امرأة”، عن جسد خفيف يستباح في الحرب، كما في السلم..
 في باريس، كما في سوريا، عند من يحمل كتاب عن الحرية، ومن يحمل قنبلة بأسم السماء، الفاعل مختلف، لكن الهدف ثابت. الإرهابي يُغلق فمها بالنقاب والتهديد، والمثقف يُسكتها بالمفاهيم، ثم يقول “اعتذر.” في كلتا الحالتين يجب ان لا يعلو صوت المرأة ولا ان تشتكي.
الكل يطلب منها أن “تموت بأدب” بلا ضوضاء، ممنوع عليها ازعاج النظام السائد …. والذكورية الغبية.
إنه نظام متكامل، لا تقتله رصاصة، ينهار فقط إذا واجه امرأة لا تقبل الصمت.. وهذا النص، ربما، محاولة متواضعة لوضع المرآة أمامه ليرى الوحش الذي يسكنه هو.
لأن العار الحقيقي، كما تعلم، ليس في الجريمة، العار هو في الناجية منها. تلك التي لم تمت كما يجب، في اللحظة التي يجب، كي يستريح ضميرهم الوطني، والذكوري، والديني، والعائلي.. الخوف من العار نعم. العار في هذا الوطن ليس أن يتم اختطاف ابنتك، لكن ان تكتب شهادة انه تم اختطافها.. العار أن تتكلم وان تبلغ السلطات عن اختفائها… العار ليس أن تكون المرأة الضحية، لكن أن تعلن انها ضحية.. في هذا الوطن، لا يلام القاتل.. يلام دائما من يشير إليه.
من تختطف ابنته او اخته ويصمت.. يعيد انتاج المأساة.. قالها المراسل بوضوح “الخوف يمنع العائلات من التبليغ”. التهديد صريح “إن أبلغتم… نأخذ البقية.”
اين مجلس الأمن؟ اين المفوضية السامية؟ اين السيدات الأنيقات في منظمة World Vision ؟

نحن نعيش في وطن لو اختطفت فيه الشمس، لعادوا إلينا ببيان رسمي يقول إنها “سافرت طواعية مع أحد العشاق”. لا شيء يدعو للقلق. الشمس بخير، فقط لا تنشروا خبر غيابها على الفيسبوك.

وسيد المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، يبدل ملابسه الانيقة كل صباح، بدلة بعد بدلة، لون بعد لون، وكلها مبطنة من الداخل بقماش حريري او ساتان لامع، تعلوها تلك الجملة الصغيرة “المخيطة” قرب الرقبة: “صُنع في تركيا”.
أحمد الشرع… جرى تصميمه كما تفصل البدلات تماما: بقياس دقيق، وخيوط مخفية، وحواف مشدودة. من الخارج اناقة وهدوء. ومن الداخل، ان أمعنت النظر في البطانة “صُنع في تركيا” ايضا.
احمد الشرع يقف على شرفة السلطة المؤقتة، يتأمل الشعب، هو يعتقد أن الأناقة كافية لتصنع رجل دولة، يلوح بيدين نظيفتين للشعب، وللغرب ايضا “نحن نبني سوريا جديدة” هو يقول.
لكن يا فخامة الرئيس البلاد لا تشيد بدموع أم فقدت ثلاث بنات لأن جدهن ينتمي للطائفة الخطأ.
في سوريا الجديدة، المرأة يجري اختيارها لمقاتل. تماما كما يجري اختيار كلاشينكوف له وغرفة في إدلب.
كل من يعرف جغرافيا الفصائل، يعرف أن من يرتكب هذه الجرائم هي تلك الجماعات التي تم دمجها اليوم في “الجيش الوطني”. بالعربية الفصحى: الخاطف أصبح وزير والجهادي صار رجل دولة.
في سوريا الجديدة تستيقظ المدينة كالمعتاد، والسيارات تمر ببطئ، والناس لا يجدون نقود يشترون بها الخبز، وفجأة تظهر بوابة الجحيم في صورة “فان” بلا نمرة، يسطو على انسانة كاملة الأنوثة. الفان لا يحمل اي رقم، لكن الوطن كله صار بلا رقم.
في سوريا ما بعد النظام، في الطريق إلى السوق، إلى المدرسة، إلى الحياة، هناك من يُعد لك فخ… تُختطف بنات الساحل في وضح النهار. يختطف الأطفال من امام بيوتهم ويتم قتل وذبح الرجال بالصدفة… لا نعرف متى. السلطة تطلق عليها تسمية: “تمشيط”.. هيومان رايتس تدعوها بـ”الفظائع”.. ومنظمة العفو تقول “قتل جماعي”.. كلمات مختلفة لتنظيف كلمة مجازر، ابادة ممنهجة وتطهير عرقي !
في هذا الوطن لا يوجد حرب أهلية ولا ثورة، ولا قمع سلطوي أو تمرد فوضوي.. هناك قتل فقط.
 يجري قتل الأقليات لانهم يمثلون هذا النسيج الرقيق في الجسد السوري. العلوي يُقتل إذا لم يكن على ولاءه، والدرزي يحاسب على حذره، والمسيحي يستهدف حين لا يهاجر، والسني يضطهد اذا لم يعلن انتماءه لجهة مسلحة. السني العاقل يشتم كصوت ضائع…
الصراع في سوريا هو درس قاسي في فشل الحداثة السياسية… وهكذا، تسير البلاد في ثورتها الظافرة نحو الجحيم: وتذبح أبناءها باسم الوطن، وتقنن الرعب تحت يافطة سوريا الجديدة. وفي صباح اليوم التالي، يصدر بيان رسمي مختصر:
“عُثر عليه مقتولا في ظروف غامضة.”

أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس