د. عبدالناصر سلم حامد: حميدتي ومصر: عندما تتحول الدولة إلى خصم

د. عبدالناصر سلم حامد
حين اندلع الصراع في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، كانت الأنظار تتجه نحو القاهرة، لا لكونها مجرّد جار، بل لأنها اللاعب الإقليمي الوحيد الذي لا يمكن استبعاده من معادلة استقرار السودان، سواء باعتباره امتدادًا جيوسياسيًا أو مصلحة أمن قومي حيوية.
منذ اللحظة الأولى، تبنّت مصر مقاربة تقوم على ما يُعرف في نظرية العلاقات الدولية بـ”إدارة الأزمات عبر احتواء الانهيار”، أي منع تفكك الدولة بغض النظر عن موازين القوى الداخلية. هذا ليس موقفًا عاطفيًا، بل خيار استراتيجي يُمليه الفهم العميق لطبيعة الدولة السودانية، وموقعها في موازين القوى الإقليمية، وحدودها المباشرة مع مصر، التي تمتد لأكثر من 1200 كيلومتر.
رغم ذلك، ووسط تعقّد المشهد العسكري في السودان، صعّد محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع من لهجته، وبدأ في توجيه اتهامات مباشرة لمصر بدعم الجيش السوداني. اتهامات تلقفتها بعض المنصات الإعلامية المعادية للدور المصري، وسوّقتها كـ”حقيقة ميدانية”، رغم غياب أي دليل مادّي أو توثيق استخباراتي أو موقف دولي محايد يدعمها.
السؤال هنا ليس ما إذا كانت مصر تدعم الجيش، بل لماذا ظهرت هذه الاتهامات؟ ولماذا الآن؟
لفهم هذه الزاوية، يجب النظر أولًا إلى طبيعة الدور الذي تلعبه القاهرة. مصر ليست طرفًا عسكريًا في الصراع، لكنها معنية ببقاء الدولة، لا بانتصار طرف. دعمها المعلن كان دائمًا لمؤسسات الدولة الرسمية، وعلى رأسها الجيش، باعتباره آخر ما تبقّى من بنية الدولة السودانية. في المقابل، حميدتي لا يمثل مؤسسة، بل قيادة لقوة مسلحة موازية تأسست على هامش السلطة المركزية، بدعم خارجي واضح وتكوين اجتماعي مشحون بتركيبة محلية معقّدة.
من الناحية السياسية، فإن الخطاب المعادي لمصر يخدم هدفين لحمدان دقلو: أولًا، تحويل الصراع من كونه صراعًا داخليًا على السلطة إلى مواجهة مع “قوى إقليمية منحازة”، مما يمنحه فرصة لإعادة تقديم نفسه كضحية في الساحة الدولية. ثانيًا، التشويش على الرواية الحقوقية التي بدأت تتشكل ضده، بعد ورود تقارير منظمات دولية تفيد بارتكاب قوات الدعم السريع انتهاكات ممنهجة في دارفور والخرطوم.
الرهان على “عدو خارجي” ليس جديدًا في الأزمات الأفريقية، لكن في هذه الحالة لا يصمد أمام الحقائق. لم تُسجل أي حالات تسليح مباشر من مصر لأي من أطراف النزاع، ولم تتبنَّ القاهرة خطابًا عدائيًا تجاه قوات الدعم السريع، بل استمرت في استضافة المحادثات ودعم مبادرات الوساطة، بما في ذلك قمة جوار السودان. بل إن موقف مصر لاقى تأييدًا ضمنيًا من أطراف دولية كالأمم المتحدة، التي لم تُبدِ أي اعتراض على تحركاتها، على عكس أطراف إقليمية أخرى متهمة فعليًا بالتورط في دعم عسكري معلن.
وتزداد المفارقة حين نقارن بين مقاربة مصر وبين مقاربات قوى إقليمية أخرى. ففي حين حرصت القاهرة على ضبط النفس وتجنب التصعيد، انخرطت أطراف أخرى في تقديم دعم عسكري مباشر، عبر طائرات مسيّرة أو مسارات تهريب، وهو ما وثّقته تقارير دولية عديدة، بما في ذلك لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة. ذلك يضع اتهامات حميدتي في سياق تناقض فجّ، ويعزّز فرضية أنه يستهدف تشويه دور مصر لتعويض خسائره السياسية.
تاريخيًا، لم تكن العلاقة بين القاهرة والجيش السوداني علاقة ظرفية، بل استندت إلى بناء مؤسسي طويل. فالقاهرة طالما دعمت الحفاظ على وحدة الدولة السودانية، دون أن تتدخل في الصراعات على القيادة. دعمها للجيش يأتي من كونه المؤسسة الأكثر اتساقًا مع مفهوم الدولة، لا كأداة بيد السلطة. وعلى العكس، فإن قوات الدعم السريع تأسست كقوة غير نظامية، خارج منظومة الدولة، وهو ما جعل بقاءها موازية للجيش تهديدًا مباشرًا لوحدة القرار السيادي.
على المستوى الإقليمي، فإن موقف مصر يتقاطع مع مصالح كبرى: فاستمرار الصراع في السودان لا يهدد فقط أمن البحر الأحمر، بل يفتح الباب لفراغ جيوسياسي قد تستغله قوى غير عربية، وهو ما يُفسّر تحرك مصر بحذر، لا بالانفعال. فالقاهرة تُدرك أن أي انحياز سيفقدها ورقة الوساطة، ويضعف موقعها الإقليمي الذي تحرص على أن يبقى جامعًا لا مستقطبًا.
أما على المستوى المحلي المصري، فإن الدولة تواجه ضغوطًا اقتصادية واجتماعية تجعل من الانخراط العسكري المباشر مخاطرة لا تملك ترف ارتكابها. لذا فإن منطق المصالح لا يسمح لها بالدخول في صراع لا نهاية له، خصوصًا إذا كان البديل هو الحفاظ على موقع دبلوماسي مؤثر بقدرة على التفاوض.
ما بعد الصراع هو أيضًا جزء من حسابات مصر. فبقاء السودان موحدًا وقابلًا للاستقرار يمثل عنصرًا أساسيًا في أمنها المائي والحدودي. ومن هذا المنطلق، فإن مصر تدرك أن أي دور لها اليوم لا بد أن يُمهد لدور أكبر غدًا في إعادة الإعمار، واحتواء الفوضى، وخلق شراكات اقتصادية مستقبلية في العمق الإفريقي. إنها ليست فقط معركة حدود… بل معركة نفوذ طويل الأمد.
وفي هذا السياق، تبرز مقارنة مفيدة مع مقاربة مصر في الملف الليبي، حيث تبنت مصر سياسة “الخط الأحمر” لحماية مصالحها، لكنها في الوقت ذاته استثمرت في مسارات الحل السياسي، مثل مؤتمر برلين، واللجنة العسكرية المشتركة (5+5). النمط نفسه يتكرر في السودان: موقف مبدئي ثابت، لكن دون التورط في ميدان معقد.
اللافت أن خطاب حميدتي، رغم صخبه، لم يحقق اختراقًا دبلوماسيًا يُذكر. فلا الاتحاد الإفريقي، ولا الجامعة العربية، ولا الدول الغربية التي تحاول التوسط في النزاع، تبنّت روايته. وهذا يعني أن الاتهام لم يكن موجهًا للخارج بقدر ما كان محاولة لصناعة لحظة داخلية… لحظة قد تمنحه بعض التعاطف، لكنها لا تُغيّر حقائق السياسة.
لكن حتى الاتهامات التي يطلقها حميدتي ضد مصر لا تأتي في فراغ سياسي. هي ليست مجرّد تعبير عن موقف عدائي، بل أداة سياسية محسوبة. فاستهداف مصر يخدمه في أربعة مسارات متقاطعة: أولًا، تقويض شرعية الجيش السوداني من خلال ضرب صورة داعميه الإقليميين؛ ثانيًا، صناعة “عدو خارجي” لتعبئة قواعده وبث خطاب السيادة؛ ثالثًا، استفزاز القاهرة لدفعها إلى رد مباشر يبرر تدويل النزاع وتوسيع ساحة التفاوض؛ ورابعًا، توجيه رسالة مبطنة للغرب والخليج بأنه قادر على التشويش على مساراتهم عبر إرباك الدور المصري.
بهذا المعنى، فإن مصر ليست هدفًا لحميدتي بوصفها دولة، بل كـ”رمز ثقيل” لمعسكر الدولة الوطنية في السودان. كل اتهام يُوجَّه لها، هو محاولة لضرب خصمه الحقيقي… لا القاهرة، بل فكرة الدولة ذاتها.
في النهاية، يمكن القول إن القاهرة تتعامل مع الأزمة السودانية ليس من منطلق من يدعم من، بل من منعه من السقوط الكامل. الاتهامات التي تُوجّه لها، من أي طرف، لن تغيّر جوهر استراتيجيتها: الحفاظ على السودان كدولة، لا كأطراف متنازعة.
في هذا الإطار، تُبنى التحركات المصرية لا على الانفعال، بل على مزيج من الجغرافيا والعقلانية السياسية.
والذين يعتقدون أن اتهام مصر سيُحرّك المشهد الدولي، ربما يخطئون فهم المعادلة: فالدول تُحاسب على ما تفعله… لا على ما يُقال عنها
خبير إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب