محنة الناقد الجاهل بعلم الجمال: سقوطه المحتوم في فخ النقد الانطباعي

محنة الناقد الجاهل بعلم الجمال: سقوطه المحتوم في فخ النقد الانطباعي

عزيز باكوش
“شروق الجميل في السينما ومأساة النقاد “هو أحدث إصدارات الدكتور عزيز الحدادي  الكتاب الذي جاء في 119 صفحة من القطع المتوسط يعتبر الرقم 27 في ريبيرتوار عاشق الفلسفة ورئيس جمعية أصدقائها ومدير مهرجان أغورا الدولي للسينما والفلسفة بفاس. ويشتمل الكتاب المومأ إليه على مقدمة  ” مشهد شروق الجميل في السينما” ومدخل ” جدل النقد وفلسفة السينما ” ويتوزع إلى أربعة أبواب مقسمة إلى فصول. الباب الأول : نقد السينما وسينما النقد . يتضمن أربعة فصول : هذه هي السينما الكوميديا الفنية – معنى العدمية في السينما- السينما والفرح المأساوي- السينما والمتعة الجمالية .
الباب الثاني: سينما الفكر والنقد السينمائي ويشتمل على : السكن في مأوى السينما السوريالية – لا أريد لمتعة السينما أن تنتهي –السينما بوصفها صورة للفكر – فن السينما وجمالية التفلسف – نتساءل .
الباب الثالث: فلسفة النقد وسينما الفلسفة –استطيقا السينما –السينما والذوق –محبة السينما ومحبة الحكمة –السينما والميتافيزيقا – السينما في مواجهة الفلسفة .
الباب الرابع: فلسفة التفكيك ونقد السينما- نهاية السينما الأيديولوجية- السينما والذوق- خاتمة معنى النقد السينمائي هو نفسه معنى الفلسفة .
 على ظهر الغلاف المنمق البديع نقرأ عبارة  لأفلاطون: كلما اقترب الشيء من مثاله الأعلى ازداد حظه من الجمال الساحر . وكلما رآه إنسان في وجه جميل يرتجف وتثور في داخله انفعالات فتنتابه الحمى ويشحب لونه ويتصبب عرقا . ولا يبقى له إلا الانحناء أمام قدميه ” . وفي الصفحة 117  ضمن محور “معنى النقد السينمائي هو نفسه معنى الفلسفة “يقول المؤلف :
لم يعد بإمكان السينما سوى أن تصبح  فلسفة للصورة ومدرسة للذوق، لأن الذوق سمة عامة لتجليات الفن في الروح .بما يساعدها على بناء في الحياة، وهي جمالية الحياة في السينما، فما يجري على الشاشة أفضل مما يجري في الوجود، ولذلك فإن مهمة النقد السينمائي هي تفسير وتفكيك معنى السينما في الفيلم ، وليس سرد أحداث الفيلم وتكرار كلمات جميل مدهش رائع … فبأي معنى الفيلم مدهش سينمائيا؟ وبعبارة أخرى كيف يستطيع الفيلم أن يكون بمثابة سؤال ما السينما ؟ وما معنى الحكي بالصورة بدلا من الحكي بالكلمات ؟ وما علاقة السينما بالفنون التي استعمرتها ؟”
 وهكذا يخلص المؤلف إلى أن النقد السينمائي متعة لا يعرفها سوى من تجول في إمبراطورية الفنون على ظهر سفينة الفلسفة. وكان هدفه الإقامة طويلا في فن السينما، وتذوق استيطيقا الأفلام التي استطاعت أن تنقل حب السينما من القوة إلى الفعل. وتحفر في قلوب الشعوب ووجدانها هذا الحب ومعناه سينمائيا، ذلك أن فن السينما أحدث ثورة
شعبية  للفن في العالم.” وبهذا المعنى ” تحولت صناعة السينما إلى أفلام، وهذه الأفلام إلى جزء من الحياة الثقافية والجمالية. وبرأي المؤلف ” فأن مهمة الناقد  لا تتوقف عند متعة هذه الأفلام بل تتجاوزها نحو الوعي الجمالي. فإن  فن النقد هو نفسه فن السينما، لأنهما معا يتوجهان نحو تجربة التلقي باعتبارها كشفا للإبداع والجمال. وهو ما يسمح باستجلاء طبيعة العلاقة التي تجمعها. ويحقق الإبداع السينمائي تجاوبا مع جمالية الأفلام بإضافته النوعية بعيدا عن كونه مجرد إعادة تكرار قصة الفيلم مملة..
هنا يضعنا   والمؤلف ” أمام أسئلة أنطولوجية تتساءل عن العمق والماهية، باعتبارهما يتوجهان نحو ظاهريات الروح من أجل إيقاظ شعلتها الاستطيقية، فالروح هي التي تشاهد الفيلم بواسطة الوعي الجمالي إلى أن يصبح قابلاً للفهم.”  لأن الناقد الذي يفتقر إلى معرفة بعلم الجمال كما حدده هيغل في كتاب الاستيطيقا،  سيسقط حتما في النقد الانطباعي الذي يعرف الفيلم بالفيلم. يقول المؤلف .لذلك  لا بد من تحليله استيطيقيا من أجل الكشف عن عمق الأبعاد السينمائية والجمالية للفيلم”
ويبدي المؤلف أسفه أمام  سيادة هذا النقد الانطباعي الذي لم يقدم شيئا نوعيا بل  ساهم في قتل السينما .مشيرا إلى فئة الأفلام التي يتم ترويجها بشكل عنيف في الفضاءات العامة.  ويخلص إلى توصيف قاس ومنصف في الوقت نفسه في حق  هذه الفئة  النقاد.   أولئك الذين يوظفون انطباعاتهم ومشاعرهم الذاتية في تناولهم للأفلام، ويظل الغائب الأكبر هو فن السينما كصورة بما هي صورة حين تتشكل في الفيلم من خلال المشاهد وزوايا الكاميرا والإضاءة واستغلال العمق وعلاقته بالشخصيات وتجلياتها في الظل داخل وخارج الإطار.”
ويميز المؤلف بين ” المعنى الأنطولوجي للسينما باعتباره الفكرة حيث تتجسد في الصورة بوصفها موجودا في ذاتها.  والموجود الذي لا يصير كذلك إلا داخل العلاقة الأنطولوجية بالآخر.  فالصورة لا توجد على نحو مستقل.  إنها لحظة  المرئي اللامرئي  تحمل في ماهيتها تلك العلاقة الجدلية بين المبدع والمشاهد. إذ لا يكون لها وجود إلا القابلية للحركة  اللامتناهية من الآخر ونحو الآخر.”
على صعيد الجوهر يطرح المؤلف موضوع  السينما كأنطولوجيا للصورة و يناقش بعمق البعد الوجودي للصورة في السينما وينطلق من رؤية فلسفية عميقة تعتبر أن: الصورة ليست شكلا بل لحظة وجود. لا توجد الصورة في ذاتها ككيان مستقل، بل تتحدد ضمن العلاقة الجمالية بين المبدع والمشاهد. وبالمعنى ذاته هي ليست انعكاساً للواقع فقط بل تجسيدا لفكرة أو تجربة أو روح.
أما على صعيد السينما كتجسيد لمثال أفلاطوني يستحضر الكاتب مفهوماً أفلاطونياً الصورة المثالية أو “النموذج”، ويطرح سؤالا جوهريا هل الصورة في السينما تمثل الوجود أم تحاكيه ؟هل الموجود متحرك أم ثابت؟        وهل الصورة قادرة على تجاوز الزمان والمكان لتشكل حضوراً دائم التجدّد للمعنى ؟  من جهة ثانية  يشير النص إلى أن السينما لا تسترجع الماضي حرفياً، بل تؤسسه مجدداً من خلال الصورة.السينما هنا ليست أرشفةً، بل إعادة خلق للذاكرة في صورة حية متجددة. في النهاية ، الصورة السينمائية أداة لإحياء الذاكرة لا فقط توثيقها.
واستحضر هنا رواية صديقنا الدكتور عمر الصديقي ” الخبز الأسود” التي قدمت شخصيا قراءة عاشقة لها بالمعرض الدولي للكتاب الرباط 2025 . حيث تنتصب   المقاومة الوطنية ضد المستعمر في الريف ليست فقط موضوعاً للتوثيق، بل يمكن إبداعياً يؤسس لإعادة أفلمتها أو أسنمتها ذا جاز التعبير . وتأسيسها سينمائيا عبر الصورة، مما يمنحها معنى متجدداً عبر الأجيال.
مسألة أخرى غاية في الأهمية . ويؤكد عليها المؤلف أكثر من مرة في كتابه. وتتمثل في ضرورة تجاوز المحاكاة السطحية للأحداث . ليس لأن السينما الفنية  التي تحاكي أحداث الماضي كما هي دون استحضار عمقها الأنطولوجي تفقد بعدها الفلسفي والجمالي فحسب ، وإنما يجب أن تكون تلك الصورة السينمائية للمقاومة  تجسيد وتمثل حقيقي للروح التاريخية للمقاومة وتوقظها في مخيلة الأجيال لا فقط لسردية الأحداث.
عنصرالمقاومة ليست مجرد وقائع بل “مثال” للحرية والكرامة.لذا، السينما التي تعيد تصويرها ينبغي أن ترتقي إلى هذا المستوى المثالي، لا أن تسقطها في فخ التبسيط أو الترفيه الفارغ.  إذ لا ينبغي للسينما أن تسجن الذاكرة في الماضي، بل أن تجعلها ماضياً حاضراً كما جاء في النص، أي عنصراً مؤثراً في الحاضر والمستقبل.
وعلى سبيل الختم ، واستلهاما من  “شروق الجميل في السينما ” لابد من التأكيد على أهمية جعل الصورة أداة استرجاع جمالية  . السينما التي تتناول الذاكرة التاريخية للمقاومة المغربية مطالَبة بألا تكتفي بوظيفة التوثيق، بل أن تنطلق من منظور أنطولوجي يجعل من الصورة لحظة استرجاع تأسيسي، يعيد خلق الماضي بوصفه حضوراً جمالياً وفكرياً راهناً. فالمقاومة ليست مجرد حدث، بل فكرة مثالية تتجسد عبر الصورة، وتبني الجسور بين التاريخ والهوية والمستقبل.