حول التسجيلات المرئية للرئيس عبد الناصر

دكتور محيي الدين عميمور
علق رفقاء من الجزائر على أحاديثي حول يونيو 1967 بما بدا أنه تعبيرا عن استياءٍ، كاد يصل إلى حدّ اتهامي بممارسة الكذب بالحذف، حيث زعموا أنني تجاهلت دور الجزائر الإيجابي الذي كان جزءا من تلك الأحداث.
وأعترف أنني تعاملت مع بعضهم بنوع من النرفزة، وقلت لهم بأنني لا أقدم ما يطلبه المستمعون، بالإضافة إلى أننا نتفادى الحديث عن واجب قمنا به إيمانا واحتسابا، خصوصا وقد عانينا كثيرا منذ استرجاع الاستقلال من عبارات المنّ والتذكير المبالغ فيه بما تلقيناه من دعم الأشقاء.
ولقد تحملت الجزائر مسؤولياتها دائما بدون أن ترجو جزاءا أو شكورا، وبدون أي إشهار من أي نوع، وربما كان الدليل على ذلك أن مواقف وجهودا كثيرة للجزائر في 1967 لم يسمع بها المواطن في الجزائر إلا بعد حدوثها بسنوات وسنوات.
ولأنني مضطر للإجابة، أكتفي بالقول إن الجزائر كانت تتابع بكل قلق تدهور الوضع آنذاك، وكتاباتي في مجلة الجيش خلال شهر مايو 1967 كانت من بين مظاهر الاهتمام الذي لم يكن مقتصرا على المستويات القيادية ( وكنت يومها مجرد طبيب يمارس هواية الكتابة).
وبعد رسالة التضامن التي وجهتها القيادة الجزائرية لكل من سوريا ومصر في 18 مايو 1967، أوفد الرئيس هواري بو مدين رئيس أركان الجيش العقيد الطاهر الزبيري إلى القاهرة للتعرف على كل المعطيات في عين المكان، والاستفسار عن المساهمات المطلوبة، وتقديم العرض بإرسال قوات مسلحة جزائرية استعدادا لمواجهة كل الاحتمالات.
وكانت الصورة التي قدمت للمسؤول الجزائري صورة مطمئنة، أعطت الشعور بأن القوات المصرية مسيطرة تماما على الوضع، وأنه لا داعي للقلق.
ولم يمنع هذا من إرسال لواء مدرع جزائري يوم 28 مايو، رابط فيما بعد بين السويس والقاهرة كما جاء في تصريح للجنرال محمد صادق في حديث لمجلة أكتوبر في نوفمبر 1982.
لكنني اليوم، وللأمانة التاريخية، أعود إلى ما تناقلته بعض وسائل التواصل الاجتماعي في الشهر الماضي عن تسجيل متلفز للرئيس جمال عبد الناصر، بدا أنه إشارة للتقصير العربي آنذاك.
وبرغم أن هنا ما يُمكن بل وما يجب أن يقال حول ما تردد عن التقصير العربي، وبوجه خاص عن المتسبب في عدم قيام التنسيق العربي المطلوب في المواجهة مع الكيان الصهيوني، وبدون أن أتوقف عند ما ردده البعض من احتمال “منتجة” التسجيل، أقول عن يقين بأن ما عُرض من كلام الرئيس المصري يجب أن يوضع في إطاره الزماني والمكاني، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عبد الناصر كان، عن حق، متضايقا مما اعتبر مزايدات على الموقف المصري بعد قبولها مبادرة “روجرز”، ومعظمها كان تخوفاتٍ ممن لم يكونوا يعرفون أن قبول المبادرة كان للتغطية على بناء حائط الصواريخ الذي كان قلعة الانتصار بعد ذلك في حرب أكتوبر 1973، والذي كان يومها سرّا لا يعرفه إلا الله والمعنيين المباشرين بالأمر.
وكان وجود اسم الجزائر في كلام ناصر أمرا ضروريا لأنه كان ردّا على السؤال الذي وجهه أحد الطلبة لرئيس مجلس الأمة آنذاك، أنور السادات، وربما كان إقحام الاسم لتفادي الاتهام بالانتقائية في استعراض الرئيس لمواقف الدول العربية، مع ملاحظة أن العلاقات بين الجزائر ومصر في منتصف الستينيات كانت تمر بمرحلة فتور كبير بعد عزل الرئيس أحمد بن بله، وهو ما حاول بو مدين التخفيف منه بزيارة رسمية في 1966.
وللتاريخ وفي حدود ما اطلعتُ عليه، فإنه في ساعة متأخرة من مساء يوم 6 جوان، أو على الأصح، في ساعة مبكرة من صباح 7 جوان، وبعد متابعة قلقة لوسائل الإعلام العالمية التي تناولت الأحداث، طلب الرئيس بومدين الحديث هاتفيا مع الرئيس عبد الناصر، الذي كان قد أوى إلى فراشه بعد أن تناول قرص “سيكونال” يعينه على النوم ساعات يستجمع فيها قواه.
ولاحظ بو مدين أن صوت ناصر كان يبدو واهنا ومضطربا، بحيث قال بأنه أبلغ تفاصيل الموقف للبشير الإبراهيمي (وكان يقصد السفير الأخضر الإبراهيمي وليس البشير الإبراهيمي الذي كان قد توفاه الله) وربما كان هذا بفعل المنوم، وهو ما لم يكن يعرفه بومدين ومن هنا تزايد قلقه، فطلب على الفور الاتصال بالإبراهيمي الذي كان هو نفسه يحاول الاتصال بالجزائر (وكانت الصورة التي سمعها الرئيس من السفير صورة قاتمة لم يكن أحد يجرؤ على تصديقها).
وقال عبد الناصر لبومدين إن ما حدث يوم 5 يونيو كان ضربة ساحقة دمرت مئات الطائرات المصرية على الأرض، وهو ينتظر من الجزائر أن تمده بما تستطيع من الطائرات والطيارين.
وكان الردّ الفوريّ هو أن الجزائر تمتلك نحو 40 طائرة ستضعها تحت تصرفه، وأوضح بو مدين للرئيس المصري بدون تهرّب وبكل صراحة أخوية أن الطيارين الجزائريين قد لا يملكون الخبرة الكافية لمواجهة الطيران الإسرائيلي فوق طوبوغرافيا مجهولة بالنسبة لهم، وبدون سابق تدريب أو إعداد (وكان الأمر سيختلف لو كان هناك تنسيق مسبق قبل شهور وشهور).
ثم أوفد الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية إلى القاهرة يوم 7 جوان على متن طائرة جزائرية خاصة، ليعود معه إلى الجزائر، وعلى نفس الطائرة، عدد من الطيارين المصريين لاستلام الطائرات الجزائرية.
وفي اليوم التالي أبلغ الإبراهيمي مصر بأنه، إضافة لــ 19 طائرة “ميغ” كانت قد وصلت تباعا (قال ضابط مصري فيما بعد إنها كانت 16 طائرة فقط) فإن الجزائر على استعداد لإرسال المزيد من الطائرات.
وفي يوم تالٍ طلب السفير الأمريكي في الجزائر “جون جيرنيكان” مُقابلة الرئيس بومدين لتبليغه رسالةً من الرئيس الأمريكي ليندون جونسون.
وقال السفير الأمريكي للرئيس: “لقد كلّفني الرئيس الأمريكي أن أنقل إليكم بأن حكومته لا تنظُر بعين الارتياح إلى إرسال الجزائر لطائرات حربية لعبد الناصر “.
فأجابه بومدين بتلك الأنفة التي صنعت أسطورته: “أوّلاَ، انتهى ذاك الزمن الذي كانت فيه أمريكا تأمر والبلدان الصغيرة تُطيع… ثانياً، انتهى وقتُ المقابلة !”.
وفي مكالمة أخرى بين الرئيسين بعد مأساة سيناء قال ناصر لبومدين: “لم يعُدْ لدينا بين السويس والقاهرة جندي واحد… وكان في استطاعة إسرائيل أن تحتل القاهرة…” ويجيب بومدين بصوته العميق وهو يخنق تأثره… “ثم ماذا ؟ ماذا كان يحدث لو احتل الإسرائيليون القاهرة أو دمشق… إنها كانت ستكون بداية النهاية بالنسبة لهم… أن إسرائيل لا تستطيع مواجهة حرب طويلة المدى، وفي مساحات شاسعة… وعلى جبهات متعددة … إن الحرب الشعبية الحقيقية هي الطريق نحو التحرير”.
ثم يقول الرئيس المصري بمرارة شديدة، استطاعت أمريكا اصطيادي، لقد تأكدنا من دعمها المطلق للكيان الصهيوني، وقد قررنا قطع العلاقات معها.
آنذاك، كان سفير الجزائر في باريس بو علام موساوي قد أرسل تقريرا عاجلا عن تفاصيل لقائه مع الرئيس الفرنسي “شارل دوغول” الذي أفلتت منه (وهو الحريص على كل ما يصدر عنه) عبارة تؤكد تواطأ واشنطن مع تل أبيب، حيث قال في معرض حديثه عن وقائع الحرب ما معناه إن أمريكا ليست بعيدة عمّا حدث (L’Amérique est dans le jeu).
فيما بعدُ أن خمسة من الطيارين الليبيين العاملين في قاعدة “هويلس” بطرابلس توجهوا إلى السفارة المصرية في طرابلس طالبين لقاء الملحق العسكري العقيد محمد صادق (اللواء وزير الحربية فيما بعد).
وأبلغ الطيارون العقيد المصري أن هناك أعداد كبيرة من الطائرات الأمريكية أقلعت في صبيحة 5 جوان بكثافة غير معتادة، مع التذكير بأن حشودا جماهيرية ليبية لم يفتها ملاحظة حركة الطائرات المحمومة في القاعدة الملاصقة للعاصمة الليبية.
وهكذا، ولتسجيل التضامن المطلق مع القاهرة، طلب الرئيس بو مدين من سفيره في مصر معرفة التوقيت الذي سيستدعى فيه السفير الأمريكي في القاهرة “ريتشارد نولتي” إلى وزارة الخارجية المصرية ليُبلغ بقطع العلاقات، ثم يصدر أوامره بأن يُستدعى جون جيرنيكان إلى وزارة الخارجية الجزائرية في نفس الدقيقة، مع مراعاة فرق التوقيت، ليبلغ بقرار قطع العلاقات الجزائرية مع الولايات المتحدة احتجاجا على دعمها للعدوان الإسرائيلي، وهكذا انتهت مهمة السفير الأمريكي في 10 يونيو.
وما يمكن أن أقوله أن أحداث جوان قد أقامت بين الرئيسين الجزائري والمصري علاقة تفهم عميق أصبحت، فيما عرفت، محبة قوية مما أنهى وضعية التوتر التي نتجت عن 19 جوان 1965، وأتذكر أن ناصر قال لبومدين بعد 1967 ما معناه: ارفع سقف المطالبات كما تريد فهذا يعطيني فرصة المناورة (وهو ما قاله لي الرئيس الجزائري شخصيا).
ومرة أخرى، يجب أن يدرك الجيل الصاعد صدق من كانوا يقولون بأننا خسرنا معركة وعلينا أن نستعد لمواصلة الحرب، وهو ما تم في حرب أكتوبر المجيدة قبل أن تُجهض السياسة نتائجها، لتؤكد مرة أخرى كم كنا مخترقين، وهنا نفهم لماذا يرتفع اليوم صوت من كانوا جزءا من الاختراق.
وختاما، أقول عن يقين وللأمانة التاريخية، إن رجالا مثل عبد الناصر وأحمد بن بله وهواري بو مدين وياسر عرفات والملك فيصل وآخرون من نفس المعدن الوطني هم قادة عظماء اجتهدوا وأصابوا واجتهدوا وأخطئوا، لكنهم كانوا رموزا للرجولة والأنفة والشجاعة، وهو ما تشعر الجماهير اليوم أننا في أمسّ الحاجة له، ومن الطبيعي أن يكون هناك من ينزعج لهذا لأنه يفضح قيمته الحقيقية.
ولا قرّتْ أعين الجبناء.
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق