أ.د. طالب أبو شرار: مادلين ورموز التحرر

أ.د. طالب أبو شرار
في علم الإجرام يرتكب أحدُهُم جريمةَ قتلٍ وقبل أن يهرب من مسرح الجريمة يكتشف أن شخصاً ما قد شاهد الحدث فيضطر الى قتله ويفر بسيارته. لكن ولسوءِ حظه، يوقفه شرطي مرور بسبب السرعة الزائدة فيظن المجرم أن أمره قد افتضح فيبادر الى إطلاق النار على الشرطي وقتله. هرب المجرم لكنه أصبح ملاحقا بتهمة ارتكاب ثلاث جرائم قتل لا واحدة فقط وستقبض الشرطة عليه إن آجلا أو عاجلا ليحاكم بتهمة جرائمَ القتل تلك. هذا هو بالفعل حال “إسرائيل الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” والتي أنشأها في قلب بلادنا مستعمرون أوروبيون ادعوا أنهم اشتراكيون ينضوون تحت لواء “حزب العمل”. تتمثل الحقيقة الصارخة في كذب ذاك الادعاء عند مراجعة بدايات المشروع الصهيوني في نهاية القرن التاسع عشر وكيف أنه كان مشروعا مرتبطا بالقوى الاستعمارية الغربية بدءا بالإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني ثم ببريطانيا ولاحقا بالولايات المتحدة الأمريكية. ولكونه مشروع استيطاني استعماري كان لا بد أن يكون وحشيا ودمويا كي يفرغ البلاد من أهلها وكان أيضا لا بد من حمايته من قبل القوى الغربية التي يخدم مصالحها وبغض النظر عن حجم وديمومة جرائمه.
في البدايات استطاع الصهاينة التعتيم على جرائمهم وتزييف الحقائق والارتكاز الى أساطير توراتية تدعم مزاعمهم الموجهة الى عامة الناس بأنهم يعودون الى “وطن أجدادهم”. وبغطرستهم وإفلاتهم من المساءلة القانونية والإنسانية عن مسلسل جرائمهم السابقة، ظنوا أن المسرح ما يزال موصد الأبواب والشبابيك وبلا إضاءة وأنهم كعادتهم السابقة سيتمكنون من تسويق روايتهم الراهنة في أنهم يحاربون في غزة شياطين وحيوانات في ثياب إنسانية حتى لو كانوا أطفالا رضعا! وصل بهم الغرور والحماقة الى التصريح علانيةً بأنهم سيبيدون الشعب الفلسطيني ليس في غزة وحدها بل في الضفة الغربية أيضا وكلنا شاهدَ ويشاهدُ ما تقوم به قطعان المستوطنين في الضفة الغربية من قتل وحرق للبيوت وللحقول الزراعية ومن اجتثاثٍ لأشجار الزيتون وسرقة المحاصيل وأغنام الرعاة الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وترويع للسكان تحت ذرائع في منتهى السخف ورغم ذلك يحاولون تسويقها للآخرين ويطالبونهم بتصديقها. ولأنهم ما زالوا يعيشون في وهم الماضي فإنهم يبنون حججهم لتبرير كل ما سبق على مقولتين كانتا فعالتين فيما سبق لكنهن ما عادتا ذات نفع بل أصبحتا مدعاةً للسخرية. تقول إحداها أنهم “شعب الله المختار” وكأن الله يصنف خلقه الى طبقيات مبنية على العرق وتورَثُ من جيل لآخر! يتغافلون وينسون أنهم ليسوا عرقا بل أتباع ديانة تضم كافة الأعراق البشرية فاليهودي الأثيوبي يُحَاجُ بنفس منطق اليهودي الأشكنازي أو السفارديمي أو حتى العربي القادم من اليمن أو من مصر أو من بلاد الشام مدعيا أن فلسطين موطنه وموطن أجداده المبعثرين في كافة أصقاع الأرض. أما الثانية فهي مبنية على عقدة الضحية بمعنى أنهم ضحايا “الهولوكوست” وبالتالي لا تجب مساءلتهم عن أفعالهم لأنها ليست “جرائم” بل حق مشروع لهم للدفاع عن وجودهم. بمعنى آخر، هم مستمرون في ذبح الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية لأنهم يدافعون عن ضحايا وعلى الجميع الصمت وعدم التفكير بعقلية محايدة لأن الفلسطينيين لا يستحقون الرأفة أو النظر إليهم كبشر فهم أعداء “إسرائيل” ملاذ أولئك الضحايا.
تماما كما في القصة التي ابتدأت بها هذه المقالة، هم يرتكبون جريمة تلو الأخرى ظانين أن الثانية ستكون طوق النجاة من افتضاح أمر الجريمة الأولى ثم يكتشفون أنهم بحاجة الى جريمة ثالثة وهكذا دواليك. هذا ما فعلوه من تدمير لمستشفيات غزة التي ادَعوا أن في باطنها مخابئ لقيادة المقاومة ثم اضطروا الى دفن شهداء الجريمة الأولى في باحات تلك المستشفيات. لقد قتلوا الشبان الفلسطينيين العزل ولإخفاء جرائمهم جرفوا أجسادهم الطاهرة ودفنوها في الرمال وكل ذلك، لسوء حظهم، كان موثقا بالصورة! الأمثلة كثيرة ولا تحصى وما يهمني هنا هو ما جرى يوم التاسع من هذا الشهر حزيران 2025، إذ اقتحمت قوات من الكوماندوس “الإسرائيلي” سفينة أسطول الحرية (مادلين) واعتقلوا النشطاء عليها واقتادوهم إلى ميناء أسدود المحتلة. هي عملية قرصنة وإرهابُ دولة لأسبابٍ عدة كونها تتم قبالة شواطئ قطاع غزة المحتل وفق القانون الدولي من قبل دولة احتلال. ووفق بيان أصدرته اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة “لا تمتلك إسرائيل أي سلطة قانونية لاحتجاز المتطوعين الدوليين على متن السفينة مادلين. وتعتقد أن هذا الاعتداء انتهاك صارخ للقانون الدولي، ويتجاهل قرارات محكمة العدل الدولية التي تأمر بالسماح بوصول الإغاثة الإنسانية دون عوائق إلى غزة”. هؤلاء المتطوعون المُبحرون على متن مادين ليسوا تحت ولاية الاحتلال ولا يمكن محاكمتهم على تقديم المساعدة الإنسانية أو تحدي الحصار غير القانوني. احتجازهم التعسفي ذاك غير قانوني ويجب أن ينتهي فورا”. مهما قالوا أو ادعوا فهم يرتكبون جريمة جديدة تضاف الى مسلسل جرائمهم على مرأى ومسمع من العالم. المفارقة هنا أنهم يستمرون في فعلهم الجرمي فيطلب وزير حربهم أن يُقتاد النشطاءُ الى سجن جَفعون في الرملة المحتلة ويقرر وزير “أمنهم القومي المسمى ايتمار بن غفير” أن يتم إلباسُهم زي المساجين الرسمي وأن يوضعوا في زنزانات منفردة مثل بقية المجرمين. من السخرية بمكان الإشارة الى أن هذا السجن مخصص لمن يدخل البلاد بشكل غير قانوني! من المؤكد أن مثل هذا الفعل الجرمي سيزيد من سخط كل من سيرى المشهد فالمسجونون الاثنا عشر هم نماذج متقدمة للضمير الإنساني ومن بينهم عضو البرلمان الأوروبي ذات الأصول الفلسطينية ريما حسن والناشطة البيئية السويدية غريتا تونبرغ والممثل الأيرلندي ليام كانينغهام والناشطة الحقوقية الألمانية ياسمين عكار. لقد كتبت السيناتورة الإيرلندية لين روان: “ينبغي أن تتركز أنظار العالم على أسطول الحرية لأن حياة هؤلاء النشطاء تعتمد على ذلك. إنهم يخاطرون بحياتهم لتسليط الضوء على الوحشية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في غزة”. أجل لقد خاطروا بحيواتهم من أجل مبادئ إنسانية سامية ولعل تلك المخاطرة تدفع ناشطين عربا الى الاقتداء بأولئك الأبطال. من نافلة القول، أن من يرى أولئك الأبطال في زي السجون الإسرائيلية سيتأجج حقده على ذلك الكيان وسيعتبر تلك الملابس أوسمة على صدور أولئك المتضامنين مع حرية الشعب الفلسطيني لانقلاب المفاهيم عند الصهاينة والتي تجعل من ممثل الضمير الإنساني سجينا ومن المجرم سجانا! هي مفارقة تثير السخرية. تماما كما اعتاد الصهاينة وصف المقاومين الفلسطينيين لاحتلال بلادهم بأنهم “إرهابيون” وأن المحتل المجرم هو المرجعية الأخلاقية والقانونية التي يجب الاحتكام اليها. أيضا من المؤلم هنا أن نتذكر أن هناك رجالا ونساءً من العرب الذين يعيشون في بلاد الغير ينشطون كزملائهم الأوروبيين في تحدي الظلم الصهيوني في حين يقبع أخوتهم في الأوطان العربية بلا صوت أو حراك. أعتقد جازما أن العلة ليست بسبب احجام أبناء هذه الأمة المجيدة عن نصرة أشقائهم المحاصرين والمذبوحين والمجوعين في غزة بل هو سبب آخر يكمن في قهر شعوبنا وحرمانها من أبسط حقوقها في التعبير الحر عن آرائها وبدون خوف من مساءلة ومن حرمانها من حقها في التفاعل الإيجابي مع الأحداث الجسام التي تتعرض لها أمتنا. أستذكر هنا مقولة النائبة ريما حسن: “عندما يعتقلوننا، سأنظر إليهم بهدوء وبثقة في حتمية تحرير فلسطين تماما كما نظر العربي بن مهيدي إلى مستعمري وطنه (الجزائر). إنهم مجرد محتلون لهذه الأرض ونحن جذورها الراسخة! كنا نظن أننا سنحرر فلسطين لكن في الحقيقة هي فلسطين التي تحررنا كل يوم”.
السفينة مادلين إحدى البدايات وقد سبقتها سفينة “الضمير” التي هاجمتها مُسيَرةٌ مجهولة الهوية قبالة شواطئ مالطا منذ نحو شهر فعطلت إمكانية ابحارها من جديد. بالطبع، ستتلوا مادلين قوافل أخرى كان أحدثها المسيرةُ التضامنية الدولية مع قطاع غزة في إطار فعالية تهدف إلى كسر الحصار ووقف حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل والتي انطلقت يوم الأحد 7/6/2025. سيشارك في هذه المسيرة ألف وخمسمائة من المتضامنين من 32 دولة تشمل كل دول المغرب العربي من موريتانيا الى ليبيا والذين سينطلقون من تونس وستتجمع قوافلهم في القاهرة يوم الخميس المقبل 12/6/2025. هم يخططون للوصول إلى حدود غزة عبر معبر رفح وسيحاولون إدخال مساعدات إنسانية الى القطاع. في النهاية، دائما ما تبدأ الانهيارات الكبرى بتململ متواضع لا يلقي كثيرون بالا تجاهه ثم تتلوه ارتجاجات وتصدعات يعقبها بعد ذلك الانهيار الكبير. وهكذا هو حال القوى الكبرى بل والدول الصغرى عبر التاريخ. الكيان الصهيوني لن يكون استثناء فما نشهده اليوم على كل الصُعُد هو التصدعات الداخلية وعلى مستوى التحالفات الخارجية مع الكيان الغاشم. إنها التصدعات التي تسبق الانهيار الكبير وزوال ذلك الكيان بلا رجعة.
مفكر عربي