قاسم صالح: من ينسب هزيمة 1967 إلى جمال عبد الناصر؟

قاسم صالح
قبل التطرق إلى نكسة حزيران/يونيو 1967، لا بد أن نتوقف بوعيٍ ومسؤولية عند الاستراتيجية التي تبناها الزعيم جمال عبد الناصر في مواجهة
الهزيمة العسكرية، لا بوصفها نهاية، بل باعتبارها نقطة انطلاق جديدة في مسار التحرر العربي. لقد أدرك عبد الناصر منذ اللحظة الأولى أن الهزيمة لا تكمن فقط في خسارة الأرض، بل في انكسار الإرادة، ولذا أعاد ترتيب خطاب النهوض مستندا إلى أعمدة مشروع قومي تحرري ينهض بالأمة من ركام الهزيمة.
كانت نكسة 67 لحظة مفصلية في تاريخ الأمة العربية، أزاحت الأقنعة عن موازين القوى الإقليمية والدولية، وأظهرت بوضوح أن المشروع الصهيوني لم يكن مجرد احتلالٍ تقليدي، بل هو مشروع استيطاني توسعي مدعوم بشكل مباشر من القوى الإمبريالية في الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ولم تكن النكسة مجرد خلل عسكري، بل نتيجة لتراكمات سياسية داخلية وإقليمية، شكلت فيها الأنظمة الرجعية ودوائر التبعية حلقات ضعف قاتلة في الجسد العربي.
إن مواجهة هذا المشروع لم تكن لتتم إلا من خلال استعادة الإيمان بالمشروع القومي العربي، الذي طرحه جمال عبد الناصر كطريق وحيد للتحرر وتوحيد الطاقات في معركة المصير. لقد شكلت المرحلة التي أعقبت النكسة اختبارا حقيقيا لصلابة الخطاب القومي، حيث تحولت لحظة الانكسار إلى وقفة مراجعة شجاعة، أعاد فيها جمال عبد الناصر الاعتبار للمقاومة، وفتح المجال أمام تجديد الروح الثورية في الداخل والخارج، تأكيدا على أن الأمة لا تهزم إلا إذا قبلت الهزيمة وان شكلت نكسة حزيران/يونيو 1967 لحظة مفصلية في التاريخ العربي الحديث، حيث برزت أزمة المشروع القومي العربي في مواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني المدعوم من القوى الإمبريالية. في هذه اللحظة، أطلق الرئيس جمال عبد الناصر عبارته الشهيرة: (ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة)، في خطاب لا يفهم بمعزل عن السياق الاستراتيجي والسياسي والتاريخي للصراع العربي-الإسرائيلي.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل هذا الخطاب الفكري لجمال عبد الناصر، وربطه بالفكرة وموقعها في الفكر السياسي العربي، ومدى تحققها تاريخيا في مرحلة ما بعد الهزيمة.
هل تمثل مقولة جمال عبد الناصر (ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة) مجرد رد فعل على الهزيمة، أم أنها تشكل رؤية استراتيجية متكاملة في فهم طبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي والعلاقات الدولية؟
يمكن آن نؤكد اليوم أن خطاب جمال عبد الناصر لم يكن انفعالا ظرفيا، بل تعبيرا عن منهج فكري واستراتيجي يرى في القوة – لا التفاوض المجرد – أساسا لأي مشروع تحرري في مواجهة الاستعمار والاستيطان.
1: خلفية تاريخية – الجيش القوي والهزيمة المدوية
في بداية ستينيات القرن العشرين، كانت مصر تملك أكبر قوة عسكرية عربية من حيث العتاد والعدد، لكن أزمة 1967 كشفت عن:
ضعف التنسيق العربي،
تغلغل النفوذ الاستخباراتي الإسرائيلي،ومحدودية القرار العسكري أمام السياسات الداخلية.
فرغم أن الجيش المصري كان يوصف بأنه الأقوى في الشرق الأوسط، إلا أن ما ينقصه هو العقيدة الاستراتيجية الواضحة والإرادة السياسية الحرة، وهو ما تنبه له جمال عبد الناصر لاحقا.
2 تحليل الخطاب الناصري في سياق الصراع
تمثل مقولةجمال عبد الناصر محورا تأسيسيا في منظومته الفكرية التي تقوم على:
التحليل الواقعي للعلاقات الدولية:جمال عبد الناصر يرى أن القانون الدولي لا يطبق على الضعفاء، وأن (ميزان العدالة) لا يعدل إلا عندما تمتلك الشعوب القدرة على فرض إرادتها.
الربط بين الاستقلال السياسي والتحرر الاقتصادي: فالقوة لا تقتصر على السلاح، بل تتأسس على بناء قاعدة اقتصادية وطنية، وتصنيع مستقل، وتحالفات استراتيجية تخرج عن هيمنة الغرب.
دور الجماهير كعنصر حاسم في معادلة القوة: الجماهير العربية، إذا ما وجهت وشاركت في القرار، يمكن أن تكون ركيزة للمواجهة طويلة الأمد.
ما بعد المقولة اختبارات التاريخ وشواهد الواقع
منذ عام 1967، خضعت المقولة لاختبارات ميدانية متعددة أثبتت نجاعتها:
حرب أكتوبر 1973: جاءت كترجمة عملية للرؤية الناصرية في استرداد الأرض عبر العمل العسكري رغم الاختلافات السياسية.
المقاومة اللبنانية: استطاعت كسر احتلال الجنوب اللبناني عام 2000 باستخدام القوة، لا التفاوض.
غزة وفلسطين: لم تحرر الأراضي ولم يكسر الحصار إلا بالمقاومة، بينما فشلت كل مسارات السلام.
وبالتالي، أثبت التاريخ أن التنازلات السياسية بلا قوة داعمة، غالبا ما تفضي إلى تطبيع الاحتلال وليس إلى إنهائه.
المقولة في مواجهة أطروحات السلام الأمريكي
في العقود اللاحقة، روجت الولايات المتحدة وحلفاؤها لنموذج السلام مقابل التنمية، وهو ما ثبت فشله في كل من:
أوسلو: التي لم تنتج دولة فلسطينية.
وادي عربة: التي لم تنه التهديد الإسرائيلي للأردن.
اتفاقات إبراهيم: التي لم توقف الاستيطان أو جرائم الاحتلال.
وفي المقابل، بقي خطاب جمال عبد الناصر مرجعا واقعيا في فهم طبيعة القوة والمواجهة.
المقولة الناصرية (ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة) لم تكن رد فعل عاطفي، بل خلاصة لرؤية تحليلية ناضجة لطبيعة الصراع بين مشروعين: مشروع تحرري تحاول الشعوب فرضه، ومشروع استيطاني استعماري لا يعترف إلا بلغة الردع.
كما تثبت الوقائع التاريخية أن الأمم لا تحرر أرضها عبر التمني أو التسويات الشكلية، بل عبر امتلاك أدوات الردع والسيادة.
وبهذا تبقى عبارة جمال عبد الناصر نبوءة استراتيجية تخاطب ضمير الأمة في زمن الاستسلام والتطبيع. إنها ليست مجرد مقولة، بل دعوة متجددة إلى مشروع مقاومة حضاري يعيد للعرب كرامتهم، ويسترد لهم زمام المبادرة من جديد.