نادية أولاد علي: تحليل تأملي لرواية عبد الحميد البجوقي “هسيس الغرباء”: الوجود في صمت محفوف بالتحديات حيث تولد الهوية من الصمت وتضل في حيرة الأسئلة.

نادية أولاد علي
عندما قرأت “هسيس الغرباء” للروائي عبد الحميد البجوقي لم أكن أبحث عن فكرة محددة أو “رسالة “جاهزة، بل وجدت نفسي أُصغي إلى ذلك الهسيس العميق الذي يسكن ما بين السطور. ذاك الصوت الخافت، المخنوق، الذي لا يُقال. شيءٌ في هذا النص مسّ شيئًا في داخلي: كامرأة، كقارئة، وككائن يحمل في داخله أسئلة التيه، والغربة، والانتماء. لقد انغمست في الرواية كما ينغمس المرء داخل مرآته لتعريه من الداخل وتجعله يواجه هفواته الوجودية بكل أبعادها.
“هسيس الغرباء” ليست رواية تُقرأ بعيون عابرة، بل تجربة إنسانية تقرأنا، تنبش هشاشتنا، وتُدخلنا في متاهة من الأسئلة التي لا تنتهي. تبدو القصة في ظاهرها سردًا مأساويًا عن اغتصاب وسلب ونفي، لكنها في العمق سؤال فلسفي ملتهب عن الهوية، عن المصير، وعن الصمت بوصفه أكثر الكلام فتكًا.
في لحظات من “هسيس الغرباء”، يبدو السرد كما لو كان يتحرّك بلا صوت، بلا أسلوب واضح المعالم، لكن بدفء داخلي كثيف. هذه المفارقة ذكّرتني بما وصفه أحد النقّاد عن كتابة ألبرت كامو، أنها “أسلوب لغياب الأسلوب”؛ حيث لا يتزيّن النصّ باللغة، بل ينسحب منها، كي يُلقي بك في صميم التجربة الإنسانية، بلا مساحيق.
تتقاطع “هسيس الغرباء” أيضًا، ولو بصوتٍ خافت، مع تيه “عوليس” في رواية جيمس جويس. هناك، كما هنا، لا يبحث البطل فقط عن بيتٍ أو أمّ، بل عن نفسه، وسط تضارب الزمن والذاكرة والجغرافيا. أمير وأنطونيو ليسا أبطالًا تقليديين، بل عوليسان حديثان، يسافران لا ليستعيدا أرضًا، بل جرحًا، أو اسمًا أُخفي منهما عمدًا.
لا يمكن تجاهل الحضور الوجودي العميق في الرواية. فالكاتب يكتب ببلاغة عن مصائر مشروخة ويضع في نفس الوقت شخصياته في مواجهة صريحة مع سؤال الوجود، كما طرحه جان بول سارتر: “الإنسان مشروع يُؤجَّل”، وكل من أمير وأنطونيو هما كائنان مؤجلان، ينتظران أن يُعترَف بهما، أن يُعاد تعريفهما، أو أن يجد كلٌّ منهما اسمه الحقيقي. أزمة الهوية التي تطارد الشخصيتين تتقاطع مع العبث الكاموي، حيث لا معنى واضحًا للوجود سوى ذاك الذي يصنعه الفرد في مواجهة عبثية العالم، كما في صمت خديجة، أو تيه أنطونيو بعد اكتشاف أصله.
في لحظة مفصلية من الرواية، يقول أنطونيو: “أنا لاجئ مثلك يا أمير… وإفريقي مثلك”. هذا الاعتراف يعيد ترتيب شجرة النسب بشكل تراجيدي ويعيد تعريف الذات كما لو أن الوجود سابق على الجوهر، تمامًا كما يؤكد سارتر.
وفي انشغالها بإشكاليات الغربة والانتماء، تُلامس الرواية أيضًا أطروحات أمين معلوف، خاصة في كتابه “الهويات القاتلة”، حيث يؤكد أن الهوية لا تكون قاتلة بطبعها، بل حين تُختزل إلى عنصر واحد، وتُفرض بالقوة، أو تُصادَر بالعار. نرى ذلك واضحًا في شخصية أمير، الذي حُرم من الانتماء لكونه ابن اغتصاب، أسود البشرة، لا يشبه من حوله، فتتحوّل هويته من مساحة انتماء إلى عبء ثقيل. كذلك أنطونيو، الذي نشأ على يقين بأنه ابن مجتمع أبيض محظوظ، ليكتشف لاحقًا أنه هو الآخر ثمرة كذبة، ابن خديجة، ونتاج قصة أخفاها الجميع عنه.
هذه الهزّة التي تُصيب الشخصيتين تُجسّد تمامًا ما قاله معلوف: “هويتي هي ما يجعلني فريدًا، ولا يمكن اختزالها في عنصر واحد دون أن تتحول إلى هوية قاتلة”. في لحظة اكتشاف النسب المطمور، لا يصبح أنطونيو أقل إسبانية، بل أكثر إنسانية؛ ولا يعود أمير عارًا يجب دفنه، بل كائنًا يحتاج فقط أن يُرى.
الرواية إذًا، لا تروي فقط تمزّق هويات، بل تعيد تعريفها على نحوٍ مصالِح، حيث تلتقي الخيوط دون ان تتشابك، وتتفتح على إمكانية الانتماء الحر، الذي لا يصنّف الناس بناءً على اللون أو المولد، بل على وعيهم واعترافهم بجرح الآخر كامتداد لجرح الذات.
ولا يمكن أن نفصل هسيس الغرباء عن التوجه الفكري العميق لكاتبها عبد الحميد البجوقي، الذي طالما كتب من موقع المنفى، ومن قلب الأسئلة الحارقة التي تطارد الإنسان المهاجر والمنفي والمهمّش. إن روايته هذه تنخرط ضمن مشروع سردي وفكري أوسع، امتد عبر أعماله السابقة مثل: “حكايات المنفى”، “المشي على الريح”، “عريس الموت”، و”الجنيس”، حيث تتكرر تيمة الانتماء الملتبس، وتتجلى معاناة الهوية في تشظيها وارتطامها بجدران الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي.
في هذا السياق، تشكّل هسيس الغرباء محطة جديدة في أدب البجوقي، أدب الذين يعيشون على تخوم الوجود، أولئك الذين لا مقاعد لهم في الصفوف الأمامية للتاريخ أو الجغرافيا، بل يعيشون في الهوامش، في الانتظار، وفي الأسئلة التي لا جواب لها.
رواية “هسيس الغرباء” لا تقدّم أجوبة، بل تفتح الجراح برفق، وتتركها تتكلم بلغة تتجاوز البيان. إنها كتابة تنحاز للمسكوت عنه، وتُصغي لألم لا يحتاج إلى أنين. وفي زمن يتكاثر فيه الضجيج، تأتي “هسيس الغرباء” لتذكرنا أن همسة صادقة أبلغ من آلاف الأصوات المرتفعة.
روتردام