د. جمال الحمصي: حكاية التنمية غير المستدامة في الدول العربية: أسس، دروس، وعبر

د. جمال الحمصي: حكاية التنمية غير المستدامة في الدول العربية: أسس، دروس، وعبر

د. جمال الحمصي

قصة التنمية وبناء الأمة في العالم العربي انبثقت بعد الاستقلال عن الاستعمار. فما هي الدروس المُستقاة من هذه القصة الممتدة منذ نحو قرن من الزمان؟ ولماذا يتسم الأداء التنموي العربي العام بالهشاشة إذا ما قيس ذلك بالطموحات والمقارنات الإقليمية خصوصاً بعد تدفق المساعدات المالية والاستشارية الغربية لخمسة عقود على الأقل؟ هل تتباين وصفات التنمية الناجعة حسب الأمة والثقافة والتاريخ وربما حسب البلد؟ أم أن هنالك مبادئ تنموية مشتركة وعابرة للزمان والمكان تم تجاهلها بغرور فيما مضى؟

هذه تساؤلات مشروعة بعد اخفاق نموذجي الليبرالية الجديدة والاشتراكية القديمة حتى في مركزها الرئيسي، وذلك بعد الأزمة المالية العالمية 2008 واندلاع الشعوبية الغربية بعد عام 2010 وبروز جوائح كورونا 2020 وبوادر الركود التضخمي 2025. هذه المقالة تقيّم المسيرة التنموية العربية في إطار حقل حديث هو “دراسات التنمية” مع تلخيصها لمبادئ تنموية عليا أعتبرها “غير قابلة للجدال”، مع الاشارة باختصار الى منظوري الخاص لتطوير هذا التخصص الهام ضمن السياق العربي والإسلامي.

تتحدث التقارير الصادرة عن جهات دولية “محايدة” عن “تقدم ملموس” فيما يتعلق بالعديد من أبعاد التنمية البشرية العربية طويلة الأجل، لكن مع ذلك لم تتطور المنطقة العربية بالسرعة التي تطورت بها مناطق أخرى، كما ان هذه المنطقة شهدت تفاوتاً وتذبذباً ملموساً في الأداء التنموي، جغرافياً وزمانياً، خصوصاً بعد مرحلة النزاعات في المنطقة خلال العقد الأخير، حيث نصف اللاجئين في العالم عرب حسب الإسكوا، وحيث المنطقة العربية هي الأعلى عالميا بمعدلات البطالة حسب تقرير أممي. هذا بمجمله يثير بقوة السؤال حول استدامة التنمية العربية وتشاركيتها واستقلالها من جديد. فأين جذور الخلل؟ ولماذا لم يستمر الأداء التنموي التشاركي في الصعود، كمياً ونوعياً، كما حدث في دول شرق آسيا مثلاً؟

التفسيرات تتفاوت لكن للسياسة والحوكمة الظهور الأكبر، خصوصاً متانة العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة وانعكاساته المنتشرة على الديمقراطية والمساءلة والشرعية والوحدة والهوية الجامعة. فمثلاً الخبير والممارس مروان المعشر (2010)، يرى بأن العالم العربي أوجد نفسه في مصيدة بين فكي قوتين رئيستين: المؤسسة السياسية المُتجذرة التي تفتقد إلى الضوابط والتوازنات من ناحية، والجانب الدائم والفاعل من المجتمع المدني من ناحية أخرى.

ومن نفس الزاوية لكن بمنظور أوسع، يرى هذا الكاتب بأن السبب الجذري لتواضع الأداء التنموي العربي هو نموذج الحوكمة الاقتصادية والسياسية المعتمد تاريخياً، والذي يتجاهل المبادئ الحاكمة (مفصّلة أدناه) والسٌّنن والقوانين الطبيعية التي صممها الله تعالى بشأن التنمية والعمران وبناء الأمم (أنظر كتاب الكاتب: علم القرآن التنموي: أعظم عشرة قوانين حاكمة لنهضة المجتمعات والدول).

فمن المنظور الاقتصادي، كان النموذج الليبرالي الجديد المدعوم من صندوق النقد وقبله النموذج الاشتراكي المدعوم من الاتحاد السوفييتي سابقاً هو النموذج المعتمد، وكلاهما أخفق في مجالي الكفاءة والعدالة بدرجات متفاوتة. أما سياسياً فان النموذج المتبنى عادة هو نموذج الحوكمة السلطوية التي لا تظهر عيوبه المتأصلة الا في الأجل الطويل. وفي المجال الاجتماعي، كان نموذج الحوكمة ولا يزال لا يعير “العامل المهجور” في التنمية المستدامة وهو الهوية الموحدة والتماسك المجتمعي ورأس المال الاجتماعي الاهتمام الضروري.

دراسات التنمية هو علم اجتماعي حديث ومتعدد التخصصات يدرس تطور البلدان وانتكاسها على أبعاد مختلفة تتجاوز علم الاقتصاد والتنمية الاقتصادية. نظرية التحديث هي نظرية سائدة للأسف في دراسات التنمية تحاول تفسير التنمية بوصفها عملية انتقالية من المجتمعات “النامية” إلى مجتمعات “حديثة”، حيث تعتبر الأخيرة أكثر تقدما وسعادة. وتعتمد على فكرة أن الدول النامية يمكن أن تتطور باتباع نفس المسارات التي اتبعتها الدول “المتقدمة”. هذا وتعاني نظرية التحديث في دراسات التنمية رغم شيوعها دولياً واعتمادها من قبل معظم الدول العربية بعد الاستقلال من عيوب جوهرية حتى ضمن الفكر الغربي لما بعد الحداثة.

وفيما يلي الخص أبرز المبادئ الكبرى والعالمية التي تحكم مسارات التنمية ونتائجها في العالم العربي:

أولا: لا مقاس واحد يناسب الجميع/ حتى ضمن العالم العربي!

هذا هو المبدأ أو الدّرْس الأول المستنبط مؤخراً من حقلي دراسات التنمية وبناء الدول: لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وأهمية السياق لكل حالة/ دولة/ أمة في دراسات التنمية وبرامجها. فرغم وجود مشتركات فنية أو طبيعية عالية المستوى (مثل أهمية طلب العلم وضرورة الشورى والمؤسسات التشاركية)، لكن ما يناسب دولة ما من سياسات تنموية أو حلول تشريعية قد لا يناسب دولة أخرى تختلف في ظروفها الأولية كالموارد والموقع الجيوسياسي. وعليه، فان ما يناسب الولايات المتحدة أو أوروبا قد لا يناسب اثيوبيا أو سوريا بالضرورة.

هذا المبدأ ينطبق حتى على العالم العربي الواسع وغير المتجانس. فمثلاً، دول مجلس التعاون الخليجي تظل تملك خصوصيات بسبب مواردها النفطية وقلة حجم سكانها وهياكل حوكمتها. وهذه الظروف تجعل تجاربها التنموية غير قابلة للتكرار في معظم السياقات العربية الهشة أو ما بعد الصراع.

كما ان حلول الليبرالية الجديدة في الخصخصة وتحرير الأسعار والأسواق والتجارة الدولية (ضمن وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين) لم تعد تناسب عموماً الدول العربية بسبب اعتبارات هيكلية (مثل تتابع الأزمات وضعف الثقة بالسوق واستقرار بيئة الأعمال والتشريعات) وعيوب مؤسسية (كضعف هيئات التنظيم الحكومي والمنافسة ومنع الاحتكار) وطبيعة هياكل السوق التي تتسم باحتكار القلة والمغالاة في الأسعار (مثال: خدمات الاتصالات). وللأسف، أصبحت هذه البرامج الدولية مؤخراً تجتاز المجال الاقتصادي وتتدخل بخصخصة القيم الاجتماعية بعد بيع الأصول الاقتصادية وبزرع الفردية المتطرفة في الأسرة والمدرسة والمجتمع، ممزقة بذلك الهوية والنظام العام والتماسك الاجتماعي بعد أن أنهكت مناعة الاقتصادات العربية.

ثانياً: مع انه لا عامل رئيسي وحيد يفسر الأداء الضعيف، الا ان الاختيارات المحلية الاستراتيجية في مجالي نظم الحوكمة والمؤسسات أهم من الظروف الأولية والصدمات الخارجية

هذا المبدأ هام خصوصاً للعرب المهووسون دوماً بنظرية المؤامرة، حيث الجميع ملامٌ الا أنا! الشواهد التجريبية تؤكد ان اختيارات السياسة هي الأهم في مجال أداء التنمية وبناء الدول وليس ندرة الموارد الطبيعية ولا الصدمات الخارجية ووباء كورونا. وما تداعيات ما يُسمى بالربيع العربي الا نتيجة لتلك الاختلالات الهيكلية المزمنة أكثر ما تكون سببا لها، رغم التداخل لاحقاً بين السبب والنتيجة في حلقة مفرغة سببها الجذري هو الضعف الهيكلي طويل الأمد.

لقد أخفقت تجربة “التحديث” في العالم العربي ونموذج الدولة السلطوية في تحقيق السلام والتنمية المستدامة، ومع انه من المغري عزو الإخفاقات الى الصدمات الخارجية المتتابعة والنزاعات المحلية (بما فيها تحولات الربيع العربي)، الا ان الضعف الهيكلي طويل الأجل في مجالات الحوكمة الديمقراطية الرشيدة، والاقتصاد التنافسي والمتنوع، والعدالة التوزيعية، والهوية الوطنية، والتماسك الاجتماعي، هي المحددات الرئيسية للأداء التنموي متعدد الأبعاد.

ثالثاً: التنمية مفهوم ثقافي وأخلاقي متعدد الأبعاد وليس مفهوماً اقتصادياً بحتاً

التنمية وغيرها من المفاهيم المشابهة هي مصطلحات معيارية وخلافية بالضرورة، وتتأثر كثيراً برؤية العالَم وفلسفة الباحث ومتخذ القرار. وحتى أحدث التعاريف وأشملها للتنمية وهو التعريف الذي يساوي بين التنمية من ناحية والسعادة أو الرفاهية متعددة الأبعاد من ناحية أخرى لم يحلّ الإشكال الأخلاقي في تعريف التنمية، وهذا يعود إلى قصورنا في تحديد مفهوم الرفاهية الإنسانية وقياسها الموضوعي. ومما لا شك فيه بأن تعريف “التنمية” يقع ضمن نطاق العلوم المعيارية (علوم الشريعة) وليس عموماً من اختصاص العلوم التجريبية. فالقول بأن التغير الإنساني (س) قد زاد من الرفاهية الإنسانية -كما يؤكد اقتصاديات الرفاه منذ زمن طويل- هو حكم قيمي شخصي من الصعب اختباره بشكل علمي موضوعي محايد.

والخلاصة الصادمة في دراسات التنمية هي غياب نموذج تنموي تفصيلي موحد وعالمي يمكن للدول انتهاجه لضمان “التنمية”، سواءً بالقوة الناعمة والإقناع أو القوة الخشنة والتشريع، حتى ولو في الأجل الطويل، على عكس ما تنطق به نظرية التحديث الغربية وإجماع واشنطن.

رابعاً: الهروب من فخ الهشاشة المتفاقمة في العديد من الدول العربية يفرض حتمية بناء الأمة التشاركية

يجمع الدارسون في دراسات التنمية على صعوبة استدامة التنمية بالاعتماد على الحلول المركزية (الحكومية) فحسب، أو على الحلول السوقية فحسب، بل وحتى بنظم الحوكمة الهجينة التي تجمع بين السوق والدولة (في إطار الاقتصاد المختلط مثلاً). العنصر المفقود هو ليس في السياسة ولا الاقتصاد بل في المجتمع المدني. هذا مستنبط من أحدث معطيات علم الاقتصاد التي أكدت وجود جوانب فشل مزمنة وثنائية في كل من السوق الحر (حسب اقتصاديات الرفاه) والدولة المركزية (حسب اقتصاديات الاختيار العام).

وللتخلص من كلفة ومخاطر الهشاشة المتنامية في الأسرة والمجتمع والاقتصاد والسياسة والبيئة، بل وفي المدرسة والجامعة والمؤسسة الحكومية والشركة الخاصة، لابد من إعادة إنعاش “اليد الأخلاقية” والتركيز على بناء الأمة والهوية ورأس المال الاجتماعي حتى لا يتحول المشهد الاجتماعي الى ما هو أشبه ب (حرب الكل ضد الكل) أو وفقاً لمنطوق الآية القرآنية (يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) (أنظر مقال الكاتب: السؤال الأضخم في الواقع العربي المعاصر: كيف نروض الأنانية البشرية ونحقق النظام العام؟).

خامساً: التنمية والأمن متداخلان ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر في النظرية أو الممارسة

هذا المبدأ يربط بين دراسات التنمية والدراسات الاستراتيجية في إطار متكامل لا يقبل التجزئة المؤسسية أو الترتيب الاعتباطي. ففي أربع آيات قرآنية قطعية، ربط الله عز وجل بين الأمن والتنمية (بمعنى الرزق وإشباع الحاجات الأساسية)، كما قرن بين الخوف والجوع. قال تعالى: (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) و(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) و(َولَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ) و(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ). وبتفحص هذه الآيات عميقاً، نجد أولوية لمكافحة الجوع في آيتين، وأولوية لتحقيق الأمن في آيتين. ولهذا المبدأ المتوازن مضامين استراتيجية حرجة في دراسات التنمية، بعيداً عن التفكير الاختزالي لفيلسوف السياسة توماس هوبز في كتابه “الدولة التنين”.

خلاصة:

تؤكد المبادئ العليا المفصّلة أعلاه على أولوية نموذج التنمية المستقلة في دراسات التنمية العربية، هذا النموذج الذي يؤمن بملكية المجتمع للإصلاحات والبرامج والسياسات الوطنية، عوضاً عن نموذج التبعية متعددة الأبعاد للغرب. هذا لا يمنع من الاستفادة من الجانب التقني والتنظيمي ومن المؤسسات الديمقراطية ضمن التجربة الغربية الغنية في هذه المجالات. عدا ذلك تدرس كل حالة على حدة.

العلامة والموسوعي ابن خلدون هو من أوائل من أكد على السنن الكونية في العمران وبناء الأمم، كما إنه أكد بعبقريته على الحالة الخاصة للأمة العربية مقابل بقية الأمم. وعلى حقل دراسات التنمية العربية والدولية ان يصغي جيداً لما يقوله عن العرب والعمران، بما في ذلك مساهمة الدّين والعصبيّة (الهوية الجماعية) معاً.

والقرآن الكريم يضم رؤية موضوعية للعالَم Worldview بما فيها وجود الخالق ووظيفة المخلوق والغاية النهائية من الحياة، ويضم كذلك السُّنن الكبرى والقيم الأخلاقية الربانية (بما فيها قيمة “اقرأ”) المُؤسّسة للعمران المستدام، والتنمية الحقيقية والسعادة في الدارين لن تتحقق ما لم تنسجم حركتها مع السنن الإلهية، بشقيها الاجتماعية والكونية، من ناحية، ومع فطرة الله التي فطر الانسان عليها من ناحية أخرى. الانسجام مع السُّنن الكونية والقيم الأخلاقية والفطرة البشرية شرط أساس للتنمية المستدامة في السياق العربي.