زهير عبدالله الشرمان: هل تحقق إسرائيل انتصارات متتالية حتى تصل إلى نهايتها؟

زهير عبدالله الشرمان
المتأمل في المشهد الإسرائيلي يبدو وكأنه استعراض انتصارات متوالية، تقارير عسكرية تنطق بـتفوق ساحق، تكنولوجيات قبة حديدية تتصدر العناوين، دبلوماسية هجومية تمتد من الشرق إلى أفريقيا وتحالفات عسكرية واستخباراتية تعزز حضورها في ممرات الملاحة والتقنيات السيبرانية، غير أن ما لا يُقال وربما هو الأهم أن هذه الحكومة التي تدّعي الانتصار في كل ساحة تنزلق بسرعة نحو ما قد يكون نهاية مشروعها ذاته.
إسرائيل التي قد تبدو انها ربحت جولة هنا أو هناك، فإنها تخسر ما هو أعمق ،توازنها الداخلي وشرعيتها الأخلاقية واستقرارها البعيد.
منذ تأسيسها عام 1948 بنت إسرائيل مشروعها على فرضية التفوق والردع ،لكنها لم تستطع أبدا تحويل هذا الردع إلى سلام دائم، فكل نصر عسكري تلاه صراع جديد، وكل اتفاق سلام هش تلاه قصف، وكل انتصار في ساحة المعركة تبعه تمزق داخلي في المجتمع الإسرائيلي بين المتدينين والعلمانيين، وبين طوائف يهودية متعددة الهوية واللغة والانتماء والجغرافيا.
اما الحرب الأخيرة على غزة التي أعلنت إسرائيل أنها حققت أهدافها، لكن خلف هذا الادعاء، كانت هناك جبهات تشتعل لم تكن في الحسبان من حيث تصاعد الاستقالات داخل المؤسسة الأمنية، وتنامي أصوات النقد العلني من جنرالات احتياط، وانقسام عميق بين الشارع الإسرائيلي نفسه، الذي بدأ يشكك في جدوى الردع المستمر وفي هدف الحرب أصلا.
هذا كله يتزامن مع مشهد متغير إقليميا ودوليا،
فالدعم الغربي لإسرائيل لم يعد كما كان، الرأي العام في أوروبا يتغير بشكل متسارع، وحركات المقاطعة باتت تؤثر في الاقتصاد، والجامعات الغربية تشهد احتجاجات متواصلة على الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، فيما تفقد الرواية الإسرائيلية تماسكها أمام كاميرات العالم ووسائل الإعلام المستقلة.
المسار الحالي لإسرائيل يشبه الى حد كبير نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا فكلا النظامين اعتمدا على التفوق العسكري والفصل العرقي ،لكن في النهاية لم تكن الهزائم في ساحات القتال هي ما أطاح بالفصل العنصري، بل الادانة الاخلاقية العالمية والمقاطعات الاقتصادية والتصدعات الداخلية ، واليوم بينما تواجه إسرائيل اتهامات غير مسبوقة بارتكاب ابادة جماعية امام محكمة العدل الدولية وتتعرض لحملات مقاطعة شعبية التي تستلهم نضال مناهضة الفصل العنصري وتواجه تحولا عالميا تقوده فئة الشباب في الرأي العام، لم يعد السؤال ما اذا كانت قادرة على كسب الحروب ،بل ما اذا كانت قادرة على البقاء وسط تناقضاتها الذاتية.
والأخطر من كل ذلك هو ما يحدث داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، تفاقم أزمة الثقة بالمؤسسات، تصاعد الهجرة العكسية لليهود، تنامي الكراهية الداخلية، وتآكل الإيمان بمشروع الدولة بوصفها الملاذ الآمن ،فقد أظهرت استطلاعات حديثة أن أكثر من 60% من الإسرائيليين يشعرون بأن الانقسامات الداخلية تهدد مستقبل البلاد، بينما عبّر 70% عن فقدانهم الثقة بالحكومة الحالية، و47% أبدوا تراجعا في الثقة بالجيش بعد أحداث 7 أكتوبر. هذه المؤشرات لا تعبر عن تهديد خارجي فقط، بل عن قلق داخلي متنام يطال جوهر الكيان نفسه،
فالدول قد لا تنهار دائما بفعل الهزائم الخارجية او الضربات العسكرية، بل قد يأتي سقوطها من الداخل بالرغم من سجل انتصاراتها المتراكمة، ذلك لان النجاح المفرط حين لا يرافقه وعي بالحدود يولد شعورا بالاستثناء ويقود الى الغطرسة. وعندها تبدأ الدولة في التمادي فتتجاهل الاصوات الناقدة، وتفرط في التوسع وتسقط حسابات الواقع، وهكذا لا يكون الانهيار نتيجة عدو خارجي، بل نتيجة فقدان البوصلة في ذروة القوة فيُستبدل الاتزان بالاستعلاء، والشرعية بالثقة العمياء.
اسرائيل تسعى باستمرار لإخضاع الفلسطينيين وتفكيك جيوب المقاومة،لكنها تفشل في إدراك حقيقة بسيطة أن الشعوب لا تُهزم عسكريا بقدر ما تُهزم أخلاقيا، وأن مشروعا استعماريا قائما على الإقصاء والقوة لا يمكن أن يصمد في عالم بات يراقب كل شيء ويتحرك ولو ببطء.
الشعب الفلسطيني ورغم فارق القوى الساحق، أثبت أنه يتحول من ضحية إلى فاعل، ومن رد فعل إلى مبادر، بل بات يحمل خطابا يتجاوز الحجر والبندقية، ويتكئ على سردية حقوقية وأخلاقية تتفاعل معها عواصم العالم.
النهاية لا تعني بالضرورة سقوطا مدويا و سريعا، بل قد تبدأ بتآكل بطيء وانكشاف تدريجي وانهيار داخلي من نوع لا تقف أمامه لا الدبابات ولا القبة الحديدية.
هكذا تمضي إسرائيل من نصر إلى آخر، من ردع قد يبدو ناجحا في مظهره إلى عملية محسوبة، لكنها في العمق تخسر روايتها وتفقد شرعيتها وتكسر ذاتها أكثر مما تكسر خصومها.
ليس بالضرورة كل من يربح المعارك الجزئية انه يمشي في طريق النصر ربما يكون يزحف نحو خسارة الحرب الكبرى.
كاتب أردني
[email protected]