أحمد الدثني: مستقبل السياسة الخارجية لتركيا بعد عهد أردوغان؟

أحمد الدثني: مستقبل السياسة الخارجية لتركيا بعد عهد أردوغان؟

أحمد الدثني

لم تكن السياسة الخارجية التركية في العقدين الأخيرين مجرد انعكاس لتحولات دولية أو إقليمية، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن مشروع سياسي متكامل تبنّاه رجب طيب أردوغان، وسعى من خلاله إلى إعادة تشكيل موقع بلاده في خارطة القوى الإقليمية والدولية.

فمنذ مطلع الألفية، ومع صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، دخلت تركيا مرحلة جديدة من الطموح السياسي، غادرت خلالها موقع “الوظيفة الجيوسياسية” المحدودة، وسعت إلى تقديم نفسها كقوة إقليمية مستقلة، متعددة المحاور، تعيد إنتاج دورها بناءً على مزيج من التاريخ والجغرافيا والإمكانات.

بهذا المعنى، لم يكن انخراط أنقرة في ملفات مثل سوريا وليبيا والقوقاز مجرد تحركات ظرفية، بل تعبيرًا عن رؤية استراتيجية تعتبر أن لتركيا حقًا مشروعًا في صياغة التوازنات الإقليمية. غير أن هذه الرؤية اصطدمت بتحديات داخلية وخارجية، ليس أقلها تدهور الاقتصاد، تعقيدات العلاقات مع الغرب، وتراكم الخصومات في الجوار العربي. ومع تراجع زخم المشروع الأردوغاني، وتصاعد الأسئلة حول مستقبل القيادة في أنقرة، يبرز سؤال جوهري: كيف ستبدو السياسة الخارجية التركية في مرحلة ما بعد أردوغان؟
التحول القادم – إذا حدث – لن يكون مجرد انتقال بين شخصيتين سياسيتين، بل انتقال بين مدرستين فكريتين. فالمعارضة التركية، التي تتصدر مشهد ما بعد أردوغان المحتمل، تتبنى مقاربة أقرب إلى المدرسة الكمالية الكلاسيكية، حيث الواقعية السياسية مقدمة على المغامرة، والانضباط المؤسسي يعلو على الكاريزما الشخصية. وهي مقاربة قد تقود إلى إعادة التموضع غربًا، وتحجيم التدخلات الخارجية، واستعادة خطاب الدولة “الوظيفية” في النظام الدولي، لا الدولة “الفاعلة” المتجاوزة لوزنها التقليدي.
لكن من الخطأ الاعتقاد بأن التراجع عن السياسة الأردوغانية سيكون سهلًا أو سريعًا. فتركيا اليوم منخرطة بعمق في ملفات لا يمكن مغادرتها دون كلفة. في سوريا، باتت المسألة الكردية والأمن الحدودي مرتبطة عضوياً بمصالح أنقرة الاستراتيجية. وفي ليبيا، تشكّل العقود العسكرية والاقتصادية جزءًا من مشروع نفوذ طويل الأمد. كما أن العلاقات المتوترة مع أوروبا، والمفاضلة المستمرة بين موسكو وواشنطن، أفرزت تموضعًا تركيًا يصعب تعديله دون مراجعة شاملة.
وعلى الضفة الأخرى، يبدو أن تركيا نفسها قد بدأت، حتى قبل نهاية عهد أردوغان، خطوات تصحيحية باتجاه ترميم العلاقات مع عدد من الدول العربية، وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات. هذه الخطوات وإن بدت تكتيكية في ظاهرها، إلا أنها تعبّر عن إدراك تركي متنامٍ بأن زمن الأيديولوجيا في السياسة الخارجية قد شارف على نهايته، وأن المستقبل سيكون للبراغماتية الاقتصادية وتبادل المصالح.
المشهد القادم لا يخلو من سيناريوهات متباينة. فإما أن تتبنى تركيا سياسة انفتاح متوازن، تحافظ فيها على مكتسباتها وتعيد ترميم صورتها، أو تنزلق نحو انكفاء داخلي بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، فتتراجع مكانتها الإقليمية. وهناك سيناريو ثالث أكثر تعقيدًا، يتمثل في مرحلة ارتباك استراتيجي نتيجة غياب رؤية موحدة لدى النخب الجديدة، ما قد يؤدي إلى تذبذب في القرار السياسي، واهتزاز في الثقة الدولية.
تركيا بعد أردوغان لن تكون كما قبله، لكنها لن تكون نقيضه الكامل. فالدولة التركية – كما علمنا التاريخ – قادرة على امتصاص التحولات، ودمجها في سردية وطنية توازن بين طموحات القوة ومقتضيات الجغرافيا. والتحدي الحقيقي في المرحلة القادمة ليس في تغيير الاتجاه فقط، بل في إقناع الداخل التركي بأن السياسة الخارجية ليست ساحة لعرض القوة، بل أداة لحماية المصالح الوطنية في عالم لا يتسامح مع الهشاشة ولا يغفر التردد.
كاتب ومحلل سياسي يمني