الكنز الإستراتيجي في العصر الرقمي..

الكنز الإستراتيجي في العصر الرقمي..

 

 

د. طارق ليساوي
أشرت في مقال “ميكانزمات تغدية  بنية الفساد السرية و العلنية..” إلى واقعة إختراق قاعدة بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ، و حللت بقدر من التفصيل الاختلاسات التي شهدتها المؤسسة و تم رصد تفاصيلها في ما عرف ب”قضية القرن “..فحادثة تسريب و اختراق بيانات المؤسسة لم يتم نفيها او تأكيدها ، فالشيء المؤكد ان إختراق ما أو محاولة ما تمت، تبعا لما صرحت به الجهات المسؤولة ..و منهجية الرد عن الحدث تزيد من خطورة الوضع، و توضح مدى اللامسوؤلية في التعامل مع قضية حساسة جدا..

مشاريع المونديال

 فالمعلومات و المعطيات و حجم البيانات المسربة خطير جدا، ليس من زاوية ما تم تداوله عن أجور بعض علية القوم ، فتلك أمور معلومة و معروفة سلفا منذ حراك 20 فبراير ، و ما يحدث اليوم في المغرب من سطو على أراضي في مناطق حيوية بدعوى المونديال يتجاوز تلك الملايين بأرقام فلكية ، و معروف دوافعه ومن المستفيد من ريعه، و من سيحصل على الثمن النهائي، و هو بكل تأكيد أكبر بكثير من بضع ملايين دراهم في الشهر أو السنة ، فالأراضي التي يتم تهجير أهلها لو جهات أخرى ، قيمتها السوقية تقدر بملايير الدراهم و يمكن أن تسهم في محو مديونية المغرب بل و تمويل ما يتم إنجازه من بنية تحية استعدادا للمونديال ..

السيناريو المصري

فالمتر الواحد في الرباط أو مدينة تمارة تتجاوز قيمته السوقية 1500 دولار للمتر المربع، فكم يا ترى من هكتار تم حشده و نزع ملكيته بشكل رسمي او بشكل حلزوني ؟ و من المستفيد من هذه الأراضي و المشاريع؟ و هل جميعها من أجل المصلحة و المنفعة العامة؟ يا ترى هل فنادق 5 نجوم في ملك الدولة المغربية؟ و هل المولات و غيرها من المرافق التجارية في ملكية الدولة المغربية؟ و ما يدفعني إلى الشك و التخوف و التوجس،  أني أرى ذات السيناريو المصري يتم تبنيه في المغرب بحذافيره ، سيناريو بيع أراضي مصرية حيوية و إستراتيجية ل”مستثمرين” و في الغالب من بلدان خليجية !! و أكثر ما أخشاه أن تصبح هذه الإستثمارات حجة للتدخل فقد سمعنا مسؤولة في بلد خليجي تتحدث عن تدخل بلدها في السودان بدعوى حماية المصالح الاقتصادية..

مكاسب خرافية

 فحكومة أخنوش التي تبيع البر و البحر، و الهواء و الماء ، تعتقد أننا لا نعرف التجارة و منطقها ، فالهكتار الواحد في الرباط و الضواحي يساوي في المتوسط  حوالي 15 مليون دولار ، هذا ثمن الأرض جرداء، أما  إذا تم بناءها فمتوسط العائد قد يصل إلى 150 مليون دولار ، فالمتر المربع لشقة في الرباط المحيط و على الواجهة البحرية ذات النظرة البانورامية الرائعة ،  يصل ما بين 2000 إلى 3000 دولار و نيف ، يعني خير كثير و مال وفير و لتفهم الصورة عليك بسؤال ساكنة المحيط ، و كاتب هذه السطور يشتغل في العقار و يعلم جيدا عن ماذا يتحدث..!!

النقيب محمد زيان

بمعنى كتلة الأجور السمينة لا ينبغي استغرابها أو التعلق بأذيالها ، فهناك ماهو أكبر من ذلك ، و يكفي العودة لملف ما عرف بأراضي خدام الدولة و ما أشار إليه النقيب زيان الذي لازال  بين أسوار السجن رغم شيخوخته و مرضه ،  و لسانه يلهث زبدا و كمدا و هو يتحدث عن ذهب طاطا ، و قد أخبر بمعلومات أخطر بكثير من الأجور الخيالية، و بهذه المناسبة نأمل أن يتدارك عقلاء الدولة المغربية الأمر و يخرجوا الرجل من سجنه تفاديا لخطر موته بالسجن لا قدر الله، و المغاربة يقولون في أحاديثهم اليومية “لي غلب يعف” ، و الواقع أن زيان يستحق منا الاحترام و التقدير عندما كان أحد خدام الدولة و رجالاتها فقد وقف بجانب “خصوم” الدولة و عبر عن مواقف إيجابية، أو عندما أصبح من الأصوات المعارضة  ، و الواقع أنه أفضل خادم للدولة لأنه يقدم لبلده طوق النجاة من خطر داهم..

الخطر الداهم

و الخطر الداهم تغول الفساد ، ففي حالة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ، فإن الأجور و المكاسب المالية أمر ثانوي، بالنظر إلى قاعدة البيانات و المعطيات الشخصية و بنك المعلومات الإستراتيجي الذي تم إختراق أسواره الإلكترونية ، معلومات و معطيات تشمل  حوالي مليوني مغربي اصبحت بيد جهة ما .. و هذا الامر سيفتح المجال لإختراقات اخرى تمس مصالح قاعدة عريضة من المواطنين و المؤسسات الخاصة و العامة
 فالرواية الرسمية تفتقر لعنصر الشفافية و المصداقية في التعامل مع الحدث و أبعاده الراهنة و المستقبلية ،  …فحماية المعطيات الشخصية لعموم المواطنين مسؤولية كل مؤسسة عمومية او خاصة و تم تنظيمها بنص القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، المنشور في جريدة رسمية عدد 5711 بتاريخ 27 صفر 1430 (23 فبراير 2009)..
وينص هذا القانون فالمعطيات ذات طابع شخصي :” كل معلومة كيفما كان نوعها بغض النظر عن دعامتها، بما في ذلك الصوت والصورة، والمتعلقة بشخص ذاتي معرف أو قابل للتعرف عليه والمسمى بعده بالشخص المعني..ويكون الشخص قابلا للتعرف عليه إذا كان بالإمكان التعرف عليه، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، ولا سيما من خلال الرجوع إلى رقم تعريف أو عنصر أو عدة عناصر مميزة لهويته البدنية أو الفيزيولوجية أو الجينية أو النفسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية”..
و قد أحدث المشرع المغربي  اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي  بمقتضى القانون 08-09 المشار إليه أعلاه ، و تتولى اللجنة مهمة التحقق من أن عمليات معالجة المعطيات الشخصية تتم بشكل قانوني وأنها لا تمس بالحياة الخاصة أو بحقوق الإنسان الأساسية أو بالحريات..و تتشكل اللجنة من شخصيات تتمتع بالحياد والنزاهة وتمتلك كفاءة في الميادين القانونية والقضائية وفي مجال المعلوميات..

لجنة تقصي الحقائق

و التصدي الفعلي و العملي للإختراقات التي شهدها الصندوق يتطلب التسريع،   بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ، و التعامل بجدية مع الاختراقات و الهجمات السيبرانية المتوقعة ..لابد من الاقرار بان هناك فشل ذريع في هذا الجانب بدليل معاناة المرتفقين مع ” سيستيم الطايح ”  فأغلب المغاربة يسمعون  هذه العبارة المتداولة بكثرة في الأبناك و كنوبس و cnss و الضريبة و شركات الماء و الكهرباء و الوكالات الحضرية و غيرها من الجهات الحيوية ، و هذه العبارة الشهيرة تؤكد على أن هناك تخلف رقمي واضح لا زالت تعاني منه البلاد و مؤسساتها الحيوية ، و هذا التخلف خطير و ينبغي التعامل معه بجدية ، بعيدا عن منطق التخوين او تهريب القضايا و الاختباء خلف قضية الصحراء ..هناك خلل بنيوي و سوء إدارة و استهتار في التعامل مع المعطيات الشخصية لعموم المواطنين ، و حماية البيانات الشخصية حق شخصي ، بغض النظر عن الصفة و الوضع الاجتماعي و الانتماء السياسي..

سلوك مستهجن

و في هذا الجانب لا بد من إدانة كل تصرف يوظف البيانات الخاصة و المعطيات الشخصية للتشهير بهذا الطرف أو ذاك، و لابد من التعامل بصرامة مع المواقع و المنابر و الجهات التي تعمل على توظيف المعطيات الشخصية لتصفية الحسابات مع المعارضين..و هناك نماذج عديدة تعرضت لهذا النمط المرفوض قانونا و أخلاقا و عرفا ، فمثلا تم نشر صور شخصية و معلومات خاصة لمعارضين و اتاحتها لعموم الناس ..فالتشهير و توظيف المعلومات الخاصة جريمة و ينبغي التصدي لها و رفض هذا الاسلوب بالجملة في معاركنا الداخلية و حتى الخارجية ..
اما في الخارج فمن المعلوم أن كل البلدان تتعرض لمثل هذه الهجمات السيبرانية من طرف خصوم معلومين او مجهولين في الغالب ..و الاهم و الأفيد في مثل هذه الظروف ليس التخوين أو التكذيب، و إنما تبني سياسات و برتوكولات حماية فعالة و محصنة، و توظيف خبراء في المجال مشهود بكفاءتهم، و محاسبة المقصرين و المتهاونين ، فالانتقال الرقمي ليس مجرد كلمات و شعارات للتداول، و إنما عمل جبار ينبغي ان تحشد له الكفاءات و الموارد ..فساحة المعركة الرقمية من بين أخطر الجبهات و أكثرها فتكا و خطرا ..
فالمعطيات الشخصية كأرقام البطائق الوطنية و أرقام الحسابات البنكية وأرقام التسجيل و الايميلات و غيرها من البيانات الشخصية ، بمثابة كنز استراتيجي يتنافس عليه الجميع بما في ذلك الشركات المالكة للمنصات الرقمية الكبرى ك تويتر و الفايسبوك و تيك توك و غيرها، فهي لم تترك خدماتها مجانية إلا لأنها تعلم مدى أهمية و ربحية بيانات زبنائها فهم سلعتها الأساسية..
فالمعطيات التي تم السطو عليها ، قد تستعمل للاحتيال وسرقة الحسابات وارسال الاعلانات المزعجة او عروض وهمية للنصب والاحتيال او روابط لقرصنة الاجهزة والسطو على المعلومات البنكية و غيرها ، هذه القضية إذا تبث حدوثها، في دولة اخرى ستقود إلى رفع دعاوى جماعية، بسبب فشل هذه الجهة في حماية المعطيات الشخصية لعملائها، فالمؤسسات العمومية و الخاصة ملزمة بحماية البيانات الشخصية .. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ..
كاتب و أستاذ جامعي من المغرب