عبد الرزاق القاروني: خوان غويتيسولو.. الكاتب المراكشي الأصيل

عبد الرزاق القاروني
خوان غويتيسولو أحد أبرز الكتاب الإسبان المعاصرين، ومن المستعربين الذين أسدوا خدمات جليلة للثقافة والتراث المغربيين. عرف بالتزامه ونصرته للوحدة الترابية المغربية ولقضايا العرب والمسلمين، ما جعله يلقب بـ”كاتب الضفتين”، و”الصوت الصديق للعالم العربي”. أحب مراكش، واحتضته، فقضى بها ما يناهز ثلاثة عقود إلى أن توفي، في أواخر العقد الثاني من الألفية الثالثة.
كرم المحتد
رأى خوان غويتيسولو النور، يوم 05 يناير 1931 بمدينة برشلونة، عاصمة إقليم كتالونيا بإسبانيا، وترعرع في كنف أسرة كريمة المحتد، لها مع الأدب والثقافة شأن كبير، إذ كان أخوه الأكبر خوسيه أغوستين غويتيسولو شاعرا، وأخوه الأصغر لويس غويتيسولو كاتبا. درس الحقوق بجامعة مسقط رأسه، لكن ما لبث أن سافر إلى باريس سنة 1956، ليتخذ منها منفى اختياريا، حيث عمل مستشارا أدبيا بدار النشر “غاليمار”، التي تعد من أعرق وأقدم دور النشر الفرنسية. كما انضم لمجلتي “رواية جديدة” و”تيل كيل”. وقد كان مناهضا لحكم الجنرال فرانكو، الذي تسبب في مقتل أمه خوليا غاي في غارة على برشلونة سنة 1938، خلال الحرب الأهلية الإسبانية. كما يعتبر من المناصرين لمغربية الصحراء في كتابه “مشكلة الصحراء” (1979).
وخلال الفترة الممتدة ما بين 1969 و1975، درس غويتيسولو الأدب بجامعات كاليفورنيا وبوسطن ونيويورك، وألف العديد من الروايات والكتب، التي تتناول مواضيع الحكاية والرحلة، علاوة على الشعر. وفي سنة 2003، أصبح هذا الكاتب عضوا شرفيا لاتحاد كتاب المغرب، ما جعله يقدم نفسه، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، بكونه كاتبا مراكشيا. ومع نهاية سنة 2016، تعرض غويتيسولو لكسر على مستوى الحوض، إثر سقوطه بمقهى فرنسا المشرف على ساحة جامع الفنا، وترجل عن صهوة الإبداع والتأليف، يوم 04 يونيو 2017 بمراكش، بعد معاناة مريرة مع المرض. ورغم وصيته بدفنه بهذه المدينة، التي أحبها وأصبح جزءا من نسيجها الثقافي والاجتماعي، فقد ووري الثرى بالمقبرة المدنية، المطلة على البحر بمدينة العرائش، إلى جانب صديقه الكاتب الفرنسي جون جينيه.
وفي بلاغ نعيه، أكد اتحاد كتاب المغرب أنه “بوفاة غويتيسولو يكون العالم الثقافي والإبداعي والإنساني، قد فقد رمزا كبيرا من رموز الثقافة والفكر والإبداع والنضال وحقوق الإنسان في العالم، وصوتا من الأصوات الكونية المدافعة عن حوار وتلاقح الحضارات والثقافات بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط، وبين الضفتين الإيبيرية والأميركية».
وقد حصل هذا الكاتب على العديد من الجوائز الإسبانية والعالمية، من أبرزها: جائزة أوروباليا (1985) وجائزة نيلي ساش (1993) وجائزة أوكتافيو باث (2002) وجائزة خوان رولفو لآداب أمريكا اللاتينية والكاريبي (2004)، والجائزة الوطنية للآداب الإسبانية (2008)، وجائزة الفنون والثقافة (2009)، وجائزة الكيخوته للأدب الإسباني (2010)، إضافة إلى جائزة سيرفانتس (2014)، التي تعد أرفع تكريم أدبي في العالم الناطق باللغة الإسبانية، وعندما تسلم هذه الجائزة، في حفل رسمي، من يدي الملك الإسباني فيليبي السادس بتاريخ 23 أبريل 2015، صرح الكاتب أنه: “يتشرف بإهداء هذه الجائزة إلى سكان مدينة مراكش، الذين احتضنوه بحنوهم ومودتهم ورحبوا بشيخوخته المتعبة”.
وللاطلاع على بعض اللحظات المميزة من حياة غويتيسولو، يمكن الرجوع إلى الذاكرة البصرية للفنان الفوتوغرافي والتشكيلي أحمد بن اسماعيل، الذي يعتبر موثق الأحداث والوجوه الثقافية البارزة بمراكش، منذ ما يناهز ثلاثة عقود، حيث خلد لنا عن هذا الكاتب ألبوما فوتوغرافيا بانوراميا يختزل محطات معبرة من حياته، مثل جلوسه بمقهى “ماطيش”، وزياراته لساحة جامع الفنا، وتجواله بأزقة مدينة مراكش، علاوة على بعض المشاهد الجميلة من بيته.
مراكش مدينة الإلهام
استقر غويتيسولو بدرب سيدي بولفضايل بحي القنارية العريق، على مقربة من ساحة جامع الفنا، ونسج مع ساكنة هذا الحي، وعدد من الفعاليات الثقافية والفنية بهذه المدينة علاقات ود وتقدير واحترام، حيث كان يناديه سكان هذا الحي، وخصوصا الأطفال بـ “عمي خوان”. فمنذ سنة 1976، دأب غويتيسولو على قضاء بضعة أشهر من السنة بمراكش إلى أن استقر، نهائيا، بها سنة 1997، بعد وفاة زوجته الكاتبة الفرنسية مونيك لانج.
وبحي القنارية ذي الطابع المعماري الإشبيلي، حيث كان يسكن الطبيب ابن زهر، والذي شيد في عهد السلطان الموحدي يعقوب المنصور، كان هذا الكاتب يقضي سحابة يومه في القراءة والتأليف لا تتخللها إلا أوقات قليلة لقضاء بعض الأغراض الشخصية أو الجلوس بأحد مقاهي الساحة، خصوصا مقهى فرنسا لارتشاف كأس من الشاي المنعنع. وفي هذا الشأن، يقول الباحث والناقد الأدبي محمد أيت العميم: “لم يكن اختيار الأديب الإسباني غويتيسولو لحي القنارية بالمدينة العتيقة لمراكش كمقر لسكناه اعتباطا، بل كان من أجل القرب من ساحة جامع الفنا، واحدة من أشهر الساحات العجائبية، على صعيد الكرة الأرضية، ملهمة وجدانه وخياله، والتي لا تبعد عن مقر سكناه إلا بخطوات معدودة”، مشيرا أن هذا الكاتب قد قضى، بهذه المدينة، ما يناهز النصف من عمره في التأمل العميق في الكتابة. وبذلك، يعتبر هذا الكاتب من الأدباء والمبدعين الأجانب الأكثر شعبية لدى المغاربة، والذين استطاعوا الاندماج في المجتمع المغربي، بشكل كبير.
وفي هذا الإطار، يقول غويتيسولو: “في هذه المدينة، تعلمت “الدارجة” (العامية المغربية)، وكونت عائلتي الكبيرة: أصدقاء يكونون برفقتي دائما. بدأت قرابتي بمراكش ببعدها الجمالي- مراكش أجمل مدينة عرفت – ثم تطورت هذه القرابة، وانتقلت إلى ناس المدينة ولغاتها ونكاتها وثقافتها. لهذا، أعتبر، الآن، نفسي مراكشيا. ومن تمة، أهديت مخطوطة روايتي “مقبرة”- التي استلهمت، في جزء كبير منها، فضاء المدينة – إلى مدينة مراكش. وللسبب ذاته، كوني مراكشيا، أهديت جائزة “نيلي ساش” التي منحت لي في ألمانيا إلى مدينة مراكش. لا أعرف إن كنت مراكشيا شرفيا أو مراكشيا وكفى!”.
وعن اندماج هذا الكاتب في المجتمع المغربي، وتملكه لثقافته ولغته، يقول الباحث كريم الوردي: “لقد انغمس خوان غويتيسولو في الثقافة العربية لما اتخذ من مراكش مستقرا له، خلال ثلاثة عقود، إلى درجة أن اللغة العامية المغربية أصبحت أداته التواصلية مع سكان المدينة الحمراء، وكان يصر على التحدث بها”.
ففي هذه المدينة الملهمة، والمفتوحة على العالم، تشبع غويتيسولو بالموروث الشعبي، وتعرف، عن قرب، على فنون الحكي والفرجة التلقائية والأخاذة. فمراكش مدينة مبهرة وسوريالية، وكأنها حكاية منفلتة ومجسدة من سرديات ساحتها العجيبة، فما إن يزورها السائح الأجنبي أو الوطني حتى يعجب بعوالمها وفضاءاتها المتفردة.
جامع الفنا تراث عالمي
في قلب ساحة جامع الفنا، حيث يمتزج الحكي والموسيقى والضجيج المنبعث، من هنا وهناك، مع روائح حنطات الأكل، كان يحلو لغويتيسولو أن يتجول أو يجالس حكواتيي الساحة بمقهى “ماطيش”، وبعد أن تحولت هذه المقهى إلى مزاولة نشاط تجاري آخر، أصبح يفضل الجلوس بمقهى فرنسا، المتاخمة للساحة الشهيرة.
وحفاظا على التراث الشفهي المتميز لهذه الساحة، ناضل هذا الكاتب، من أجل جعل هذه الساحة تراثا شفهيا ولا ماديا للإنسانية، من طرف منظمة اليونيسكو، وكلل مسعاه سنة 2001 بالنجاح، وكان ذلك اعترافا عالميا بقيمتها التاريخية والفنية، وانتصارا كبيرا للموروث الثقافي المغربي.
وحسب غويتيسولو، الذي كان يلقب نفسه، بكل فخر واعتزاز، بـ “ابن جامع الفنا”، لم تكن هذه الساحة مجرد خلفية للأحداث أو فضاء للحكي والفرجة العابرة، بل كانت مصدرا للإلهام والإبداع، حيث يقول بخصوصها: “في جامع الفنا، وجدت الرواية الحقيقية التي لم أكتبها بعد، لكنها تكتبني كل يوم”، وفي روايته “مقبرة” (1980)، التي تنتمي للأدب التجريبي، والتي تعتبر أول رواية إسبانية تتخذ من مراكش فضاء محوريا لأحداثها، استلهم هذا المبدع لغة الشارع والمعيش اليومي، إضافة إلى الخيال الشعبي لرواة الساحة، مفردا لهذا الفضاء فصلا وسمه بـ “قراءة لفضاء جامع الفناء”، قام من خلاله بوصف وتحليل مكونات الساحة، التي تعتبر آخر حصون الثقافة الشفهية بالمدينة الحمراء، إذ لا يزال للحكي سحره وقدرته على إلهام المتفرج، والتحليق به في عوالم يمتزج فيها الواقع بالخيال المجنح، ولم يكن هذا الكاتب مجرد زائر عابر لهذا الفضاء السردي والترفيهي العجيب، وإنما كان فاعلا عضويا فيه، وعاشقا متيما، سكن بجواره، فسكنه حتى النخاع، وكأن القدر قيد له أن يكون شاهدا على هذا المسرح المفتوح والمفعم بالحياة، وأن يكون مدافعا عنه، ومحافظا عليه من الضياع، لأنه كان يعتبر هذه الساحة أكاديمية للحكاية الشعبية ومركزا عالميا للثقافات. وأكثر من ذلك، كان يصفها بكونها مختبرا لفهم الإنسان، من خلال تجلياته السردية العفوية، مبرزا أن الحكواتيين والفنانين الشعبيين النشيطين بها يعتبرون “حراسا للذاكرة”، إذ يمنحون الحياة للحكاية الشعبية، ويضمنون استمراريتها، عبر الأجيال.
وبعد رحيل غويتيسولو عن عالمنا، منذ ما يناهز عقد من الزمن، لا زالت ذكراه حاضرة بمدينة مراكش، ولا زال صدى دفاعه الشرس عن هذا الفضاء يتردد في أرجائه، مع كل حكاية تروى أو فرجة تمنح للزائر، وكأن روح الكاتب لم تغادر المكان أبدا. فالإنسان عابر بطبعه، لكن يبقى الأثر.
إعلامي وباحث مغربي