غزوات العصر الصعب: من سعد حداد إلى ياسر أبو الشباب

نادية حرحش
لا أدري إن كان في قلب هذه الكارثة المتواصلة متّسع للتهكم، أو حتى إن كان التهكم، بمعناه المعتاد، قادراً على وصف ما يحدث. ولكن كيف لنا أن نكبت السخرية، وقد بلغنا زمناً صار فيه رمز المرحلة “أبو الشباب” – رجل خرج من سجن تهريب المخدرات ليصبح زعيم ميليشيا يدّعي حماية المساعدات الدولية؟ تخيلوا أن تاجرا سابقاً، متهماً بارتباطات إسرائيلية، يُطرح اليوم كصورة لما تبقى من تمثيل فلسطيني. إلى هذا الحد بلغ الانحدار.
أخشى من التهكم، لأنّنا رأينا نتائجه الكارثية في دول الجوار. فمن كان يصدّق أن الجولاني، الذراع الأيمن للبغدادي، سيصبح اليوم مشرّع الشريعة والشرع في سوريا؟
ومن كان يتخيّل أن المدرج على لوائح الإهاب الأمريكيّة سيُفرش له السّجاد الأحمر، وتُراقَب تحركاته بإعجاب من قِبَل قوى العالم بأسره؟
لهذا، لا مكان للتهكم، فالحقيقة باتت سافرة لا تحتمل الزخرفة. من يصنع الإرهاب، ومن يصنع الزعامات، قد يبدون خصوماً على السطح، لكنهم في العمق متفقون على قواعد اللعبة. نحن لسنا أكثر من أحجار مبعثرة على رقعة شطرنج، يتناوب على تحريكها لاعبون محترفون — نتنياهو من جهة، وآخرون مثله من الجهة المقابلة — وكل منهم يضحي بما يشاء من الأحجار لتسجيل نقطة إضافية. لا الرقعة تعنيهم، ولا الأحجار تهمهم، فطالما أن الحجر لا يملكه صاحب اللعبة، يبقى بلا قيمة مهما تغيّر موقعه أو بدا حجمه أكبر.
وإذا تابعنا الأحجار التي يُحرّكها نتنياهو، ومن يلاعبه من الجهة المقابلة، نرى كيف تُستخدم كجنود لا أكثر — جنود يُضحّى بهم عند أول فرصة، ما إن تحين لحظة استبدالهم بقطع أخرى أنسب للمرحلة. والشعب الفلسطيني، منذ آخر انتخابات، ما زال يراوح مكانه، بينما بعض تلك الأحجار بدأ يصدّق أنه حصان، وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، فتوهموا أنهم وزراء، وحتى أحدهم صدّق أنه ملك يتربّص وزراؤه ليحلّوا محلّه.
قد يبدو مشهد الرقعة واضحا تماما من زاوية نتنياهو، الذي لم يرَ في الفلسطينيين — إن اضطرّ لرؤيتهم أصلاً — أكثر من جنود يُحرّكهم حسب مقتضى مصلحته. هو الذي بنى مسيرته على إنكار أي هوية فلسطينية مستقلة، وعلى رفض مبدئي للتعامل مع “عربي” بوصفه نِدّا سياسيا. ومثال منصور عباس ليس استثناءً، بل تجلٍّ فاضح لهذا المنطق. نتنياهو، وجد في عباس جنديا متاحا، فلوّح له بمقعد وزير، وجعله يصدّق — ولو للحظة — أنه يمكن أن يكون لاعبا في اللعبة، لا مجرد أداة إضافية فيها.
وللإنصاف، قد لا يكون من العدل وضع منصور عباس في ذات الخانة مع ما سيأتي، أو ربما… يمكن ذلك. فمن يضع أمله في مصداقية نتنياهو — رجل بنى تاريخه السياسي على إنكار الوجود الفلسطيني — ثم يراهن على موقع في حكومته، لا يخرج عن كونه حجراً على الرقعة، ينتظر لحظة الركل خارجها حين تنتهي أن يتباهى — بل يتفاجر — نتنياهو باستخدام المدعو ياسر أبو الشباب دون أدنى حرج، ليس مجرد انزلاق تكتيكي، بل تراجع متعمّد نحو قاع جديد من الانحدار السياسي.
فبعد أن استُهلكت السلطة الفلسطينية في الضفة، وتحولت إلى ذراع أمنية للاحتلال تُطارد المقاومة تحت غطاء “المؤسسة”، قرر في غزة أن يخلع حتى هذا الغطاء، ويتعامل علناً مع ميليشيا مارقة، يقودها تاجر مخدرات سابق، سبق أن خدم في حماية مكاتب السلطة، وتربطه صلات وظيفية بشخصيات بارزة في أجهزتها الأمنية. هذه الميليشيا — “القوات الشعبية” — لا تُخفي تنسيقها مع الجيش الإسرائيلي، وتؤدي اليوم دوراً شبيهاً بالنموذج الأميركي في افغانستان والعراق واليوم… سوريا: تأمين مساعدات، فصل السكان عن المقاومة، وخلق كيان مسلح ينتظر شرعنة مؤسساتية لاحقة.
ولمن يعتقد أن هذه الاستراتيجية جديدة، فليتذكّر سعد حداد، الضابط اللبناني الذي انشقّ عن الجيش ليؤسس بدعم إسرائيلي “جيش لبنان الجنوبي” في سبعينيات القرن الماضي. تحوّل حداد إلى “زعيم” محلي في الجنوب، مدجّج بالسلاح الإسرائيلي، يتحدث بلغة “الأمن والحماية” بينما يمارس دور الوسيط القمعي بين الاحتلال وأهله. كان وجهاً لبنانياً لسياسات إسرائيلية، يختبئ، كخلَفه أنطوان لحْد، خلف خطاب وطنيّ مزيّف. وأبو الشباب، في شكله ومهمّته وتبريراته، لا يبدو استثناءً، بل استكمالاً لسلسلة وكلاء الاحتلال، هذه المرّة بإضافة داعشيّة البنية والممارسات.
أما الرقعة، فتبقى مليئة بجنودٍ مهملين — لا حراك لهم سوى التزاحم على هامش اللعبة، ينتظرون بنظراتٍ ذليلة من يحرّكهم أو يلتفت إليهم. هؤلاء ليسوا قادة، بل سماسرة مرحلة، يتنافسون على موقع داخل اللعبة لا لصالح الشعب بل لنيل فتات نظرة من “اللاعب الأعلى”. لا جدوى من السؤال: كيف وصلنا إلى هنا؟ لقد كنّا هناك دوماً، فقط كنا نخدع أنفسنا. هذه لحظة انكشاف، لحظة سقوط الأقنعة. حين يتحوّل القرار إلى متاجرة، والشعب إلى عتبة يُداس عليها لصعود المتسلقين، لا يبقى سوى العار، والانتظار على أمل أن يلتفت المحتل إلى عبيده.
هذا هو البديهي والنتيجة الطبيعية لقبول شعب بعدم اجراء انتخابات لما يقرب من عشرين عام. وبالتالي فإن البديهي ان يحكم في وقت الضياع والانهيار والانسحاق أبو الشباب!!
ما الذي نتوقعه، ونحن نشاهد منذ أكثر من عشر سنوات كيف يُكافأ الفساد، ويتحوّل من جريمة إلى قاعدة حكم؟ ما الذي ننتظره، وقد دفنّا القانون، وسلمنا مفاتيح المجتمع للجاهة والعشيرة والحزب، حتى صار معيار القيادة عدد الولائم لا الكفاءة، وصوت التنظيم لا صوت الناس؟
ماذا نتوقّع، ونحن نشهد كيف تُخنق الكلمة ويُسحل صاحبها، كما حدث مع نزار بنات — ذاك المفكر الشعبي الصلب، والمرشح الذي حلم بصندوق اقتراع فوُقِّع بصندوق الموت؟ قُتل بدم بارد على يد من وُكِّلوا بحمايته، فقط لأنه تجرّأ وقال الحق. كان الناقدَ الأوضح في مواجهة فساد السلطة وتنسيقها الأمني مع الاحتلال، ولم يخشَ تسمية الأشياء بأسمائها. دفع حياته ثمناً لكلمته — كلمةٍ لا تزال تصرخ في وجوههم جميعاً.
ما الذي نتوقّعه، وقد غدت العمالة شهادة عمل، والتخابر والتنسيق سباقاً مفتوحاً، وتسليم الناس تذكرةً للترقية ووسام شرف يُعلّق على الأكتاف؟
ما الذي نتوقعه، وقد تحوّلت المقاومة إلى ساحة مستباحة لكل سفيه أو مرتزق أو عميل، يدلو بسخافته وحقارته، ويغمسها في وحْل التنسيق وتبرير عدوان الإبادة على غزّة؟ ما الذي نتوقعه، وشعب يُباد في غزة ويُطارد في الضفة، والقلوب انكمشت، والعيون طُمِست، والبصائر أُعدمت، والضمائر اختفت وتبخرت؟
فأهلاً بأبي الشباب وميليشياته، ليُحقّ “الحق” الغائب، بيد عصابة صار اسم قائدها عنواناً لانحدار هذه المرحلة، أمام قيادة أخرى تدثّر نفسها بعباءة الشّرعيّة. ومن دعم سعد حدّاد في تأسيس جيش لبنان الجنوبي وتحالف معه ومع خلَفه أنطوان لحْد، لن يتردّد أن يفتح لحليفه أبو الشباب الطريق ليَسير غازياً لعصرٍ أصابه العجز فشاخ وتلاشى، ولم يبقَ لمُنتظريه إلا وجع العدم.
كاتبة فلسطينية