ألعاب السياسة: ثلاثة أمثلة من أوكرانيا إلى كاليفورنيا مروراً بإيران

علي الزعتري
تكمن فداحة العملية الأُوكرانية أنها في القلب الروسي ولا يمكن معرفة الضرر إلا بعد الاطلاع على التفاصيل. تلك التي نشرها الإعلام تقول بانغماسٍ غير مسبوقٍ في الدولة الروسية قد لا يقف على حد التوغل الجغرافي بل قد يشمل التواطؤ الذي سمح بالتسلل الأُوكراني القاتل. هذه دولةٌ نوويةٌ تخترقها شاحناتٌ فيها طائراتٌ مسيرة متفجرة تنجح في التوقف علناً في الشوارع والساحات لتنفتح أسقف الشاحنات و تنطلق منها الطائرات لتقصف أهدافها بضراوةٍ ودقة. عمليةٌ تمثل القمة في التخطيط والتنفيذ و الهُوَّةَ في الوقاية الروسية. هذا بالطبع إن صدقت وسائل الإعلام عن التفاصيل. فإن كانت أُوكرانيا تستطيع أن نقوم بهذه العملية فكيف مثلاً لو كانت أرادت أن تزيد عيار الضربة؟ هذه روسيا العملاقة المرعبة تتحداها أُوكرانيا من داخل أسوارها فكيف لو لم تكن أوكرانيا التي تتحدى وكانت مثلاً أمريكا؟ ليس بهذه السهولة بالطبع. لكن إذلالَ روسيا بضرباتٍ من وكيلٍ أشدُّ أذىً من ضربها من الند، مع علم الجميع أن الوكيل لا يتصرفُ دون إذنِ أو معرفة الند. ثم يطلب ترمپ من پوتين عدم الرد! هكذا. وعندما ردت روسيا بقصفٍ متواصلٍ لم يختلف الرد الروسي عن تكرار السابق فلم يتساوى رد الفعل الروسي مع الفعل الأُوكراني. هكذا بدى. فما الذي اختلف؟ هل ستنتهي هذه الحرب اللعينة فيما أوروبا تنفخ في نيرانها و ترمب يحاول حلها بفنجان قهوة و صفقة معادن و بوتين له شروط لا توافق عليها أوكرانيا و أوروبا؟ لا أحد يعلم.
تنتقل العدسة سريعاً لأخبارٍ من إيران أنها نجحت كما قال المتحدثون باسمها أن تنقلَ كنزاً من المعلومات النووية الصهيونية في عمليةٍ سريةٍ وأن العملية تمت بعد تخطيطٍ فذٍّ. تجاهلت عديد وسائل الإعلام هذا الخبر فيما طارت به غيرها إشادةً و تحليلاً. والحقيقة في بطون المسؤولين. تريد التصديق و يوقفك أن عمليةً مثل ما وصفوا ستنافس في التخطيط والتنفيذ أشهرَ قصص “المهمات المستحيلة”، فهي مهمةٌ مستحيلةٌ بكل معيار. فهذه “إسرائيل” و حلفاءها و برنامجاً عسكرياً نووياً تخفيه منذ منتصف الخمسينات ولا تعترف بوجوده حتى وكالة الطاقة الذرية ولا يجرؤ مسؤولٌ أن يجلبه للنقاش في الوكالة أو مجلس الأمن أو الإعلام. فكيف اخترقت إيران الحُجُب و كيف حصلت على الكنز ونقلته وهي التي تخضع لرقابة كل وكالة تجسس في العالم؟ وإن نقلت فعلاً ألا يجوز أن تكون العملية شيئاً من معارك التجسس المضادة لأن “إسرائيل” و حلفاءها لا يتوقفون عن تخريب التقدم النووي الإيراني فماذا لو كانت الوثائق “حصان طروادة” سَهَّلت فيه “إسرائيل” العملية الإيرانية لتخترق هي إيران؟ لا أحد يعلم. لكنني لا أرتاح للبطولات وظهور القائد والوزير ليشرحوا كم هم أذكياء فالتغني بالإنجازات أتى سابقاً بصدماتٍ متتاليةٍ بينما “إسرائيل” تفعل العجب العُجاب في السر و عندما تنجح لا تُصَرِّح أنها وراء “العَمْلَة” وإن صرحت ففي جعبتها الكثير المخفي. واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان أم أنها ألاعيب السياسة في خضم المفاوضات و إخراج “الجوكر” والتلويح به؟ هل هي حركةٌ جادةٌ أم تهويلاً؟ لا ندري ولكن اللعب بعقارب الساعة النووية لا بد يلدغ إن لم تلعبها جيداً.
في واشنطن تدور الألعاب السياسية وكأن البيت الأبيض مدينة ملاهٍ أو حانةً مما نراه بأفلامهم. يفاجئك أحدهم بكشف المستور دون تذكرة دخول والانتقال من تبادل الكؤوس لتبادل اللَّكمات. التوادد الأمريكي الرئاسي ليس غريباً فالثقافة الأمريكية فيها عفويةَ التعامل التي تعززها النزعة والرغبة أن يظهر المسؤول فيها صديقاً ومرحاً وظريفاً حتى في مكتبه الرئاسي البيضاوي أو وهو يتابع في الغرفة المُحَصَّنة اغتيال عدو. يتحمل التنكيت بحقه، كما يقوم ببعض التصرفات غير الراشدة التي لا يجوز أن تصدر من مسؤولٍ كبير مثل الرئيس الأمريكي. لكنه هو الوحيد في العالم الذي يعفو عن ديكٍ روميٍّ كل عام! وهو الوحيد الذي يحضر حفلاً سنوياً يتبادل فيه النكات اللاذعة مع إعلاميين وسياسيين. باراك أوباما لَسَعَ بنكاتهِ دونالد ترمب الذي لم ينسَ الموقف وحَقَدَ عليهِ. لكن ترمب أخذ التوادد الوقح لمرتبةٍ جديدةٍ وازدحمت لقاءاته بالحماقة مع مرؤوسيه ومستشاريه وزوَّارهِ من قادة الدول. إيلون مسك لَقَّنَ ابنه ذو السنوات الخمس فَرَدَّدَ الصبي ما سمعه حينما قال لترمب بمكتبه أنه ليس رئيساً، وأزاحه ترمب بيده. وما فعله مسك مع إبنه هو ما يؤمن به من أن ترمب لا يصلح رئيساً، وهو استنتاجٌ يتفق عليه القاصي والداني. لكن ترمب لاحظها واحتفظ بها لأن المصلحة كانت تجمع بينهما وكان لا بد من وصولها للاصطدام فإنجازات مسك وصلت لنهاياتها وتمدده خارج الإطار مرفوض فخرج الخلاف للعلن بحماقة الجهتين، بين رئيسٍ أهوجٍ لا يعرف لسانهُ السكوت و رجلِ أعمالٍ يريد أن يبتلع البيت الأبيض والقارة والعالم والكون. كان حتماً الصدام العلني وتبادل الإهانات غير اللائقة. لكن الثقافة الأمريكية تسمح بهذا التناوب بين الإهانة والنفاق و تبادل المصلحة. في السياسة تختبئ المبادئ عندما تتفق المصالح و إن كان ترمب و مسك اليوم في إشكالٍ ما فلا بد أن يصلا لاتفاقٍ ما.
التهدئة أو التعاون المفاجئ أو الانتظار للانتخابات القادمة أو تعظيم المصلحة بما يُبقي الاثنين فاعلين لكن كلٌّ بعالمه وعندما يلتقي العالمين تُوَفِّقُ المصلحة المادية بينهما. كما يقولون، لِكُلٍّ ثمن و لا يوجد غذاءٌ مجاني بين السياسيين. في الأثناء تثور كاليفورنيا وليست هذه أول ثوراتها و لن تكون الأخيرة فهي ثارت عُنفاً عُنصرياً وإجرامياً مراراً و سِلمياً، ضد حرب فيتنام. اليوم معركتها مع ترمب الذي يريد تجميع المهاجرين غير القانونيين و ترحيلهم. طالما كانت كاليفورنيا سوق عملٍ للمهاجرين الشرفاء والوضعاء، القانونيين والمتسللين، ولم يخرج التنافس في الشارع بكل براءته و بشاعته عن قدرة الولاية حكم نفسها بقدراتها، لكنها ترى في ترمب “نيرون” جديد يريد أن يُطيحَ بهذه الولاية الغنية جداً و المتحررة جداً وليس فقط التحكم في الهجرة غير القانونية. هي ولايةٌ لو كانت دولةً مستقلةً لكانت رابع أقوى اقتصادٍ في العالم تمتلك قوةً عاملةً تفوق ١٩ مليون نسمةً يساهم فيها المهاجرين بما يزيد عن ٤٠٪. إذاً هي لوثةٌ لم يسبق لرئيسٍ أن انتابته حين يريد أن يحكم باليد الطويلة في نظامٍ فيدرالي لا يعطي الرئيس يداً طويلةً في شأن الولايات وأظنه سيخرج منها خاسراً. لن تكون كاليفورنيا في أمريكا غير ما هي عليه ديموقراطية الهوى و إن أراد ترمب لي ذراعها فستلوي هي إدارته و استمراريته.
لا يمشي ترمب دون مشاكل يثيرها ومشاكل ورثها و أحلاماً يريد تحقيقها داهساً للمبادئ والأشخاص والقيود الدبلوماسية لو أراد، ولا يخشى أن يدخل معارك تُدميه أو تفضحه فهو قَرَّرَ أنه فوق الشبهات وأنه حكيم العالم وأن لديه وحده الحلول الناجعة. عندما يتناول مواضيع داخلية ودولية شائكة فهو قد ينجح في حل بعضها وإن فشل فسيقول لنفسه ولنا أنه حاول، وسيعود سعيداً للآلة الحاسبة ليحسب كم ربح وكم خسر والباقي فليذهب للجحيم. كل زعيمٍ من وزنه يمارس الألاعيب السياسية ذاتها لكن من وراء الستار. عندما يأمر القيصر پوتين يُطاع فأمره أَحَدَّ من النصل البارد ولا يريد أحدٌ تجريبه. لكنه يفعلها بأدب وكياسة إلا عندما استعلى ڤاغنر في روسيا وحاول في غزوة موسكو فانتهى الأمر به قتيلاً في تحطم طائرة ونعاهُ پوتين! بإمكاننا سوق الأدلة من الشرق للغرب وكلها ستقول أن الألاعيب السياسية مُمارسةٌ مشروعةٌ إن انتصرت وفضيحةٌ حين تخسر. إنها ألاعيب السياسة وليس أفضل، أو أسوأ، من تاجرٍ فاجرٍ يلعبها أو زعيمٍ مُلهمٍ. والله أعلم.
الأردن