أمل سبتي: الذاكرة لا تُقيد: قوافل الأرض وسفن البحر… رسائل صمود تزلزل عروش الاحتلال

أمل سبتي: الذاكرة لا تُقيد: قوافل الأرض وسفن البحر… رسائل صمود تزلزل عروش الاحتلال

أمل سبتي

في قلب الحصار الإسرائيلي الخانق على غزة، تتشكل تحركات شعوب لا تستسلم للصمت. من البر والبحر، تنطلق مبادرات تتحدى الاحتلال، لا بالمدافع، بل بالفعل الرمزي، بما يحمله من شجاعة أخلاقية ومعانٍ إنسانية عميقة. قوافل انطلقت من تونس عبر ليبيا ومصر، وسفن أبحرت عبر المتوسط، لتصل -أو تحاول الوصول- إلى غزة، غير آبهين بالحدود والأسلاك والعسكر. لأنها ببساطة، قوافل ضمير لا يمكن اعتقالها.

 

قوافل الصمود: عندما تتكلم الشعوب بصوت الحرية

 

انطلقت مؤخرًا قافلة “الصمود” المغاربية من تونس، تضم أكثر من 1700 ناشط، متوجهة إلى معبر رفح، في محاولة جديدة لكسر الحصار. هذه القافلة، التي انضمت إليها منظمات من ليبيا وداعمون على امتداد الطريق، لا تعبّر فقط عن تضامن رمزي، بل تحمل رسالة سياسية واضحة: الشعوب حاضرة، صامدة، ولا تعترف بشرعية الحصار.

 

هذه القافلة هي امتداد لذاكرة طويلة من التضامن الشعبي العربي مع فلسطين، وتأكيد على أن الحدود السياسية لا يمكنها خنق الروابط التاريخية بين الشعوب. من تونس العاصمة إلى الجنوب الليبي، ثم إلى مصر، وصولاً إلى غزة، ترسم القافلة مسارًا جديدًا للمقاومة الشعبية، مسارًا يُعيد وصل ما قُطِع.

 

“مادلين”: سفينة تم الاستيلاء عليها، لكنها لم تُهزم

 

على الضفة الأخرى من هذه الذاكرة المتحركة، كانت سفينة “مادلين” تبحر نحو غزة، حاملة نشطاء ومتضامنين عُزّل، اختاروا أن يواجهوا الحصار بحقيبة أمل. في 9 يونيو/حزيران الجاري، اعترضتها البحرية الإسرائيلية واستولت عليها بالقوة، مانعةً وصولها إلى غزة. لكن رغم الاستيلاء، لم يُسجل الاحتلال نصرًا؛ ففعل “مادلين” سبق احتجازه، ورسالتها وصلت قبل أن تبلغ الساحل.

 

هذه ليست المرة الأولى. فمن “مافي مرمرة” إلى “مادلين”، الاحتلال يتعامل مع السفن المتضامنة كتهديد رمزي عميق. ليس لأنها تحمل سلاحًا، بل لأنها تفضح الحصار، وتنزع عن الاحتلال أقنعته أمام العالم. كل سفينة تعترضها إسرائيل، تكشف كم أن هذه الدولة تخشى من صوت مدني حر، يطالب فقط برفع الظلم.

 

لماذا يخشى الاحتلال هذه الرموز؟

ما يُرعب الاحتلال ليس السفن نفسها ولا القوافل، بل ما تحمله من رمزية وذاكرة. فحين قام جيشه في نوفمبر 2023 بتدمير النصب التذكاري لضحايا “مافي مرمرة” بعد سيطرته على ميناء غزة، لم يكن يفعل ذلك لأسباب عسكرية، بل بدافع سياسي ونفسي واضح: محو أثر المواجهة التي كسرت هيبته أمام العالم.

 

الاحتلال يعلم أن هذه الذاكرة تُلهب الضمائر، وتُجدد الأمل، وتفتح النقاش في كل مكان عن شرعية الحصار ومشروعية المقاومة. لذلك يسعى لمحوها، ظنًا أنه بذلك يُسكت التاريخ. لكنه ينسى أن كل مرة يدمر فيها رمزًا، يوقظ في المقابل ألف رمز جديد.

 

مقاومة بلا بنادق: القوافل والسفن كأدوات نضال

ليست كل أشكال المقاومة مسلحة. أحيانًا، تكون قطرة ماء يحملها طائر نحو نار مشتعلة أكثر فاعلية من صاروخ، لأنها تفضح الصمت، وتصر على المحاولة. تمامًا كما وصف بيب غوارديولا حين استلهم هذه القصة في حديثه عن غزة، مؤكدًا أن الفعل الفردي، مهما كان صغيرًا، هو مقاومة في وجه الخنوع.

 

القوافل والسفن هي هذا الفعل الرمزي المستمر. قد لا تكسر الحصار فعليًا، لكنها تخلخل شرعيته، وتُبقي صورته أمام الرأي العام العالمي موضع مساءلة دائمة. وهي، في هذا السياق، فعل سياسي حقيقي يعكس رغبة الشعوب في ألا تكون شريكة في الجريمة بالصمت.

 

رسالة الشعوب: نحن مستمرون.. وأنتم خائفون

هذه التحركات ليست موجات موسمية، بل تتكرس مع كل محاولة. كل قافلة تُنظّم، وكل سفينة تُبحر، تؤكد أن الذاكرة لا تموت، وأن الشعوب، وإن بدت صامتة في لحظات، فإنها حين تنهض تُربك الحسابات. فالمعركة اليوم ليست فقط معركة صواريخ وحدود، بل معركة إرادة وكرامة وهوية.

 

الاحتلال، بكل أجهزته، لا يستطيع محو هذا الشكل من المقاومة. لأنه ببساطة، لا يستطيع أن يحاصر إرادة شعب، أو يُطفئ صوتًا حرًا. بل إن كل فعل قمعي يقوم به تجاه هذه المبادرات، يتحول إلى أداة إدانة ضده، وتوثيق جديد لظلمه.

 

الخاتمة: البحر لا يخون، والذاكرة لا تُطمس

قد تُصادر “مادلين”، وتُغلق الطرق في وجه قافلة “الصمود”، لكن الرسالة لا تُصادر، ولا تتوقف. الذاكرة التي تحركت من تونس، ومن قلب سفن البحر، ستصل إلى غزة ولو بعد حين، لأنها ذاكرة شعوب قررت ألا تنسى، وألا تخون.

 

وهكذا، تبقى القوافل والسفن علامات فارقة في تاريخ مقاومة الحصار، رسائل من الضمير العربي تقول: لا تحاصروا غزة أكثر مما هي محاصرة.. فنحن معكم، وكل شبر نخطوه نحوكم هو نداء حياة.

كاتبة تونسية