بشير عمري: المخاطر المترتبة على إبعاد السياسة عن جوهر الوعي الوطني

بشير عمري
حين يجمح الصراع حول السلطة وتأخذ القوة فيه منحى الثيران في التقاتل وفرض الإرادة بالنار بدل الأفكار، عادة ما يلجأ المنتصر في الأخير إلى الاستمرار في إدانة خصومه بالأمس الذين انتصر عليهم، كمرحلة الثانية يروم من خلالها توجيه الضربة القاضية لهم، وفي سياق الإدانة المستمرة تلك، ستوظف كل الأدوات ويتم استحضار التاريخ واستعماله واعماله تحريفا وتزييفا، إلى أن يتم عزل العقل الجمعي عن الحياد وتستكمل عملية إلحاق الكل أو الجل بالأطروحة المنتصرة بالقوة، وساعتها فقط تبدأ عملية الاطباق على مجتمع ما بعد الحياد وهذا بمسح قصة الصراع الأول نفسها وأبطالها وجعل لحظة الالتحاق القاعدي بالأطروحة المنتصرة هي بداية والوجود السياسي والوطني للمجتمع مع الحرص الدائم على أن تكون هي النهاية أو الأفق المرجو بلوغه.
والحرص هنا على جعل لحظة الانخراط الجمعي في أطروحة الطرف المنتصر هي منتهى الافاق، لهي أخطر مراحل الاستمرار حكم المنتصر في الصراع ذلك لأنه سيجد نفسه مجبرا على أن يواجه لاحقا وعيا متناميا ومتمددا بأسئلته في الماضي، الذي تم محوه أو تحريفه بكل الوسائل، والحاضر بآلامه والمستقبل بآماله، من هنا تبدأ العرى تتفكك والرؤى تتفجر أمام قوة دفع التساؤلات والرغبة المجتمعية في الفهم خارج دائرة الاطباق على الوعي.
ساعتئذ فقط سيحضر السؤال المنطقي: إلى أي مدى يمكن أن يستمر الطرف المنتصر في الصراع حول السلطة في اركاس المجتمع داخل دائرة الاطباق الأول في وعيه السياسي والوطني؟
وهل يمكنه من خلال سعيه لنزع السياسة من مركزية الوعي الوطني، الوعي الذي من خلاله تحققت معاني ومعالم الوطن في خيال وواقع المواطن، أن يستمر بفكره في فرض اطروحته بشأن التاريخ والسياسية والاقتصاد في المجتمع؟
الثورة التي تشمل الماضي !
حسب بعض الثوار المغامرون بالوطن أو المغامرون بالثورة في أكثر من تجربة وطنية، أن نجاحهم في بلوغ السلطة واتمام الاحكام عليها، قد يتيح لهم إعادة تشكيل سمات وملامح الوطن وفق أطروحات جديدة، لا تكتفي بحقيقة المرحلة الثورية التي قادوها، وأفق ما تتطلع إليه، بل تمتد إلى ما قابلها إلى غاية تاريخ النشأة الوطنية أو القومية للبلد، لا سيما إذا كان هذا البلد قد عاش مرحلة ما قبل الدولة تحت حكم الاستعمار أو الحماية، فساعتها يصبح التلاعب بتاريخ ما قبل الثورة، في ظن الثوار، قابلا للتحقق، وبموجب ذلك تستحدث الهويات وتصاغ المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وذلك وفق رؤية وإرادة الثوار الذين سيكونون ساعتها لا بصدد حيازة السلطة وإنما اغتنام مجتمع بتراثه ومورثاته.
إن هذا الاستحواذ الثوري على المجتمع بعُجره وبُجره، والسعي الحثيث عبر كل أدوات القمع الأمني والمعرفي لفرض الاطروحة الثورية على الماضي والحاضر والمستقبل، من خلال ثنائية التحريف والتزييف لحقائق ما قبل الثورة، لتغدو له بلا أدنى شك تباعات غاية في الخطورة على كل البنى المجتمعية، وتطور حركة العقل فيه من النخبي إلى العمومي، ذلك لأنه كلما استطالت مدد مشروعات التحريف والتزييف كلما صعب معها العودة إلى الحقيقة المجتمعية الأولى التي سبقت الثورة والثوار، فتبرز أهم عناصر التفكك الوطني ما تحمله من مخاطر على وحدة المجتمع والدولة.
القطائع الحتمية !
من أولى عناصر التفكك التي ستجد لها الأرضية الخصبة للظهور مع استدامة عمر التحريف والتزييف، هي القطائع مع كل ما له معنى مشترك، سواء مما ينتجه الخطاب الوطني (الثوري) أو مما تنتجه دوائر الانتماء الخاص والضيق داخل الوطن، والقطيعة لا تعني فقط عدم التواصل والاتصال بالخطاب الرسمي أو الوحدوي الثوري، وإنما تعني القيام الذاتي بعملية استكشاف الذات ومعاودة فحص التاريخ خارج، ليس فقط الأطروحة الرسمية، وإنما كل الأطروحات الفرعية الأخرى.
وفي المجتمعات المركبة أو المتعددة أو المتنوعة، عادة ما يحدث فيها هذا الانشطار عن أطروحة المركز الثوري المهوس بالاستمرار في استحواذه على حقيقة المجتمع وفق أطروحته الثورية من خلال نطاقات الزمن الثلاثة الماضي، الحاضر والمستقبل، في فرنسا التي تعيش حاليا ثورتها جمهوريتها الخامسة، لا تزال عديد المسائل المرتبطة بحقائق التي، سواء تلك التي سبقت أو تلت الثورة، محل تفاعل واشتعال، منها ما يتعلق بالهويات الفرعية، كما هو الشأن مع الباسك والبروتون، ومنا ما يتعلق بما جرى في أثناء الحربين العالميتين لا سيما الثانية منها، أين ظهر الشرخ الوطني والسياسي الكبير الذي لا تزال تدور حوله عديد الأسئلة ذات الصلة بحقيقة حكومة فيشي للمارشال بيتان التي راجع الكثير من فطاحل التاريخ السياسي والعسكري لفرنسا وعظماء الاستراتيجية ووجدوا الكثير من الفوائد للهدنة التي وقعها مع الالمان، مكنت الحلفاء من الانتصار في الأخير، على النازية بأوروبا، ما دعا البعض، مستفيدا من هامش الحرية الاكاديمية والسياسية وحتى العسكرية لمن احيلوا على المعاش، كالرائد ريموند ماتي، صاحب كتيب الشهير “دراما الضمير للجيش الفرنسي 1939-1943” كي يطالب بإعادة النظر في تاريخ فرنسا لما بعد الحربين العالميتين.
مثل فرنسا إسبانيا، التي يعنف فيها الباسك وبدرجة أقل الكتالون في رفض إرادة الاستحواذ المركزي على كل معاني الوجود الوطني، بل إن الباسكيين يرفضون الانتساب إلى اسبانيا جملة وتفصيلا، لشعورهم بالتميز الكلي عن خصوصيات المركز ورفضهم أطروحته المفسرة للكيان الاسباني الموحد، وهذا على الرغم من الحكم الذاتي التذي يستفيد منه هذا الإقليم.
نشوء العدوات بين الفروع
من بعد أن تنشأ القطائع من خلال بروز دوائر ذاتية وفروع خاصة ترفض الاطروحة الثورية الوارثة بالقوة للحقائق التاريخية للبلد، تبدأ بدورها هاته الدوائر والفروع تسعى للنقض المشروع الثوري الرسمي، وإنما للمشاريع أو الاطروحات الذاتية والخاصة التي تشبهها، وبذلك يدخل البلد مرحلة أعمق من بداية التفكك وهي مرحلة العدوات فيما بين المكونات المتنوعة والمتعددة في المجتمع، حيث تغدو كل واحدة منها ساعية لأن تكون هي المركز وهي الحاملة للحقائق الوطنية في التاريخ.
ويزداد الأمر تأزما حين يبلغ فيه السؤال حول طبيعة العيش المشترك وشرعية الوجود في الأرض، وبالتالي نكون بصدد الارتجاع إلى قلق سؤال النشأة الوطنية، وهذا ما يسود الخطاب العربي اليوم لما بعد الربيع العربي، إذ لم يخلُ وطن واحد من بعد سقوط أنظمة الثورة والاستقلال، لم يعرف سجال الشرعية في الوجود التاريخي على الجغرافية القطرية، وصارت ترفع اعلام خاصة، وتشهر معالم انتمائية ضيقة لا تلتقي فيها ولا تتفق حولها كل المكونات.
فقدان المجتمع للثقة في واقع قيادته وقادة وقاعه
كل تلك التداعيات ستدفع أجيال المجتمع المنفصلة عن مركزها وعن بعضها البعض فيما يتعلق بالمسألة الوطنية وتفسير التاريخ الوطني وتحقيقه – تدفع بها – فقدان الثقة النهائي بكل قيادات البلد مهما تغيرت، طالما أنها قادمة من مرجعية الثوار والثورة، بل وقد تظهرا في حل تام مع كل سرديات الاجماع الوطني، وثوابته، وقد تبدى الأمر في تجربة ما بعد الربيع العربي، أين فتح الباب على مصرعيه لنقض مشترك الثوابت والمقدسات التي شكلت عناصر الوحدة والمشترك الوطني.
وأمام الانفكاك المتواصل من الخطاب الرسمي وجموح الخطابات الخاصة حول التاريخ وحقائق الكينونة الوطنية، يصخب الوضع وتنتشر الفوضى فيسأم الناس لتبدأ السياسة في فقدان وهجها الشعبي، بل وقد تتحول إلى نشاطات موسمية لا تعدو في بعدها أن تظل عمليات تمثيل ولعبة لإعطاء شرعية ما يستكمل من عمل مؤسسي ودستوري بلا انتماء لقيم أو وفاء لأفكار أو ارتباط بتشكيلات أو تيارات، ولحظتها سينتج هذا الواقع مسخ سياسي في المجتمع يعوق بالحتم تحقيق المجتمع السياسي الأصيل الذي يحمل المعاني والقدرة على ضبط السلطة في كل مستوياتها وأشكالها. .