نجاة عبد الرحمن تكتب: خدعة جحا

نجاة عبد الرحمن تكتب: خدعة جحا

في ظل التدهور المتسارع للأوضاع في قطاع غزة، ومع اشتداد الخناق على أكثر من مليون فلسطيني عالقين في دائرة من الجوع والدمار، تبرز سيناء من جديد كأرضٍ حدودية تتقاطع فيها الحسابات الإنسانية مع التحديات الأمنية والدبلوماسية، والسعي إلى فرض الهيمنة الصهيونية على الأراضي المصرية لتمرير سيناريو سايكس بيكو 2.

وفي تطور خطير، أعلن الجيش الإسرائيلي مؤخرًا العثور على نفق تابع لحركة حماس تحت مستشفى خان يونس الأوروبي، وداخل النفق وُجدت جثة محمد السنوار، شقيق القائد العام لكتائب القسام، ما يزيد من التوترات حول استخدام المنشآت المدنية لأغراض عسكرية.

من الجهة الأخرى، تتابع مصر تطورات غزة بقلق بالغ، دون أن تغفل أهمية حماية عمقها الاستراتيجي في شمال سيناء. 

السلطات المصرية منعت مسيرة نشطاء أوروبيين يقودها بعض الموالين للكيان و الأجندة الصهيونية، كانوا يعتزمون التوجه إلى معبر رفح تحت زعم حملة تضامن مع غزة. ورُحّل العشرات منهم، وأُعيد بعضهم من مطارات القاهرة والعريش، فيما شددت قوات الأمن الرقابة على كل التحركات في محيط رفح والعريش، في رسالة واضحة: “سيناء ليست ساحة مفتوحة لأي تحرك خارج الإطار الرسمي”، و لن تكون مسمار جحا.

التحركات المدنية غير المصرح بها تُعد تهديدًا محتملاً في منطقة تعتبرها مصر خط دفاعها الأول ضد أي محاولات اختراق أو تهجير قسري للفلسطينيين، وهي سيناريوهات لطالما حذّرت منها الدولة المصرية، معتبرة أن أي مشروع لإسكان فلسطينيين في سيناء؛ هو خط أحمر لا يمكن تجاوزه.

وفي موازاة التحديات الأمنية، تسير الدولة المصرية في خِطَّة تنموية طموحة في سيناء، فمنذ سنوات، يجري تنفيذ مشروعات لربط سيناء بوادي النيل عبر أنفاق وشبكات طرق، إضافة إلى بناء مدن جديدة، موانئ، ومراكز خدمية، والهدف المعلن هو خلق “كوريدور تنموي” يجعل من سيناء منطقة جذب حيوية لا ساحة صراع.

تجد مصر نفسها اليوم في موقف معقد، تُوازن فيه بين واجبها القومي في حماية سيناء، ودورها التاريخي والإنساني تجاه الشعب الفلسطيني، ويبقى المشهد مفتوحًا على كل الاحتمالات: انفجار أمني، مبادرة سياسية، أو كارثة إنسانية غير مسبوقة، وفي كل سيناريو، تبقى غزة وسيناء مسرحًا لصراع أكبر من الجغرافيا، بل مواجهة مشروع الشرق الأوسط الكبير.

منذ بدايات الاستيطان الصهيوني في فلسطين، لم تكن مصر غائبة عن المشهد- بل كانت أول دولة- ولا تزال التي حملت على عاتقها الدفاع عن الشعب الفلسطيني، سياسيًا وعسكريًا وإنسانيًا، في وجه أطول وأعقد صراع عرفه العصر الحديث، وبينما تغيّرت الأنظمة والتحالفات في المنطقة، ظل الموقف المصري ثابتًا: لا تنازل عن حقوق الفلسطينيين، ولا تفريط في أمن مصر القومي، ولا قبول بأي حلول على حساب الأرض أو الكرامة.

لم يكن الدعم المصري لفلسطين وليد اللحظة، بل سبق إعلان دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، فمنذ وعد بلفور عام 1917، كان الشارع المصري يغلي بالمظاهرات والتنديد، بينما ساهمت النخب السياسية والدينية في دعم الكفاح الفلسطيني بالمال والمقاتلين، ومصر رفضت تقسيم فلسطين، واعتبرت القدس ومسجدها الأقصى جزءًا من عمقها الروحي والتاريخي.

خاضت مصر أولى حروبها ضد الكيان الصهيوني فور إعلانه، ودخل جيشها إلى فلسطين ضمن جيوش عربية أخرى، ورغم الهزيمة، لم تتخلَّ مصر عن غزة، بل أدارتها إداريًا حتى عام 1967، واعتبرتها مسؤولية قومية.

واجهت مصر مؤامرة ثلاثية (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) لإسقاط نظام عبد الناصر وإعادة رسم خريطة السيطرة، للاستحواذ الكامل على فلسطين، لكنها صمدت وخرجت سياسيًا منتصرة، مما عزز حضورها الإقليمي.

احتضنت القاهرة منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها عام 1964، بل فكرة تأسيسها كانت نابعة من مصر وفتحت أبوابها للفصائل الفلسطينية المختلفة، معتبرة الكفاح الفلسطيني امتدادًا لمشروع التحرر العربي، وكان الرد الصهيوني، في 1967 كارثة كبرى، فقد احتلت إسرائيل الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة وسيناء. لكن مصر لم تستسلم، بل خاضت حرب استنزاف طويلة لتحرير الأرض و دفاعا عن فلسطين.

ومثّلت حرب 6 أكتوبر عام 1973 نقطة تحول، حيث استعادت مصر جزءًا من سيناء، وأعادت للمنطقة توازن الردع. وفي الخلفية، استمرت مصر في احتضان المقاومة الفلسطينية إعلاميًا وسياسيًا.

رغم توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1978، أصرت مصر على تضمين بند يعترف بـ”الحقوق المشروعة للفلسطينيين”، ورفضت توطينهم على أراضيها، ظلت القاهرة منبرًا لحوار الفصائل، ورفضت مشاريع تصفية القضية، ودعمت مصر انتفاضة الحجارة في الضفة وغزة، ورفضت الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل، كما قدمت مساعدات إنسانية عبر الهلال الأحمر والمعابر.

ومع اندلاع الانتفاضة الثانية، كثّفت مصر جهودها لاحتواء الانفجار، وأصبحت القاهرة المركز الرئيسي لمحاولات المصالحة بين “فتح” و”حماس”، ودعمت الجهود الدولية لتأسيس دولة فلسطينية على حدود 1967، وبعد سيطرة حماس على غزة عام 2007، ورغم التوتر، لم تغلق مصر أبوابها، بل فتحت معبر رفح مرات عديدة، وأدخلت مساعدات، ونقلت الجرحى للعلاج، مع التأكيد الدائم على وحدة الصف الفلسطيني.

ورغم التحولات السياسية الداخلية بعد 2011، لم تتراجع مصر عن موقفها تجاه فلسطين، ورفضت صفقة القرن التي اقترحت توطين الفلسطينيين في سيناء، وأكدت أن سيناء أرض مصرية غير قابلة للتفاوض أو التنازل، ورفضت أي مشاريع لتهجير الفلسطينيين إليها.

وتواصلت جهود الوساطة المصرية لوقف إطلاق النار في أكثر من تصعيد (2014، 2021، 2023)، وهو ما منحها ثقة دولية في هذا الملف الحساس، ومع اندلاع العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة في أكتوبر 2023، برزت مصر كحائط صد أمام سيناريوهات كارثية، ورفضت فتح معبر رفح تحت ضغط سياسي يهدف لتهجير السكان، واعتبرت أن دخول الفلسطينيين إلى سيناء سيكون بمثابة توطين إجباري مرفوض، وأرسلت مساعدات عاجلة، واستقبلت عشرات الجرحى في مستشفياتها، و قادت جهود تهدئة دولية بالتنسيق مع قطر والولايات المتحدة.

وفي المقابل، منعت محاولات اختراق حدودها من نشطاء أجانب ذو ميول صهيونية، حاولوا استخدام سيناء لأهداف سياسية خارج إطار الدولة على طريقة مسمار جحا، مؤكدة أن أمنها القومي خط أحمر، لغلق الباب أمام المزايدين و المنتفعين.

ومنذ البداية، لم تكن مصر مجرد داعم للقضية الفلسطينية، بل كانت شريكًا في الألم، والميدان، والقرار. قدمت الشهداء، خاضت الحروب، وسهمت في إعادة الإعمار، ورعت التهدئة والمصالحة، وعلى مدى أكثر من 75 عامًا، لم تتغير الثوابت: 

لا أمن دون حل عادل.

لا دولة فلسطينية دون القدس.

لا توطين على حساب سيناء.

ولا سلام حقيقي إلا بإنهاء الاحتلال.

وفي زمن تتغير فيه المواقف، تبقى مصر صوتًا عربيا عقلانيًا وثابتًا، يدرك أن القضية الفلسطينية ليست عبئًا، بل اختبارًا دائمًا لكرامة الأمة.

حفظ الله مصر والأمة العربية وكفاها شر الماكرين والمزايدين.