نادية صبرة تتناول: التوترات في إيران بين خطر الاغتيال وخيانة الداخل

فجر الجمعة الماضي لم يكن فجرا عاديا في طهران دوى صوت الانفجارات في سماء العاصمة الإيرانية، معلنا عن بداية مرحلة جديدة من المواجهة بين إسرائيل وإيران لكن ما لم يكن يتوقعه الإيرانيون هو أن هذه الضربة المباغتة لم تكن مجرد عمل عسكري خاطف، بل كانت تتويجا لسنوات من التسلل والخداع والتخطيط المحكم الذي نجح في اختراق أعماق الدولة الإيرانية حتي وصل إلى معاملها النووية وغرف قياداتها المغلقة.
وبحسب مصادر استخباراتية وتقارير صحفية غربية، فإن إسرائيل نفذت ضربتها الأخيرة داخل إيران بعملية مركبة استهدفت مواقع حساسة في طهران وقم واصفهان، ترافقت مع اغتيال قيادات من الصف الأول في الحرس الثوري وفيلق القدس، إضافة إلى تصفية عدد من العلماء النووين البارزين، بينهم دكتور (فريدون عباس) أحد العقول التي كانت تقود البرنامج النووى الإيراني منذ عقدين.
لكن ما يجعل هذه العملية أكثر خطورة ليس فقط في نجاحها العسكري بل فى كونها كشفت مدى التوغل الاستخباراتي الإسرائيلي داخل إيران، وكيف أصبحت شبكات الموساد تتحرك بحرية نسبية داخل الأراضي الإيرانية دون أن تستطيع أجهزة الأمن الإيرانية كشفها أو إيقافها حتى أن الرئيس الإيراني الأسبق (أحمدي نجاد) كشف عن أنهم شكلوا لجنة؛ لتعقب عملاء الموساد، ثم اكتشفوا أن رئيس هذه اللجنة يعمل لصالح الموساد الإسرائيلي.
ويرى بعض المحللين أن ما جرى لم يبدأ مع فجر الجمعة؛ بل مع فجر آخر يوم قرر (دونالد ترامب) الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، ضاربا عرض الحائط بكل التعهدات الدولية، فقد فتح ترامب الباب أمام إسرائيل لتكثيف عملياتها داخل إيران من خلال الدعم الاستخباراتي واللوجستي، وهو ما جعل الإيرانيين يقعون في فخ مزدوج من جهة وعود أمريكية بالعودة للاتفاق، ومن جهة أخرى ضربات إسرائيلية لم تتوقف.
والواقع أن الرئيس ترامب لعب دوراً خطيراً في تعميق الثغرات داخل المنظومة الإيرانية، بدءا من تسريب معلومات بالغة الحساسية للموساد، وانتهاء بإعطاء الضوء الأخضر للاغتيالات التي طالت شخصيات مثل الجنرال قاسم سليماني، والعالم النووي فخري زادة، وكل ذلك تحت غطاء محاربة الإرهاب، بينما الحقيقة أن الهدف كان تحطيم البنية التحتية لأي قدرة إيرانية على الردع أو التفوق الاستراتيجي.
وحتى في العملية المباغتة فجر الجمعة، شارك في خداع الإيرانيين واعترف بذلك نتنياهو نفسه في حواره مع “فوكس نيوز”، قال نصا: (الرئيس ترامب ساعد في تحقيق عنصر المفاجأة ضد إيران؛ بمطالبتنا علنا بعدم الهجوم وهو يعلم أننا سنهاجم).
إن المأساة الحقيقية التي كشفتها المواجهة الأخيرة لا تتعلق بالخسائر البشرية أو العسكرية فحسب؛ بل باكتشاف العمق الإيراني أمام أعين العدو، فالموساد لم يعد يكتفي بطائرات بدون طيار أو قراصنة إلكترونيين، بل أصبح يمتلك عملاء على الأرض داخل المؤسسات الأمنية والعلمية وربما حتي فى قلب القيادة.
وفي عام 2020 سرقت إسرائيل أرشيف البرنامج النووي الإيراني من داخل طهران في عملية لا تصدق، واليوم تتكرر المشاهد، تسريب أسماء العلماء، واختراق مراكز الاتصالات، وتنفيذ اغتيالات على الأرض الإيرانية بدقة جراحية.
وهذا لا يعني قوة الموساد الخارقة كما تصوره إسرائيل؛ بل بسبب وجود خلل بنيوي في الجهاز الأمني الإيراني، وبسبب وجود من خان، أو سحب بسلاسة من بين الصفوف.
والسؤال الذي يطرحه الشارع الإيراني اليوم، هو: كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟، هل كان النظام يعيش في وهم القوة بينما كان العدو يحفر فى الجدران؟، هل استخدمت شعارات الموت لإسرائيل غطاء لفشل استخباراتي وعسكري داخلي؟، وكيف استطاعت إسرائيل أن تصنع هذا الانكشاف وتوجه هذه الضربات التي باتت تستهدف الرأس لا الأطراف، فمن الواضح أن إسرائيل لم تعد تلعب على هوامش الجغرافيا، بل دخلت إلى عمق البيت الإيراني؛ لتكشف لنا أننا جميعا أمام مرحلة جديدة من المواجهة، مرحلة لا تحكمها القواعد القديمة بل عقلية الضربة الاستباقية والخداع طويل النفس.
وما بين اغتيال العقول النووية، وقصف منشآت الحرس الثوري، والتوغل العميق للموساد، وما بين وعود أمريكية فارغة، وخداع استراتيجي مبرمج؛ تقف إيران اليوم على مفترق طرق لقد انتهي زمن الشعارات وحان وقت الاعتراف بالحقيقة المرة: الردع الإيراني كان إلى حد كبير خداعا ذاتيا والحرب لم تعد احتمالا.. بل أصبحت واقع تواجهه إيران.
وفي مواجهة كل ما حدث؛ كان المشهد الدولي كمن يشاهد فيلما مشوقا من الصفوف الأمامية دون أن يجرؤ على التدخل.. الولايات المتحدة رغم معرفة كل تفاصيل العملية؛ اكتفت ببضع كلمات مثل القلق من التصعيد، وحول (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)، تلك الجملة البغيضة التي أصبحت بمثابة الختم الذي يتيح لإسرائيل القتل والتدمير والعربدة في المنطقة دون رادع.. أما أوروبا كعادتها أصدرت بيانات باهتة عن ضرورة ضبط النفس بينما لم يصدر من الأمم المتحدة سوى الدعوة إلى التهدئة وكأن اغتيال العلماء وتفجير المنشآت مجرد شجار حدودي.
أما روسيا والصين فتفرغان غضبهما في المؤتمرات الصحفية، لكن دون أي فعل حقيقي، وكأن طهران لم تكن شريكتهما الاستراتيجية بالأمس القريب، وأمدت روسيا بالطائرات المسيرة في الحرب الأوكرانية ودفعت ثمنا سياسيا لذلك.
هذا الصمت الدولي ليس صدفة، بل يعكس قبولا ضمنيا، بل ربما تشجيعا لقصقصة أجنحة إيران في لحظة إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، كما وعدهم نتنياهو، ولذا أبدت بريطانيا وفرنسا استعدادهما للتدخل لجانب إسرائيل.
إنها ليست مجرد خيانة لإيران؛ بل خيانة لفكرة السيادة ذاتها حين تصبح بعض الدول خاضعة لتقديرات (القلق الغربي) والراحة الإسرائيلية وما يطبق على سيادة إيران اليوم سيعتمد كمبدأ يطبق على غيرها من دول الشرق الأوسط.
والسؤال يبقى.. هل تدرك طهران أن العزلة ليست فقط سياسية، بل أمنية واستخباراتية أيضا؟، أم ما زالت تراهن على حلفاء لا يظهرون إلا في بيانات الشجب بعد فوات الأوان؟!.