منال الشرقاوي تكتب: ناصر 56

في لحظةٍ ما من مساء هادئ، جلستُ أشاهد “ناصر 56” للمرة السابعة. لا أعلم ما الذي دفعني هذه المرة لأشاهده بعين الناقد، لا بعين المتفرج الذي يعرف نهاية القصة ويحفظ خطب عبد الناصر عن ظهر قلب. ربما لأنني كبرت، أو لأن العالم صار أكثر رمادية، فصرت أبحث عن الأبيض والأسود من جديد.
هذا الفيلم ليس مجرد شريط سينمائي قديم يحاكي زمن الزعماء وخطب الميكروفونات المدوية، لا، بل هو عدسة فنية صادقة، تتكلم بلغة الضوء والظل، وتُغني بنغم الحنين والحلم، وتكتب التاريخ كما سُمع في البيوت، وشُوهد في العيون، وهُمس به في الليالي.
“ناصر 56” لوحة مرسومة بإضاءة محسوبة، وموسيقى تفهم القلب أكثر مما تفهم الأذن. إنه فيلم لا يكتفي بأن يُريك عبد الناصر، وإنما يجعلك تعيشه، تتنفس قلقه، وتشعر ببرودة العرق في لحظة اتخاذ القرار.
بعد هذه المقدمة التي تشبه البوح، حان الوقت للدخول إلى قلب الفيلم، إلى اختياراته الفنية التي صنعت فرادته من أول مشهد. حين تقرر الكاميرا أن تتخلى عن الألوان، فهي ترى العالم بشكلٍ آخر. “ناصر 56” اتخذ هذا الطريق بإصرار فني واضح، كمن يعرف أن العودة إلى الأبيض والأسود هي السبيل الوحيد لقول الحقيقة بطريقة لا تُنسى. الأبيض والأسود هنا ليسا حنينًا تقنيًا إلى الماضي، بقدر ما هما منظور جديد لمعايشته.
في أولى اللقطات، نشعر وكأننا نطل على شريط أرشيفي خرج لتوّه من خزانة وزارة الثقافة، ثم ندرك سريعًا أن الصورة ليست قديمة، إنما متعمدة. الفيلم يريدنا أن نشك للحظة، ثم نُصدق. أن نرى أحمد زكي فنظنه عبد الناصر فعلاً، أن نسمع الخطاب فيحمل نفس الرنين، كما لو أن الشريط المسجل تنفس فجأة.
هذا القرار البصري خلق رابطًا خفيًا بين الفيلم والذاكرة الجمعية. كل من عاش تلك الأيام، أو سمع عنها من والديه، أو قرأها في الكتب المدرسية، سيشعر فجأة بأن الزمن قد التفّ على نفسه، وأن الشاشة ليست شاشة عرض، إنما نافذة تُطل على عام 1956.
في غياب الألوان، يبرز الوجه، وتبرز النظرة، وتصبح ملامح أحمد زكي كتابًا مفتوحًا، تُقرأ فيه خيبة الأمل، والحسم، والخوف الذي لا يُقال. الأبيض يضرب كالضوء، والأسود يحاصر كظل يوشك أن يبتلع كل شيء، والوجوه تتحول إلى مشاهد داخلية لذهن الزعيم في أصعب قرارات حياته.
هكذا يتحول الأسلوب إلى موقف، والصورة إلى شهادة، من دون أن تشرح، ومن دون أن تتجمّل.
هناك أفلام تُضيء كي تُريك، وهناك أفلام تُضيء كي تُشعِرك. “ناصر 56” اختار الطريق الثاني. الضوء في هذا الفيلم يُستخدم ليرينا ملامح الشخصيات، ويفتح أبواب نفوسهم أيضًا. كل شعاع، كل ظل، كل منطقة رمادية… كانت تقول شيئًا لم تقله الشخصيات.
في لحظة إعلان تأميم القناة، لا نجد إضاءات بصرية أو بهرجة احتفالية، بل نجد ضوءًا صارمًا ينزل من أعلى، إلى وجه ناصر. مزيج من القدر والقرار، من الحسم والخوف. الظلال التي ترتسم تحت عينيه نُحتت لتخبرنا أن الرجل لا يقف أمام ميكروفون فحسب، وإنما أمام امتحان لا رجعة فيه.
في غرف مجلس قيادة الثورة، تصبح الإضاءة أكثر خشونة. هناك زوايا مظلمة وأضواء قاسية؛ فالضوء نفسه يترقّب، ينتظر القرار، يخشى ما سيقال. لا حاجة لحوار مشحون، الضوء وحده يكفي لملء الجو بالتوتر.
ثم ننتقل إلى البيت. ضوء مختلف، ناعم كما لو كان يعتذر. عندما نرى ناصر بين زوجته وأطفاله، يصبح النور أكثر دفئًا، أقل قسوة، أكثر إنسانية. فجأة ينسحب ظل الدولة، ويظهر الأب، الزوج، الرجل الذي يعود إلى البيت محمّلًا بأسئلة الوطن، ويضعها مؤقتًا عند الباب.
هكذا كانت الإضاءة في “ناصر 56″، جزءًا من السرد، صوتًا خامسًا لا يتكلم، لكنه يقول أكثر مما يُقال.
وإذا كانت الصورة قد حملت عبء التعبير البصري، فإن الموسيقى جاءت لتكمل الحكاية بلغة لا تحتاج إلى ترجمة.
حين كتب ياسر عبد الرحمن موسيقى “ناصر 56″، أعاد سرد التاريخ بصيغة سمعية. هناك لحظات لا تتطلب كلمات، فقط نغمة طويلة على كمان متوتر، أو ضربة هادئة على عود حزين. هكذا تبدأ المشاعر في التسلل، دون استئذان، إلى أماكن لا تصلها الكاميرا.
في مشاهد الوطن، حيث تُعلن القرارات الكبرى وتُرفع الرايات، تتحرك آلات النفخ النحاسية لتهتف، وتعلن، وتردد صدى الشعب في الشوارع. الموسيقى تصف اللحظة، وتشارك فيها. تشعر أنها تخرج من مكبرات الصوت في ميدان التحرير، لا من سماعات الفيلم.
ثم تأتي المشاهد الإنسانية: البيت، الأطفال، الحنين، الوحدة. هنا يتقدم الكمان ويتراجع الطبل. نغمة واحدة تكفي لتخبرك أن الزعيم، مهما ارتفعت قامته في الخطب، يبقى أبًا ينسى اسمه أحيانًا حين يضحك مع أولاده.
كان التكرار الإيقاعي خيطًا خفيًا يربط كل شيء. لحن يتكرر في لحظات متباعدة، يذكّرك أنك ما زلت في نفس العالم، نفس المعركة، نفس القلب النابض. يجعلك تشعر أن الفيلم يقول لك:
“انتبه، نحن لم نغادر المشهد… نحن فقط نظرنا إليه من زاوية أخرى.”
وعندما تجتمع الإضاءة والموسيقى والصورة في لحظة واحدة، يتحول الفيلم من سرد إلى سيمفونية.
هناك لحظات لا تعود فيها الكاميرا مجرد عين، ولا تعود الموسيقى مجرد خلفية. يحدث شيء ما، شيء يصعب وصفه دون أن يبدو الكلام مبالغًا. في “ناصر 56″، تلتقي الصورة والصوت كما يلتقي الحلم بالذاكرة. لا أحد يسبق الآخر، لا أحد يعلو على الآخر. كل منهما يعزف دوره في أوركسترا دقيقة الإيقاع، لا تحتمل فوضى أو صدفة.
ثم هناك تلك اللحظات التي ينسحب فيها الصوت تمامًا. الصمت، في هذا الفيلم، قرار. هو مساحة يتيحها المخرج للمشاهد كي يسمع صوت أفكاره. حين تتوقف الموسيقى وتثبت الكاميرا على وجه ناصر، يبدأ العقل في ملء الفراغ بما يشعر. هذا الصمت يدوي أكثر من أي نشيد، ويستمر حتى بعد أن يعود الصوت.
والأغرب من كل ذلك، أن الفيلم بالأبيض والأسود، ومع ذلك تشعر أن الموسيقى تُلوّن المشهد. نغمة حزينة تملأ الشاشة بدرجات من الأزرق، موسيقى وطنية تضيء الأفق بأحمر نابض، لحن حميمي يرسم دفئًا بلون أصفر خافت. لا حاجة لفرشاة، يكفي الكمان.
الصورة تهمس. الموسيقى تجيب. والمشاهد يستمع إلى هذا الحوار الصامت، ويشعر بأنه مشارك فيه.
بعض الأفلام تنتهي عند شارة الختام، وبعضها يبقى معك كأغنية قديمة تحفظها دون أن تتعمد ذلك. في هذا العمل، لم تحكِ السينما قصة بطل فقط، بل قدمت رؤية. الفيلم تكلّم بلهجة مصرية خالصة: في النبرة، في الإحساس، في التفاصيل، وفي اختيار اللحظة التي يُضاء فيها الوجه أو يصمت فيها الصوت.
ليس من الضروري أن تتفق مع عبد الناصر لتحب الفيلم، يكفي أن تشعر بصراعه، أن تصدّق لحظته، أن تنسى أن من أمامك ممثل وتبدأ في مناداته بـ”يا ريس”.
بعد “ناصر 56″، بدأت السينما المصرية تنظر إلى التاريخ بطريقة مختلفة. صار من الممكن أن نروي ماضينا بإحساس، أن نُعيد كتابة الذاكرة دون أن نخونها، أن نصنع أفلامًا تقول الحقيقة بضمير فني، لا بلسان سياسي.
“ناصر 56” تجربة شعورية كاملة. فيلم جعل من الأبيض والأسود مساحة للتعايش، ومن الموسيقى لغةً للوجدان، ومن الإضاءة شريكًا في الحكاية. بعد المشاهدة، لا تتذكر الأحداث فقط، وإنما تتذكر الإحساس. هذا العمل خرج من القلب، ووصل إلى القلب. وهذا هو الفرق بين فيلم يُشاهد وفيلم يُعاش.