مجزرة كلاب!
مجزرة كلاب!
منذ منتصف القرن التاسع عشر، شهدت العديد من المدن الأوروبية مشاريع إعادة تهيئة بهدف جعلها مدناً معاصرة ومواكبة للتقدم الحضاري والثقافي والعلمي الذي عرفته القارة الأوروبية، خاصة أوروبا الغربية، على مدار العقود السابقة.
فأثناء فترة حكم نابليون الثالث، تكفل المهندس المعماري جورج يوجين هوسمان (Georges-Eugène Haussmann)، المعروف بالبارون هوسمان، بمهمة تهيئة باريس عن طريق منحها شوارع وطرقات واسعة وحدائق تليق بها.
من جهة ثانية، اتجهت المدن الأوروبية للتخلص من “بعض الأشياء والكائنات”، بينها الكلاب السائبة التي كانت منتشرة بكثافة في الطرقات.
فمنذ القديم، شكلت الكلاب السائبة مشكلة لدى المسؤولين في المدن الأوروبية حيث عبر كثيرون حينها عن قلقهم من قيام هذه الحيوانات بمهاجمة السكان. وخلال العصور الوسطى، كانت عملية قتل الكلاب السائبة منتشرة حيث امتهن بعض الأشخاص مهنة التخلص منها فتنقلوا بين المدن لقتلها عقب حصولهم على عقود من المسؤولين.
وبداية من منتصف القرن الثامن عشر، أخذت عملية ملاحقة وقتل الكلاب السائبة طابعاً آخر، حيث اتجه المسؤولون في المدن الأوروبية حينها للقيام بما وصفه البعض بـ”مذابح للكلاب” بهدف إزالتها من شوارع المدن عقب تفشي الأمراض. وفي تلك الفترة، اعتمدت طرق عديدة تراوحت بين الضرب بالعصي والحرق والتسميم والخنق للتخلص من الكلاب السائبة.
فيما بلغت عملية التخلص من الكلاب السائبة ذروتها بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث أمر كبار المسؤولين في الدول الأوروبية بالتخلص منها معللين ذلك بإساءتها لمظهر المدن وهيبتها.
واتجهت البلديات حينها لتشييد ما عرف بحضائر التخلص من الكلاب السائبة التي ساهمت في إبعاد عمليات قتل الكلاب عن أنظار عامة الناس. وانطلاقاً من ذلك، باشر المختصون بمهمة القبض على الكلاب السائبة التي لا تحمل أي طوق أو قلادة لنقلها لهذه الحضائر لإعدامها عن طريق الضرب والخنق. وفي باريس لوحدها، سجلت الحضيرة التي وجدت بشارع بونتواز (Pontoise) إعدام 13 ألف كلب سائب عام 1888. وفي 1892، ارتفع هذا العدد ليبلغ حوالي 25 ألفا. من جهة ثانية، شهدت بقية المدن الفرنسية، خاصة ليون (Lyon)، عمليات إعدام مماثلة لمئات الآلاف من الكلاب السائبة.
كذلك في الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، لم تتردد الولايات المتحدة الأميركية بدورها في ملاحقة الكلاب السائبة بهدف نقلها نحو الحضائر. وشيدت حضيرة في نيويورك للتخلص من الكلاب السائبة قرب نهر هودسون (Hudson)، حيث تكفل المسؤولون بوضعها داخل أقفاص قبل إغراقها في النهر.
أما في الدولة العثمانية، فاتخذت عملية التخلص من الكلاب السائبة منحى آخر وصف بـ”الغريب”. فأثناء فترة حكم “حركة الشباب الأتراك”، المعروفة أيضاً بـ”حركة تركيا الفتاة”، شهدت القسطنطينية انتشاراً كبيراً للكلاب السائبة التي كان الأهالي متسامحين مع وجودها غالباً.
وأملاً في تقليد المدن الغربية وإظهار عاصمتها بمظهر المدينة الحضارية والمعاصرة، عمدت السلطات العثمانية سنة 1910 للقبض على ما يزيد عن 60 ألفاً من الكلاب السائبة في القسطنطينية والمدن المجاورة لها. فيما كلف الفقراء والمشردون، خلال تلك الفترة، بمهمة القبض على هذه الكلاب السائبة.
وبدلاً من إعدامها على عين المكان، نقل العثمانيون هذه الكلاب نحو جزيرة سيفرييادا (Sivriada) النائية والمهجورة والواقعة ببحر مرمرة. وهناك، تركت هذه الكلاب بدون أي طعام أو شراب. ولسد رمقها، عمدت لقتل وأكل لحم بعضها البعض.
كما لم يتردد العثمانيون، على مدار السنوات التالية، في نقل ما يزيد عن 100 ألف من الكلاب السائبة، من مناطق عديدة بالبلاد، نحو هذه الجزيرة.