قصص يومية جداً – نوح «5» كذاب من يقول إن الأخ يمكن تعويضه

اعتاد والدى أن يعود وقت الغروب. تمشى بجواره أغنامه، يصحبها إلى الحوش، ثم يتوضأ، ويحمل صينية الأكل إلى المندرة.
من عادات ضرار القديمة فى رمضان، أن يتناول الرجال إفطار المغرب فى المنادر، تاركين البيوت للنساء والرضع، كل رجل يجلس حول صينيته، ومعه أبنائه أو ضيف صادف مروره وقت الأذان، اعتاد والدى أن يكون وحده، يحمل الصينية على رأسه ويمسك بكوب الماء الألومنيوم بيده، ويخرج للمندرة ليجلس فى ركن بعيد، يستمع للقرآن المنبعث من الجامع، وهو يعدد على مسبحته، حتى يأتى الأذان فيفطر وحده، بينما بالقرب منه صينية كبيرة يلتف حولها الصبيان، صينية أخيه عبد القادر وأولاده.
فى هذا اليوم، ٢٧ نوفمبر ١٩٧٠، دخل والدى المندرة ولم يجد الصينية المجاورة، تساءل بينه وبينه نفسه عن سبب غياب أصحابها، حتى جاءه صوت من بعيد، “الحق يا خال صديق، أخوك وعياله اما يتعركوا مع ناس العمدة حدا مكنة الميه”.
ومع أن أخيه وأولاده على خصام معه، لا يكلمونه، ويكشرون وجوههم كلما صادفوه، لكنه لم يتردد وهو يترك إفطاره ويخرج مهرولا بحثا عنهم، كان الأذان يصدح وصوت طلقات النار تتعالى، لم يصل أبى إلى ماكينة المياه، كان يردد خلف المؤذن وهو فى الطريق “أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله” حين أصابته طلقة من بعيد.
وجاءت الحكومة لتحقق فى مقتله، لم تتطابق الرصاصة التى اخترقت قلبه مع أى من البنادق التى حرزتها، وانتهى الأمر بالبراءة للجميع، لكن حكم أمى ظل قائما: “عيال هنيه هما اللى عملوها عشان ياخدوا الضُهرة”.
****
لم أر أبى، مات قبل أن أولد بشهرين. يداهمنى شعور وحيد ناحيته، أتخيل فيه أننى أتحدث إليه، أسأله: ماذا عليَ أن أفعل الآن؟، أسأله وأنا ناظرا للأرض احترامًا، منتظرًا إجابته، لكنه، وفى كل مرة، يتركنى ولا يُجيب.
يقولون الناس إنه كان مسكونا بصمت الرعاة، وأن عينيه تفيض بوداعة تشبه غنمه التى يسير بها كل صباح إلى الجبل، لم يكن من أهل الخلاف، ولا تعنيه حكايات البيوت، كان له عالمه الخاص. ويقولون إن أغنامه كانت تمشى جواره واثقة فيه، وهو يهمس لها بأغانٍ قديمة لا يعرف أحد مصدرها.
أرحم من الغُرب لو كان نار، ميضرش
ومهما يقسى عليك بالفعل، ميضرش
الأخ لو كان فخ عند الجد، ميضرش
كداب ياللى تقول الأخ يتعوض
********
كان أبى غارقا فى عالم الرعى ومواويله القديمة، وكان أخوه عبد القادر غارقا فى زراعة “الضهرة”، دائما ما تجده فى منتصفها تحت الشمس الحارقة يجفف جبينه بطرف جلبابه بين الحين والآخر، ضربة فأسه تسبق دائما ضربات فؤوس العاملين معه، يعيش فى الأرض طوال النهار، وإذا احتاجته فى الليل لا يتأخر، يتابع كل شيء، الحرث والرى والعزق والتسميد، حتى إذا جاء الحصاد، ملأ البيت كله بالغلال والخير.
كان عمى وأبى يحبان بعضهما البعض، تجمعهما أمهما مكة على طبلية واحدة ويأكلان من صحن واحد، حتى دخلت حياتهم هنيه.
********
هنيه عبد الغفار، قلب أسود من الليل.
ولدت فى بيت يملأه الطمع، ورثت عن أمها محروسة الغل وعن والدها عبد الغفار القسوة.. أمها حرضت أبوها ضد أخته مكة كى يدوس على نصيبها فى الأرض، وداس، مستندا على القانون الجائر الذى تقره ضرار، لا ميراث لأنثى.
وسبحان القدير الوهاب، لم ينجب عبد الغفار من محروسة سوى البنات، ٥ بنات، ما جعل نفس الأرض، وبنفس القانون تعود إلى مكة، أم الذكرين، عبد القادر عمى وصديق أبى.
كسبت جدتى مكة المعركة بحكمة وعقل لم تعرفها “ضرار” من قبل عن النساء، أعادت الضهرة إليها دون رصاصة واحدة، دون تآمر، ودون أن تورط ولديها فى الدماء.
حكم المجلس العرفى الذى انعقد للصلح، بأن يتزوج واحد من ولدى مكة واحدة من البنات الخمسة، لنزع فتيل الحقد بين الأهل المتخاصمين، وبدء صفحة جديدة.
لم يكن أبى قد بلغ بعد، فكان عمى عبد القادر هو العريس الذى تنطبق عليه الشروط، ومن البنات الخمسة وافقت هنيه أن تكون العروس، لكنها اشترطت أن يكون لها بيت منفصل.
بنى عمى عبد القادر بيتا مجاورا لهنية، كان أول خطوة فى البعد عن أهله، عن أمه وأخيه.
******
تزوجت هنية عمى وفى قلبها عقدة لم تُحلّ، عقدة أمها وخلفة البنات التى أضاعت “الضهرة” منهم، وفى عقلها هدف واحد، إنجاب الذكور، كثير من الذكور حتى تتجنب ما أصاب أمها من معايرة.
لكن الطلق الأول جاء بما لا تشتهى الأحلام، أنثى، ساد الحذر فى البيت، وبقى الأمل فى المولود التالى، وجاء الثانى ليعلن هو الآخر عن أنثى.
استقبل عمى الخبر بوجه كظيم، يُقال إنه فى هذا اليوم، أحضر جرويين صغيرين ليربهما فى البيت، أراد أن يستعوض الأولاد بالكلاب، فهو يتمنى العزوة التى تساعده على الأرض.
جفّت التهانى، وسكنت الكآبة أركان البيت، كل نظرة من الجيران لهنيه كانت تقول: “زى أمها، ملهاش فى الدكوره”، حتى باتت حريصة على الاختفاء، هربا من أعين المراقبين.
ظلت هنيه منطفأة فى بيتها ودربها ومشيتها وهيئتها وملابسها وأحاديثها، بينما كانت السماء تُعدّ لها ردًّا لم تتخيله، حين أعطتها ثلاثة ذكور لا يفصل بينهم سوى أيام الحمل والولادة، “شحاته ولكحل وغريب”، أو كما يسميهم أهل البلد، “عيال هنيه”.
كانت تمشى فى الدرب وثلاثتهم خلفها، تدب قدميها فى الأرض، وتتحدث إليهم بصوت مميز مسموع، كى ينتبه الناس، كى تنظر فى وجوه من سخروا منهم، وتبتسم.
******
فكرت هنيه فى أن تعيد ترتيب كل شىء.
تساءلت عن أبى صديق، كيف لرجل لا يفهم فى الزراعة، رجل لا يمتلأ قميصه بالعرق والطين، أن يشارِكها وأولادها الضهرة؟، مع أنه لا يعرف شيئا عنها.
كان أبى يزور بيت أخيه بانتظام، يحمل الجبن والسمن، ويمسح على رؤوس أبناء هنيه، وهو يقول: “ربنا يطرح فيهم البركة، دول اللى هيشيلوا اسمينا”.
صارت تفسر له كل تصرف من أبى على أنه طمع، وكل سكوت منه على أنه دليل دليل، بدأت تزرع الفتنة فى قلب زوجها، بكلمة هنا ونظرة هناك، “تعبك بيروح لناس تانية”.
ومن كثرة الزن، وقعت القطيعة ليس فقط بين الشقيقين، ولكن أيضًا بين عمى عبد القادر وأمه، وسمّت النساء ما حدث “فتنة هنيه”.
وجاء اليوم الذى رفع فيه الأخ السلاح فى وجه أخيه، “لو رجلك نزلت الضهرة تانى، هاقطعهالك”، خرج أبى من الأرض بين أغنامه مكسور القلب، لم يقاوم، ورفض أن يقاوم، أغلق أذنيه أمام أمه التى طالبته بالذهاب للمركز والحكومة، والغريب أنه لم يكره أخاه، بل ظل يدافع عنه، مع أنه حرمه حتى من الرعى فى أرضه.
*****
الآن، أمى الحزينة، تنتظر منى أن أدخل الحلبة وأستمر فى الصراع على الأرض الملعونة، تزوجت مرتين، لم أنجب، أمى ترشح لى العروسة الثالثة، بينما أفكر أنا فى حل آخر.