مؤتمر نيس.. التزامات جريئة لحماية المحيطات

مؤتمر نيس.. التزامات جريئة لحماية المحيطات

بتعهدات طموحة و غير مسبوقة.. اعتمدت أكثر من 170 بلدا بالإجماع إعلانا سياسيا شاملا يتعهد بعمل عاجل لحماية المحيطات.

في ميناء نيس جنوب فرنسا، دوت أبواق السفن، معلنة ختام خمسة أيام من الفعاليات في لحظة نادرة وتاريخية من الوحدة العالمية مع إسدال الستار على مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للمحيطات (UNOC3) والذي استضافته فرنسا وكوستاريكا واستقطب 15 ألف مشارك، من بينهم أكثر من 60 رئيس دولة وحكومة.

الإعلان السياسي “محيطنا، مستقبلنا: متحدون من أجل تحرك عاجل” يدعو إلى خطوات ملموسة لتوسيع المناطق البحرية المحمية، وإزالة الكربون من قطاع النقل البحري، ومكافحة التلوث البحري، وتعبئة التمويل لصالح الدول الساحلية والجزرية الضعيفة، ضمن أولويات أخرى.

وقال لي جونهوا، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأمين العام للقمة، للصحفيين: “نختتم هذا الأسبوع التاريخي ليس فقط بالأمل، بل بالتزام ملموس، وتوجيه واضح، وزخم لا يمكن إنكاره”.

وخيم على المؤتمر غياب الولايات المتحدة التي انتهجت منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سياسات وصفت بكونها تتنكر للعمل المناخي، في حين سيعقد المؤتمر الأممي الرابع للمحيطات عام 2028، باستضافة مشتركة من تشيلي وجمهورية كوريا، ينتظر أن يتم فيه مراقبة التزامات وتعهدات قمة نيس.

تعهدات طموحة

نتيجة المؤتمر، عرفت باسم خطة عمل نيس للمحيط، وهي إطار عمل من جزأين يتضمن إعلانا سياسيا وأكثر من 800 التزام طوعي من قبل الحكومات والعلماء ووكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني.

المؤتمر تضمن أكثر من 450 فعالية جانبية وقرابة 100 ألف زائر وقد بنى هذا التجمع على نجاح القمم السابقة للمحيط في نيويورك (2017) ولشبونة (2022).

وقال “لي جونهوا”: “تتراوح هذه التعهدات من دعوة الشباب إلى محو الأمية البيئية للنظم الإيكولوجية في أعماق البحار، وبناء القدرات في العلوم والابتكار، وتعهدات بالتصديق على المعاهدات الحكومية الدولية”.

عكست التعهدات حجم أزمة المحيطات

أعلنت المفوضية الأوروبية عن استثمار مليار يورو لدعم الحفاظ على المحيطات والعلوم والصيد المستدام، بينما تعهدت بولينيزيا الفرنسية بإنشاء أكبر منطقة بحرية محمية في العالم – حوالي خمسة ملايين كيلومتر مربع تغطي منطقتها الاقتصادية الخالصة بالكامل.

وخصصت نيوزيلندا أكثر من 52 مليون دولار لتعزيز الحوكمة والإدارة والعلوم البحرية في منطقة جزر المحيط الهادي.

وأطلقت ألمانيا برنامجا بقيمة 100 مليون يورو لإزالة الذخائر تحت الماء من بحر البلطيق وبحر الشمال.. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت إسبانيا عن خمس مناطق بحرية محمية جديدة.

أُطلق تحالف يضم 37 دولة بقيادة بنما وكندا “تحالف الطموح العالي من أجل محيط هادئ” لمعالجة تلوث الضوضاء تحت الماء.

في غضون ذلك، قدمت إندونيسيا والبنك الدولي “سند المرجان” للمساعدة في تمويل الحفاظ على الشعاب المرجانية في البلاد.

خصصت إيطاليا 6.5 ملايين يورو لتعزيز الرقابة التي تقوم بها خفر السواحل في المناطق البحرية المحمية ومنصات النفط، باستخدام نظام مراقبة فضائي يرصد تسربات النفط في الوقت الفعلي.

وحسب بيان الأمم المتحدة، ساهمت كندا بـ9 ملايين دولار لـ”تحالف العمل من أجل مخاطر المحيطات والقدرة على الصمود” لدعم الدول الجزرية الصغيرة النامية والدول الساحلية النامية في مواجهة تغير المناخ عبر حلول مستندة إلى الطبيعة.

كما تبنت وكالات أممية وشركاء عالميون عملية تصميم تشاركية لمبادرة “تمويل المحيط الواحد” وهو جهد طموح جديد لفتح آفاق تمويل بمليارات الدولارات من قطاعات تعتمد على المحيط والاقتصاد الأزرق.

وقال “لي”: “لقد تشكلت أمواج التغيير. تقع الآن على عاتقنا مسؤولية جماعية لدفعها إلى الأمام – من أجل شعوبنا وكوكبنا والأجيال القادمة”.

منبر دبلوماسي

افتتحت القمة يوم الإثنين الماضي بتحذيرات قوية حيث صرح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، بحضور رئيسي فرنسا وكوستاريكا (إيمانويل ماكرون ورودريغو تشافيس روبليس)، اللذين طالبا بتعاون دولي جديد مبني على العلم: “لا نتعامل مع المحيط كما يجب، فهو ملك للجميع”.

يوم الجمعة، ذكر المبعوث الفرنسي الخاص للمؤتمر، أوليفييه بويفر دارفور، المخاطر: “أردنا في نيس أن نغتنم فرصة التغيير التحولي. أعتقد أننا حققنا تقدما، وليس بوسعنا العودة إلى الوراء”.

معاهدة أعالي البحار .. أبرز الإنجازات

كان أحد الأهداف الرئيسية للمؤتمر هو تسريع التقدم بشأن معاهدة أعالي البحار التي اعتمدت في عام 2023 لحماية الحياة البحرية في المياه الدولية.

ويلزم 60 تصديقا لتدخل حيز التنفيذ. خلال الأسبوع الماضي، صدقت 19 دولة على الاتفاق، ليصل العدد الإجمالي حتى يوم الجمعة إلى 50.

قال المبعوث الفرنسي للمؤتمر بويفر درفور: “هذا انتصار كبير. من الصعب جدا العمل على المحيط في الوقت الحالي عندما تكون الولايات المتحدة منخرطة بشكل ضئيل للغاية”.

كان المبعوث الفرنسي يشير إلى غياب وفد أمريكي رفيع المستوى، بالإضافة إلى الأمر التنفيذي الأخير للرئيس دونالد ترامب الذي يعزز التنقيب في أعماق البحار. قال: “الأعماق ليست للبيع”، مرددا تصريحات أدلى بها الرئيس ماكرون في وقت سابق من الأسبوع.

ومع ذلك، أكد “بويفر” على الاتفاق الواسع الذي تم التوصل إليه في القمة، أما نظيره أرنولدو أندريه تينوكو، وزير خارجية كوستاريكا فقد حث الدول الأخرى على تسريع التمويل لحماية المحيطات.

نقطة تحول

بالنسبة “لبيتر تومسون”، مبعوث الأمم المتحدة الخاص للمحيطات، فقد شكلت نيس نقطة تحول. وقال “الأمر لا يتعلق بما يحدث في المؤتمر، بل بما يحدث بعد ذلك”، مستذكرا الأيام الأولى للمناصرة بشأن المحيطات عندما تم تحديد الهدف 14 من أهداف التنمية المستدامة لأول مرة، بشأن الحياة تحت الماء.

بالنظر إلى المستقبل، يتجه الاهتمام بالفعل إلى مؤتمر الأمم المتحدة الرابع للمحيط، المقرر أن تستضيفه تشيلي وكوريا الجنوبية في عام 2028.

أعرب تومسون عن أمله في أن يتم التصديق على جميع الاتفاقيات العالمية الكبرى – بما فيها معاهدة أعالي البحار، واتفاقية دعم مصايد الأسماك لمنظمة التجارة العالمية، ومعاهدة البلاستيك العالمية المستقبلية – وتنفيذها بحلول ذلك المؤتمر المقبل للمحيط.

وستشكل قمة 2028 أيضا لحظة تقييم، مع اقتراب الهدف 14 من أهداف التنمية المستدامة من هدفه لعام 2030.

وتساءل تومسون: “ماذا نفعل عندما يحين وقت الهدف 14 من أهداف التنمية المستدامة في عام 2030؟ من الواضح أنه يجب رفع الطموح. يجب أن يكون أقوى”.

وشدد على أنه بينما كان الهدف 14 يهدف إلى حماية %10 من المحيط بحلول عام 2020 – وهو هدف فشل العالم في تحقيقه – فإن المعيار الجديد هو 30 % بحلول عام 2030.

استعراض للوحدة

على الرغم من اللهجة الاحتفالية، استمرت التوترات. ضغطت الدول الجزرية الصغيرة النامية من أجل لغة أقوى بشأن الخسائر والأضرار – الأضرار الناجمة عن تغير المناخ التي تتجاوز قدرة الناس على التكيف.

وحذر أحد المندوبين في وقت سابق من الأسبوع: “لا يمكن أن يكون هناك إعلان للمحيطات بدون الدول الجزرية الصغيرة النامية”.

ودعا آخرون، بمن فيهم رئيس كوستاريكا تشافيس، إلى وقف التنقيب في أعماق البحار في المياه الدولية حتى يتمكن العلم من تقييم المخاطر – وهي خطوة لم تدرج في الإعلان النهائي.

ومع ذلك، فإن الإعلان السياسي الذي اعتمد في نيس، بعنوان محيطنا، مستقبلنا: متحدون من أجل عمل عاجل، يؤكد من جديد هدف حماية %30 من المحيط واليابسة بحلول عام 2030، مع دعم الأطر العالمية مثل اتفاقية كونمينغ-مونتريال للتنوع البيولوجي (التي اعتمدت في عام 2022، وتلزم الدول بوقف وعكس خسارة الطبيعة بحلول عام 2030 من خلال أهداف الحفاظ الطموحة والإدارة المستدامة للتنوع البيولوجي) وأهداف المناخ للمنظمة البحرية الدولية (IMO) التابعة للأمم المتحدة.

الصيد الجائر

ثلث الثروة السمكية العالمية يصاد بشكل غير مستدام، لكن التعافي ممكن.

أظهر تقرير صدر في مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للمحيط في مدينة نيس الفرنسية أن 35% من مخزونات الأسماك العالمية يتم صيدها بطريقة غير مستدامة، إحصائية كانت حاضرة في اليوم الثالث لمؤتمر الأمم المتحدة للمحيط الذي تحتضنه مدينة نيس الفرنسية، وذلك من خلال تقرير جديد أصدرته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) و إحصائية ذكرت بالضغط المتزايد على محيطات العالم بسبب الصيد الجائر وتغير المناخ والإدارة غير المستدامة.

وقدم التقرير مانويل بارانج المدير العام المساعد للمنظمة، في مؤتمر صحفي على رصيف ميناء ليمبيا التاريخي بمدينة نيس الساحلية، مستعرضا لمحة عالمية مفصلة عن كيفية استنزاف النشاط البشري المستمر للمحيطات، وكيف يمكن للإدارة السليمة أن تعيد المحيطات إلى وضعها الطبيعي.

وقال بارانج : “إذا استخدمنا مقارنة مصرفية، فإننا نستخرج أكثر مما يمنحنا إياه البنك من فوائد. نحن نستنزف أعداد الأسماك”.

يحمل عنوان “استعراض حالة موارد مصائد الأسماك البحرية العالمية 2025″، وهو يستند إلى بيانات من 2570 نوعا من مخزونات الأسماك البحرية. يرسم التقرير صورة معقدة: فبينما يستغل أكثر من ثلث المخزونات استغلالا مفرطا، فإن 77 % من الأسماك المستهلكة عالميا لا تزال تأتي من مصادر مستدامة بفضل زيادة إنتاجية مصائد الأسماك المُدارة جيدا.

وعلق بارانج على هذه البيانات بالقول: “تفلح الإدارة (الناجحة). نحن نعرف كيف نعيد بناء الأرصدة السمكية”.

تفاوتات صارخة

لا تزال التفاوتات الإقليمية صارخة. ففي ساحل المحيط الهادئ للولايات المتحدة وكندا، يتم صيد أكثر من 90 % من المخزونات السمكية بشكل مستدام.

وفي أستراليا ونيوزيلندا، تتجاوز هذه النسبة 85%. وفي القارة القطبية الجنوبية التي تخضع للوائح دولية صارمة، تصل هذه النسبة إلى 100%.

ولكن على طول ساحل شمال غرب أفريقيا، من المغرب إلى خليج غينيا، يتعرض أكثر من نصف المخزونات السمكية للصيد الجائر، مع وجود مؤشرات ضئيلة على التعافي.

ويعاني البحر المتوسط من وضع أسوأ، إذ إن %65 من المخزونات السمكية هناك غير مستدامة. ومع ذلك، هناك مؤشر إيجابي. فقد انخفض عدد قوارب الصيد في تلك المنطقة بنحو الثلث خلال العقد الماضي، مما يبشر باستشعار تأثير التحولات في السياسات.

يرى المسؤول الأممي أن الدرس واضح، وهو أنه حيثما توجد أنظمة إدارة مدعومة بالموارد، تتعافى المخزونات السمكية.

لكن الإدارة القائمة على العلم مكلفة، حيث قال بارانج إن “بعض المناطق لا تستطيع تحمل تكاليف البنية التحتية اللازمة للمراقبة والرصد، والعلم اللازم، والمؤسسات اللازمة”.

وأضاف: “علينا بناء قدرات المناطق التي لا تحقق أداء جيدا. ليس لإلقاء اللوم عليها، بل لفهم أسباب ضعف أدائها ودعمها في إعادة بناء المخزونات السمكية”.

من حافة الهاوية إلى الانتعاش

لعل أسماك التونة أوضح مثال على الانتعاش. فبعد أن كانت على حافة الهاوية، حققت تلك الأسماك التي تعيش في المياه المالحة انتعاشا ملحوظا. واليوم، يتم صيد %87 من مخزونات التونة الرئيسية بشكل مستدام، وتأتي 99 في المائة من السوق العالمية من هذه المخزونات.

وقال بارانج: “هذا تحول بالغ الأهمية. ولأننا أخذنا الإدارة على محمل الجد، فقد أنشأنا أنظمة رصد وإدارة وامتثال”.

ومن المرجح أن تشكل النتائج الكاملة الواردة في تقرير الفاو الجديد مناقشات السياسات لما هو أبعد من نيس. فقد عملت المنظمة عن كثب مع 25 منظمة إقليمية لإدارة مصائد الأسماك لتعزيز المساءلة والإصلاح. ويعتقد بارانج أن هذا النموذج قابل للتكرار إذا توافرت الإرادة السياسية.