تقاليد الأضحية: جسر بين الأرض والسماء عبر العصور في جميع المجتمعات

مع طول المواسم المتعاقبة كتب كثيرون عن شعيرة ذبح الأضحية بما يتصل بها من موسم الحج وعيد الأضحى، لا سيما وأنها من أهم وأقدم الشعائر التى عرفها الإنسان على الأرض.
فى بحث علمى قيم تحت عنوان “طبيعة الأضحية ووظيفتها” نشر فى ٩٠ صفحة بمجلة “حوليات علم الاجتماع” عام ١٨٩٧ كتب كل من الفرنسيين مارسيل موس وهوبير عن هذه الشعيرة من جوانب عديدة، لما لها من تأثير بالغ امتد عبر الزمن، لم ينقطع ولم يلزم مجتمعا وأمة بذاتها ولا ثقافة بمفردها ولم يقتصر على أفراد أو جماعات ولا حتى على دين دون غيره، بل كان من الاتساع بأن شمل كل ذلك، وعلى عدة مستويات من المفاهيم والرؤى، فبات له هذا الأثر العقلى والنفسى المجمع مما يخلص إلى وجود عدة قراءات له، نستخلص منها التالى:
الاضحية بمفهوم عام هدية يقدمها الإنسان للإله بهدف التعلق به والتقرب منه، فكانت بشكل أو بآخر وسيلة للانتساب والانتماء إليه، وعبارة عن وجبة مشتركة تضمن هذا الانتساب وتؤكد فى الوقت ذاته لباقى الجماعة المشتركة تحت لواء ذات الإله حقيقة الترابط بينهم، فتحدد معنى الحياة التى تجمعهم، مما يضمن التحالفات الاجتماعية والاقتصادية مع بعضهم البعض، ما نفهم منه أن الأضحية كانت بمثابة فعل تقرب وضمانا أيضا لوحدة الجماعة.
فكرة التضحية تحيل دوما لمبدأ التكريس، ويقصد به فى هذا الإطار الاستمرار على قضاء نفس الطقس بنفس الآلية والطريقة وإن اختلفت الأهداف، والغايات.
فكرة التقدمة والتضحية كانت مرتبطة بمفهومين ممتزجين معا، هما مفهوم وجود مضحٍ ومضحى من أجله، ما يعنى أن هناك أفرادا أو جماعات وهناك معبود تطاله التضحية بشكل غير مباشر، فكان ذلك أشبه بحلقة اتصال لا فكاك منها إلا بالعزلة أو الطرد من الجماعة.
لم تقدم الأضحية إلا من خلال مستويين، هما إما تضحية ذاتية تحقق منفعة أو أمنية شخصية للفرد المضحى مثل طلب الزواج أو الإنجاب أو الشفاء، أو تضحية جماعية تحقق منفعة عامة للجماعة مثل أضحية تقدم للغوث و نزول المطر أو للانتصار فى حرب أو معركة.. لذا أصبحت الأضاحى عبر التاريخ متعددة الأسباب، ما ضمن بقاء الطقس على مستوى الفرد و الجماعة.
يتم تقسيم الأضاحى إجمالا إلى صنفين: صنف أول مؤقت لغرض طارئ، ويشمل أضاحى النذر بنية معينة او أضحية التكفير عن ذنب محدد، وصنف آخر ارتبط بعيد أو موسم ما، و بناء عليه كانت الأضاحى تقدم دائما حسب الأهداف المرجوة منها، فأصبحت فى العموم متشابهة بين كل المجتمعات والعصور.
تتطلب شعيرة الأضحية استخدام أدوات معينه حادة ومنجزة لا تؤذى الضحية والتى كان يجب أن يتوفر فيها هى الأخرى عدة شروط، منها ألا تكون بعيب أو نقيصة أو مرض، وأن تكون بجنس وبسن يسمح بذبحها، ومن اتباع ذلك كله تكون التضحية سليمة وأقرب لفعل قدسى بنية خالصة يبعث عبر ذبيحة رسالة لها بعد التضحية الحقيقى.
لم يكن الهدف من طقس التضحية أن يصبح حال الدخول إليه كما الخروج منه، فالعودة هنا إلى الحياة الاجتماعية بعد أدائه يجب أن تغير الحال بما يعنى تقبل المعبود لهذه التقدمة.. لذا عنت لحظة العودة الكثير لدى المؤمن الحق، فهى رحلة عكسية من عالم القداسة إلى العالم المادى المدنس، وربما من أجل ذلك كان لدى بعض المجتمعات طقوس خاصة سميت طقوس الخروج، وفيها يتخلص من جميع الأشياء المستعملة فى الطقس، كحرق بقايا الأضحية من دهن و أجزاء غير ذات فائدة، وإتلاف أدوات النحر بسكبها بالنار ، كما كان يسكب الماء على المضحى وزوجته إلى الأعناق للطهارة، وحرق الملابس المستعملة فى الذبح، وهكذا يصبح الخروج الذى استلزم وقتا خروجا تدريجيا من العالم الأول السمائى إلى العالم الثانى السفلى الأرضى بلا انقطاع فورى.
اتباع طقس التضحية كان طوال الوقت يعنى وجود عالمين أحدهما مليء بالخطايا والذنوب والطلبات والمتطلبات وعالم ثانٍ مقدس يقبل علة الأول ويسامح ويغفر ويرحم ويعطى ويهب، لذا كان فعل التضحية فعلا معقدا ذا اتصال خاص بين عالمين الأول دنيوى والثانى روحى.
كان لابد من طقس قد ضرب جذوره بطول عمر الإنسان على الارض أن يصبح طقسا له إرثه الثقافى المتين بكل رمزيته، مثل اختيار الكبش للتضحية، فقد اتصل هو الآخر بالميثولوجيا عبر التاريخ، فكان رمزا للإله الأكبر آمون فى الحضارة المصرية القديمة ومعه الإله خنوم إله الطين المصنوع من الفخار والخزف للإشارة إلى الطين الذى خلق منه الخلق الأول.
هناك أيضاً جانب اقتصادى لطقس الأضحية ، فهو لدى البعض مجرد موسم للاستثمار ومصدر للربح والفائدة المالية، بغض النظر عن ما يمثله لدى الناس من معنى دينى واجتماعى، وقد بات بذلك المدلول من ورائه يخضع للسوق و آلية العرض والطلب و بات الموسم الدينى فرصة تجارية ما تسبب فى إزالة الطابع الروحى عنه مع التدريج لصالح سيطرة الجانب المادى، فأمسى من معه يستطيع التضحية ومن لا يملك لا يستطيع.