مجمع ومدرسة ‘أم السلطان شعبان’: ملاذ في أحضان التاريخ

مجمع ومدرسة ‘أم السلطان شعبان’: ملاذ في أحضان التاريخ

نموذج خالد للمؤسسات الخيرية فى الدولة المملوكية..
خوند بركة هى إحدى زوجات السلطان الناصر محمد بن قلاوون وتألقت بمكانة عالية فى القصر

فى قلب القاهرة التاريخية، وتحديدا بمنطقة باب الوزير فى الدرب الأحمر، يقف جامع ومدرسة “أم السلطان شعبان” شامخا كشاهد من شواهد الزمن، يروى فصولا من العمارة الإسلامية فى العصر المملــوكى، يجسد مـــزيجا فـــريدا مــن الـجمـال والتقوى والتعليم.

هو أكثر من بناء، وأكثر من ضريح أو مدرسة أو سبيل. إنه فسحة تفتح الباب أمام السكينة والتأمل، وتمنح الزائر لحظة نقاء نادرة فى صخب الحاضر.

 الأم التى بنى لها المجد

هى خوند بركة، إحدى زوجات السلطان الناصر محمد بن قلاوون، ووالدة السلطان الأشرف شعبان بن حسين، الذى حكم مصر فى الفترة من 1363م حتى 1377م.

تألقت خوند بركة بمكانة عالية فى القصر السلطانى، وكانت امرأة ذات حضور ونفوذ، معروفة بعنايتها بالأعمال الخيرية والأوقاف، حتى اعتبرها المؤرخون من النساء المؤثرات فى الحكم، وتكريما لمكانتها، أمر ابنها السلطان الأشرف شعبان بإنشاء مجمع دينى متكامل يحمل اسمها، فكان جامع ومدرسة “أم السلطان شعبان”، الذى شيد عام 770هـ / 1368م. جمع هذا المجمع بين المسجد، والمدرسة، والضريح، والسبيل، والكتاب، ليصبح نموذجا خالدا للمؤسسات الخيرية المتكاملة فى الدولة المملوكية.

وكانت خوند بركة تلقب بـ”أم السلطان”، وهو لقب لم تحظَ به كثير من نساء المماليك، ما يعكس خصوصية العلاقة وقوة التأثير.

 واجهة تشد الأنظار

من الوهلة الأولى، تأسر الواجهة الحجرية الزائرين بروعتها. تتزين بالمقرنصات والزخارف النباتية والهندسية التى تظهر عظمة النحت المملوكى. تعلوها مئذنة بديعة ترتفع برشاقة، ذات بدن مثمن وشرفات متدرجة الطابع..

حول المدخل الرئيسى يمتد إفريز كتابى يحمل نص الوقفية واسم السلطان الأشرف شعبان وتاريخ الإنشاء، فى مشهد يتمازج فيه الجمال بالحكاية.

أما الجامع فيحتل المساحة الأكبر من المجمع، ويدخل إليه الزائر عبر مدخل مقنطر يؤدى إلى صحن مكشوف مربع الشكل، تحيط به أربعة إيوانات، أبرزها إيوان القبلة، الأكبر والأكثر زخرفة.

ويحتوى هذا الإيوان محرابا رخاميا مطعما بالعقيق والفسيفساء، ومنبرا خشبيا منقوشا بأشكال هندسية دقيقة. الجدران الداخلية تزينها نقوش قرآنية بخط النسخ المملوكى، بينما تعلوها شبابيك جصية ملونة تدخل الضوء الطبيعى فى صورة مشهد روحانى مهيب، وسقف الجامع من الخشب المحفور والمذهب، تحمله تيجان زخرفية، تبرز دقة الصناعة الحرفية وروعة تفاصيله.

 ملتقى الفقه والعلم

إلى الجهة الغربية من المجمع تقع المدرسة، التى ضمت إيوانين رئيسيين خصيصا لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة: المالكى، والشافعى، والحنفى، والحنبلى. وكانت تدرس فيها أيضا علوم التفسير والحديث واللغة العربية..

الإيوانات مزودة بمقاعد حجرية لجلوس الطلبة، ومنصة مرتفعة لإلقاء الدروس. الجدران مزخرفة بنقوش تأسيسية تحمل أسماء خوند بركة والسلطان، إلى جانب آيات وأحاديث نبوية، تجسد ارتباط العلم بالإيمان، وتكريس دور الأم فى بناء المعرفة.

 مقام امرأة صنعت المجد

فى الجهة الخلفية من المجمع، يقع الضريح الذى يضم قبر خوند بركة وابنتها. يتوّج هذا المقام بقبة ضخمة زخرفت من الداخل بنجوم وأشكال هندسية مدهشة، وتستند القبة إلى رقبة مزودة بشبابيك جصية تسمح بتسلل الضوء، ويغمر المكان بجو من الرهبة والسكينة.

قبر خوند بركة من الرخام الأبيض، تزينه نقوش قرآنية دقيقة، وتحيط به درابزينات خشبية منحوتة. الضريح يعد من أجمل ما شيد للنساء فى العمارة المملوكية، وتنبض أحجاره بقصة امرأة تركت بصمتها فى الحكم والعمارة والتاريخ.

فى الجهة الشرقية من المجمع يقع السبيل، الذى يعد من أوائل نماذج السبل العامة فى القاهرة. واجهته مزينة بحليات حجرية، ونوافذه محمية بقضبان كانت تستخدم لتوزيع المياه على العابرين والعطشى.

وفى الداخل، يحتوى السبيل على حوض رخامى عميق يملأ بالماء يوميا، وعلى دكك صغيرة لجالونيات النحاس. وقد أدار السبيل ناظر خاص، وكان يعد من أعمال البر والإحسان المرتبطة بالمرأة المؤسسة.

 الكُتاب.. مدرسة البداية

فوق السبيل بنى الكُتاب، وهو غرفة مستطيلة ذات نوافذ كبيرة تسمح بمرور الضوء والهواء. كان مخصصا لتعليم الأطفال القرآن والقراءة والكتابة، فى وقت كانت فيه هذه المراكز حجر الأساس لمحو الأمية الدينية والثقافية.

وكانت إدارة الكتاب تتم من خلال شيخ ومعاون، وهو مفتوح لكل أطفال المسلمين بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية. ويُعد الكُتّاب والسبيل نموذجًا تكامليًا عبقريًا من سمات العمارة المملوكية.

وخضع مجمع “أم السلطان شعبان” لعدة مراحل ترميم، كان أبرزها المشروع المشترك بين وزارة السياحة والآثار ومنظمة اليونسكو خلال السنوات الأخيرة. شملت الترميمات تنظيف الواجهات الحجرية، وتثبيت القباب، وترميم الزخارف والمشغولات الخشبية، وإحياء الكتابات الجدارية وأصبح صرحا أثريا نابضا بالحياة، يستقبل الزوار بروح مملوكية خالدة، دون أن يفقد هويته أو تفرده التاريخى.

والمكان مفتوح للزيارة يوميا من التاسعة صباحا حتى الرابعة عصرا، والدخول مجانا. ويسمح بالتصوير الفوتوغرافى، مما يجعله مقصدا مثاليا لهواة العمارة والتاريخ.

ويقع المجمع فى شارع باب الوزير، ويمكن الوصول إليه بسهولة عبر محطة مترو العتبة ثم استقلال وسيلة مواصلات صغيرة نحو الدرب الأحمر أو محطة السيدة زينب، والسير لبضع دقائق حتى باب الوزير، كذلك، يمكن استخدام سيارات الأجرة.. والمكان مزود بـ لافتات إرشادية كافية تسهل الوصول. 

 فسحة بين القباب والمآذن

زيارة مجمع أم السلطان شعبان ليست مجرد جولة سياحية، بل لقاء حى مع زمن كان للجمال فيه قدسية، وللعلم مقام، وللمرأة مكانة تليق بها..

هنا، فى قلب القاهرة، بين صدى التراتيل وبقايا الدروس، تهمس الأحجار للزائر ما زالت العمارة تتكلم، وما زال الجمال يقاوم الزمن..

جامع ومدرسة أم السلطان شعبان.. فسحة فى حضن التاريخ، تستحق أن تكتب، وتزار.