إسماعيل صدقى.. عدوّ الشعب وفيلسوف «البراجماتية» السياسية

إسماعيل صدقى.. عدوّ الشعب وفيلسوف «البراجماتية» السياسية

شخصيات لها تاريخ «59»
فضيحة أخلاقية كادت أن تحرمه من الانضمام إلى الوفد.. وسعد زغلول وافق على انضمامه بعد وساطات من مقربين
ألغى دستور 1923 ووضع مكانه «دستور 1930» وحل البرلمان فى العام 1925 بالمخالفة للدستور وأسس حزب الشعب وزوّر الانتخابات وأمر بتعذيب المواطنين فى قرية «إخطاب» ليكونوا عبرة للشعب كله
كان اسمه «إسماعيل صديق» ووالده الموظف خاف من بطش الخديو إسماعيل فقام بتحويل «صديق» إلى صدقى حتى لا يتهم بالتعاطف مع إسماعيل صديق الذى قتله الخديو بفنجان قهوة مسموم

اسمه “إسماعيل صديق” وهو مُركّب، ووالده اسمه “أحمد شكرى باشا” ووالدته “فاطمه هانم محمد سيد أحمد”، وبعد مقتل “إسماعيل صديق المفتش” بفنجان قهوة مسموم قدمه له صديق عمره “الخديو إسماعيل” قام والد الطفل “إسماعيل صديق” وهو موظف فى الداخلية ويخشى التنكيل به، وجعل اسم طفله “إسماعيل صدقى” حتى لايغضب عليه الخديو إسماعيل ويتهمه بالتعاطف مع “إسماعيل صديق” المقتول، وهذه القصة رواها “إسماعيل صدقى” فى مذكراته التى نشرتها “مجلة المصور” قبل ثورة يوليو، وطبعت فى كتاب صدر عن دار الهلال، وهى مذكرات ناقصة، لاتتضمن سوى جوانب الخير والتفوق والوطنية فى شخصية صاحبها، وهى مخالفة لما روته الصحافة عنه وما سجله معاصروه، وهو الذى تولى رئاسة الحكومة مرتين، وألغى الدستور، وحل البرلمان، وزوّر الانتخابات، وخاض معارك شرسة ضد الجماهير، لأنه “براجماتى” يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة وأن الجماهير أكذوبة والديمقراطية مجرد تمثيلية..

عندما بلغ سن الخامسة والسبعين، جلس إسماعيل صدقى باشا، رئيس وزراء مصر الأسبق وكتب مذكراته ونشرتها مجلة “المصور” التى تصدر عن “دار الهلال”، وكتب “الباشا” عن نفسه ودافع عن مواقفه المعادية للديمقراطية.. ومن المفيد للقارئ العزيز أن يقرأ صفحات كتبها “فيلسوف البراجماتية السياسية” وقدم بها نفسه للناس، بعد اعتزاله العمل السياسى:

ـ وُلِدتُ فى “15 يونيو 1875” بالإسكندرية، فى عهد الخديو إسماعيل، وأنا الآن فى سن الخامسة والسبعين من عمرى، وقد مرت هذه السنون بحوادثها الكثيرة، وكان إسماعيل صديق باشا المفتش ـ وزير الخديو إسماعيل ـ وقت ولادتى فى أوج مجده، فسمّانى والدى باسمه كما هى عادة الناس حين يسمون أبناءهم بأسماء العظماء والوزراء المشهورين، وهو اسم يجمع بين اسمى “الخديو” ووزيره المعروف، وحدث بعد ذلك بقليل أن غضب ولى الأمر على وزيره، كما غضب “هارون الرشيد” على “جعفر البرمكى” وعبثت به الأيام، ووقعت الواقعة، وذهب ولم يُعرَف أين ذهب، فخشى والدى أن يكون فى اسمى وقتئذ، ما يُشعر بولائه للوزير المنكوب، فأسرع بتحويره إلى “إسماعيل صدقى” ومن ذلك العهد عُرِفتُ بهذا الاسم، ونشأت فى بيت مصرى، بل فى صميم الريف المصرى، اشتغل منذ أواسط القرن التاسع عشر بالحكم وسياسة الدولة، وكل أفراده على حظ من العلم والتعليم والثروة والجاه، فكان والدى “أحمد شكرى باشا” من كبار رجال الحكومة فى عهد الخديو إسماعيل والخديو توفيق، وكانت والدتى “فاطمة هانم” كريمة “محمد سيد أحمد باشا” رئيس ديوان الأمير “محمد سعيد باشا” ابن محمد على باشا الكبير. ودرس والدى فى “مدرسة القلعة” وتلقى فيها علم الإدارة الملكية “الحقوق” ثم انتخب للسفر إلى فرنسا فى أول بعثة أرسلها “سعيد باشا” للتخصص فى العلوم السياسية، وكان عدد أعضاء هذه البعثة واحدا وعشرين تلميذا، ومن زملائه فيها “محمد راتب باشا” سردار الجيش المصرى المشهور فى عهد الخديو إسماعيل، والقائد أحمد راشد حسنى باشا ويوسف النبراوى باشا، ووالدى من بلدة “الغريب” التابعة لمركز “زِفتى” ـ مديرية الغربية ـ ولما أتم دروسه وعاد إلى مصر فى العام 1861 والتحق بخدمة الحكومة وتقلب فى وظائفها إلى أن أصبح محافظ “القاهرة”، ثم وكيل وزارة الداخلية، ومن الوظائف التى تقلدها: مدير إدارة عموم السودان وملحقاته أيام “الثورة المهدية” وكانت هذه الوظيفة موجودة حتى ذلك الحين وتقلد منصب مدير “أسيوط”، وأحيل إلى المعاش وهو وكيل الداخلية وظل به عشر سنوات ثم أدركته الوفاة 1895.

ويروى ـ إسماعيل صدقى ـ صفحات من تاريخ جدّه لوالدته:

ـ كان جدى “محمد سيد أحمد باشا”ـ أبو والدتى ـ وابن عم أبى، من أصحاب المكانة والحظوة عند الأمير “محمد سعيد باشا” وكان يجيد اللغة العربية إلى جانب إجادته اللغة التركية، ويعتمد عليه “سعيد باشا” فى تحرير رسائله الرسمية والخاصة، وكان يسكن قصرا فخما فى “شُبرا” وعنده من الخدم والحشم الكثيرون، وأذكر أننى رأيت فى طفولتى فى هذا القصر ثلاثين جارية سوداء وثلاثين جارية بيضاء، عدا الطُّهاة والخدم الآخرين، بعضهم ممن يسمونهم “المماليك” وهم من أصل “شركسى”، وكان الأمير “سعيد باشا” يؤثر جدّى بالكثير من عطفه ورعايته، فأثار ذلك الحقد والحسد فى نفوس بعض رجال الحاشية، وكان الأمير مع طيبة قلبه وميله للخير، ضعيف الإرادة، كثير التقلّب، ينصاع إلى آراء مخالطيه، سريع التأثّر بما يسمعه، سريع الغضب، قريب الرضا، وحدث أن وشىَ عنده أحدهم بجدِّى، فغضب عليه ذات يوم وهو لم يعرف لماذا غضب، ولكنه يعرف أنه فوجئ بالقبض عليه واعتقاله فى قلعة “أبى قير” ومكث معتقلا بها تسعة أشهر حتى أشفق عليه أصدقاؤه ومريدوه، وظنّوا أن الأميرـ لكثرة مشاغله ـ قد نسيه فى معتقله، فأوعزوا إلى نجليه الصغيرين “أمين ومحمود” بأن ينتظرا سمو الأمير عند خروجه من القصر “قصر رأس التين” وحوله رجال الحاشية، وتقدم الصبيّان وارتميا على قدمى ـ الأميرـ يقبلانهما، فسأل عن أمرهما فقيل إنهما نجلا “محمد سيد أحمد باشا” فاستدرَّت حالة الصبيين عطفه فأمر بالإفراج عنه، وخرج جدى مغتبطا بهذا العطف الكريم، وذهب لتقديم الشكر لسموّ الأمير، فقابله سموّه مقابلة حسنة وشمله برعايته ومنحة “حُجَّة” تتضمن تبرّع سموّه له بضيعة من أملاكه فى مديرية البحيرة مساحتها تسعمائة فدّان.

 المسيرة العلمية

 بطبيعة الحال، كان إسماعيل صدقى ينتمى إلى طبقة الأرستقراطية، وكان هذا الانتماء يضمن له التعليم الراقى فى المدارس الفرنسية، وكان المنتمون لهذه الطبقة يحرصون على تعليم أولادهم اللغة الفرنسية وإرسالهم فى بعثات إلى باريس واستكمال الدراسات العليا فى جامعاتها، وكان ـ صدقى ـ فى مذكراته حريصا على ذِكر تفاصيل رحلته العلمية:

ـ كانت الثقافة الفرنسية هى أولى الثقافات الأجنبية التى يقبل عليها الناس فى ذلك الحين، ولما كان والدى قد أتم دراسته فى فرنسا وتثقف بثقافتها، كلن طبيعيا أن يختار لنجله هذه الثقافة، فأرسلنى فى السادسة من عمرى إلى مدرسة “ألفرير” فكان لها الفضل فى إتقانى اللغة الفرنسية وقد مكثت فيها حتى حصلت منها على شهادة البكالوريا فى العام 1899 ولما لم تكن المدارس الأجنبية تعنى بدراسة اللغة العربية، فكنت أشعر بقصورى فى هذه اللغة، حتى إذا انتقلت إلى “مدرسة الحقوق” بدأت عنايتى بإتقان اللغة العربية، وكان من زملائى فى الفصل “محمد توفيق نسيم” و”أحمد لطفى السيد” ومن زملائى فى المدرسة “مصطفى كامل” و”عبد الخالق ثروت” واشتغلت بالصحافة أثناء دراستى فى هذه المدرسة، فحررت ُ مع “مصطفى كامل” فى مجلة “المدرسة” التى أنشأناها، ثم أنشأت مع “لطفى السيد” مجلة “الشرائع” وهى مجلة قانونية، فكنت أحرر فيها فصولا فى القانون والاقتصاد، وكنتُ ميّالا بطبعى إلى المسائل الاقتصادية.  براجماتية سياسية

ليس هناك أدنى شك فى أن انتساب “إسماعيل صدقى” لعائلة أرستقراطية، يسَّر له الصعود الوظيفى، وقد روى فى مذكراته قصة تخرجه فى كلية الحقوق، ومشاركته “مصطفى كامل” فى العمل الصحفى فى مجلة تسمى “المدرسة” ومشاركته فى مظاهرة اعترضت موكب الخديو عباس حلمى الثانى وكان الهدف منها المطالبة بوضع “دستور” يحكم العلاقة بين الخديو والشعب، وكان انتقاله من وظائف الحكومة، إلى صف “الوزراء” بداية للتعبير عن مواهبه السياسية فى خدمة الجالس على العرش، فهو وطنى أحيانا، وديمقراطى فى أحيان، وداعم للاستبداد والديكتاتورية فى أحيان أخرى، وهذه المسيرة رصدتها الباحثة ـ صفاء شاكر ـ فى كتاب خصصته لمسيرة إسماعيل صدقى السياسية، وهى التى منحته لقب “البراجماتى” بقولها عنه:

ـ جسّد إسماعيل صدقى باشا “البراجماتية” بكل أبعادها، وبفهم كامل، بلامواربة، فهو الرجل الذى كان من بين الأربعة الذين تم نفيهم إلى “مالطة” من قِبَل سلطة الاحتلال فى مارس 1919 وهو أيضا نفس الرجل الذى التحق بحماية دار المندوب السامى، فى العهد الذى عُرف باسمه  1930 ـ 1933 وهو الذى أبطل “دستور 1923” ووضع بدلا عنه دستورا على المقاس الملكى “دستور1930″، وعندما راح ـ هو شخصياـ ضحية ما تمتع به الجالس على العرش من سلطات واسعة، انقلب عليه وانضم إلى المطالبين بعودة الدستور “دستور 1923”.

     واتفق المؤرخ ـ دكتور يونان لبيب رزق ـ مع دكتورة صفاء شاكر فى منح “إسماعيل صدقى” لقب “السياسى البراجماتى”، بل هو فيلسوف البراجماتية فى العصر الملكى، ومن المهم هنا أن نقرأ ما كتبه عن نفسه فى مذكراته عن لحظة مخاطبة “زكى الإبراشى باشا” له موفدا من الملك فؤاد بشأن تشكيل الحكومة:

ـ قلت له: إننى أفخر بثقة جلالته بى، ولكنى أود أن أخبره أنه إذا تم اختيارى لهذا المركز الخطير فستكون سياستى أن أمحو الماضى، بما له وما عليه وأن أنظم الحياة النيابية تنظيما جديدا يتفق ورأيى فى الدستور واستقرار الحكم.

وقال فى مذكراته أيضا:

ـ بعد تأليفى الوزارة، ووضع دستور1930، وإعلان الانتخابات لقيام برلمان جديد فى ظل هذا الدستور، رأيت أن لابد للوزارة من استنادها إلى أغلبية برلمانية، لذلك رأيت فى تلك الظروف أن أؤلف حزب الشعب، ورؤى فى أول الأمر أن يسمى حزب الإصلاح، وانضم إليه عدد من أعضاء حزب الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد والمستقلين، وقد ظفر هذا الحزب بالأغلبية فى الانتخابات وبقى مؤيدا لى طوال بقائى فى الحكم، على أنه عندما استقلت من الوزارة وعهد بها إلى “عبدالفتاح يحيى باشا” تخليت عن رياسة “حزب الشعب” ثم استقلت من عضويته ورأيت أن أعود إلى طريقتى فى البعد عن الحزبية والأحزاب.

 التاريخ الآخر

قال إسماعيل صدقى فى مذكراته كل ما يسعد قلبه ويزكيه فى نظر القراء، لكن هناك تاريخا آخر لم يذكره، يبدأ بجريمة أخلاقية، فقد تم ضبطه مع ابنة “وزير” زميل له، فى إحدى “عوامات النيل” فى وضع مُخِلّ، واقتيدت الفتاة إلى قسم عابدين، وانتحرت بسبب افتضاح أمرها، وكانت هذه الحادثة تطارد إسماعيل صدقى وكادت تحرمه من الانضمام إلى الوفد المصرى، لأن “سعد زغلول” رأى أنه لايصح أن يكون ضمن الوفد الذى يتحدث باسم الشعب، من له جرائم أخلاقية من هذا النوع، لكن بعض المقربين من الزعيم، جعلوه يقبل بوجود ـ إسماعيل ـ لأنه قدم مذكرة جيدة عرض فيها لقضية ديون مصر وكتبها باللغة الفرنسية، ورغم أنه كان من ضمن الباشوات الأربعة الذين نُفوا إلى مالطة، إلا أنه كان يحمل تصورات مخالفة لتصورات بقية أعضاء الوفد، وعقب اعتراف “مؤتمر فرساى” بالحماية البريطانية على مصر، طلب ـ صدقى ـ من الوفد بالبحث عن طريقة للحوار مع بريطانيا، واستقبال لجنة ملنر، وهذا دليل على “البراجماتية” السياسية، وفى 24يوليو 1919 فُصِل “إسماعيل صدقى” من الوفد المصرى ومعه “محمود أبو النصر” وفى العام 1922 استطاع هو و”عبد الخالق ثروت” الحصول على ” تصريح 28فبراير 1922″ وهو تصريح وافقت فيه بريطانيا على إلغاء الحماية، ووضعت تحفظات تخص الحكم  فى السودان والديون والامتيازات الأجنبية والدفاع عن مصر فى حال تعرضها لعدوان خارجى، وهو تصريح لا يمنح مصر الاستقلال، لكن ـ صدقى وثروت ـ اعتبراه اعترافا بالاستقلال، وتكونت لجنة كتابة الدستور، وصدر الدستور وتغير لقب “السلطان فؤاد” إلى “الملك فؤاد” وهو نفسه الملك الذى تعاون معه “صدقى” لتعطيل هذا الدستور الذى كان ثمرة نضال وكفاح الشعب الذى لم يكن يعترف به، ومن المهم العودة إلى مذكرات “إسماعيل صدقى” ونقرأ منها حكاية سقوطه فى الانتخابات التى أجريت فى العام 1924 وأسفرت عن فوز مرشحى سعد زغلول وتشكيل حكومة برئاسته”.

ـ رشحت نفسى لمجلس النواب فى دائرة “سندا بسط” التى تتبعها بلدتى “الغريب” وإذ ذاك نشأت فكرة الأغلبية الساحقة برياسة “سعد زغلول”، فرشح “الوفد” أمامى ـ الأستاذ نجيب الغرابلى، وعلى الرغم من كونه رجلا فاضلا، فإنه لم يكن ابن الدائرة ولم يكن معروفا، وكنت أعتقد أنى سأنجح فى دائرتى، لأن جهودى فى خدمة بلادى، وماضىَّ فى الجهاد واشتراكى فى الفوز باستقلال مصر فى تصريح 28 فبراير، كان كل ذلك مما يضمن النجاح، ولكن شخصية سعد زغلول فى ذلك الحين كانت شخصية جبارة وفى الوقت نفسه جذابة غمرت البلاد بقوتها وشدة تأثيرها واجتاحت أمامها كل شىء، وأصبح الاعتقاد فيها يشبه الاعتقاد فى الأنبياء، فلم أفُز فى الانتخابات إلا بأقل من ثلث الأصوات وسقطت أمام منافسى الوفدى غير المعروف، ومن هنا أستطيع القول إن الانتخابات لم تكن حرة، ولا أقصد من ذلك أنه كان هناك ضغط إدارى مستعمل ضدى، بل أعنى أنه كان هناك ضغط نفسى أوجدته شخصية سعد زغلول القوية، وهو والضغط الإدارى سواء، فى بلد لم يصل بعد إلى درجة النضوج السياسى ولم تتكون فيه الروح الدستورية.

 وهنا يطيب لى أن أفتح كتاب “حكايات من دفتر الوطن” للراحل صلاح عيسى، لأن له تحليلا عميقا لشخصية “إسماعيل صدقى” ينطلق فيه من حادثة سقوطه فى انتخابات مجلس النواب فى العام 1924:

ـ ومن يومها ازداد يقين “إسماعيل صدقى” بأن الشعب لايحسن الاختيار وأنه لايستحق الديمقراطية وأنه زحام من الكائنات الوقحة، وفى العام 1925 أثبت ـ صدقى ـ أنه سياسى موهوب فى بعض المهام، فهو قادر على البطش بخصومه، وكان هذا العام هو عام مقتل “السير لى ستاك” سردار الجيش المصرى وحاكم السودان، وأقيلت وزارة “سعد زغلول” وتم حل مجلس النواب ذى الأغلبية الوفدية، وتقدم صدقى ليبرز مواهبه، فاستخدم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، وأمر بتزوير كشوف الناخبين، وهنا تظاهر كثيرون من أنصار “سعد زغلول” بأنهم يؤيدون الحكومة وبعد الفوز بمقاعد مجلس النواب، انتخبوا “سعد زغلول” رئيسا لمجلسهم، وللمرة الثانية كشف  ـ صدقى ـ عن وجهه الديكتاتورى، واستصدر قرارا بحل مجلس النواب الجديد رغم أن الدستور يحظر حل البرلمان  ـ لنفس السبب ـ مرتين، وشارك فى الحكم بلا برلمان، واستبدله بمواكب من المؤيدين، كان يأمر حكام الأقاليم ومديرى الأمن بحشدهم فى الشوارع أو فى الطرق العمومية ليهتفوا للحكومة ويعلنوا تأييدهم لها، وهى مواكب كانت تضم فريقا من المشردين والمسجونين والخفراء ومن أُكرِهوا على الخروج، فهو كان يؤمن بأن الديمقراطية مجرد “تمثيلية” وأن الشعب هو زحام من العقول الفارغة التى تتميز بالغباء وأن يدا باطشةً كفيلة بتحريكه إلى المدى الذى تريد، وفى صيف 1925 وضع بصمته وأعاد إحياء العقوبات الجماعية، ففى قرية “إخطاب” ـ إحدى قرى وسط الدلتا ـ طبق الملازم “أحمد فريد التهامى” ملاحظ نقطة الشرطة التعليمات التى أصدرها وزير الداخلية “صدقى باشا” فطلب من أهالى القرية الاحتشاد لتحية فريق من وزراء العهد، كانوا سيمرون بظاهرها فى طريقهم إلى عاصمة الإقليم لافتتاح بعض المشروعات، ولمّا كانت “إخطاب” تقع داخل نفوذ “محمود الإتربى باشا” أحد أنصار سعد زغلول، فقد كان إكراه الأهالى على الخروج لتحية وزراء “الانقلاب الدستورى” ورفع لافتات تقول: تعيش حكومة جلالة الملك، هو نوع من الإذلال المقصود، وخرج أهالى “إخطاب” إلى الطريق الزراعى، بلافتاتهم وحميرهم، ووقفوا ينتظرون مرور موكب الوزراء، وقبل دقائق من مرور الموكب، علق الأهالى اللافتات على ظهور حميرهم، وتسربوا إلى الحقول المحيطة، وعبر الوزراء فلم يجدوا بشرا يستقبلونهم، بل وجدوا صفا من الحمير، على ظهر كل حمار لافتة “تعيش حكومة جلالة الملك” وأمر “إسماعيل صدقى” بتأديب القرية، فقاد الملازم “أحمد فريد التهامى” حملة تأديب تتكون من عشرين جنديا مسلحا، وفرض حظر التجول على القرية، وضرب واعتقل كل من رآه خارج بيته، وجمع عشرات الرجال وأمر جنوده بأن يقصوا شواربهم بمقصات تستخدم لقص شعور الحمير على مرأى ومسمع من زوجاتهم، وأقام الأهالى المتضررين الدعوى القضائية ضد هذا الضابط، وحكمت محكمة المنصورة عليه بالسجن مع الشغل لمدة خمس سنوات، ونص الحكم الذى صدر فى العام 1935 على إدانة “إسماعيل صدقى” وتضمن الحكم هذه السطور:

ـ ومتى انتهكت الحرمات على هذه الصورة، لم يقم للنظام فى أمة قائمة، أليس فى هذه الأعمال الشنعاء احتقار للشعب بتمامه وتعويد للناس على الاستخفاف بسلطة القانون؟!