الإفتاء: التبرع الفردي لاينتج تشريعا والفرضيات الجدلية لا تنتج أحكاما شرعية

الإفتاء: التبرع الفردي لاينتج تشريعا والفرضيات الجدلية لا تنتج أحكاما شرعية

تابعت دار الإفتاء المصرية باهتمام بالغ النقاشات الدائرة حول الدعوة إلى المساواة المطلقة في الميراث، تحت لافتة التطوع أو الاستفتاء الشعبي، وانطلاقا من مسئوليتها وواجبها أصدرت دار الإفتاء بيانا أشارت فيه إلى أنه لا خلاف بين العلماء في جواز تبرع الشخص لأخته أو غيرها من ماله أو نصيبه من الميراث، كما لا يوجد ما يمنع من تبرع الأخت لأخيها ومساعدته من مال الميراث أو غيره أيضا، إذ التبرع باب من أبواب الإحسان، ولكن أن يتخذ هذا الجواز الفردي ذريعة لاقتراح تشريع عام ملزم يلغي أصل جواز التبرع علاوة على أحكام المواريث القطعية، فذلك خلط بين التصرف الفردي والتشريع الإلزامي، وهو مغالطة لا تخفى على ذوي العقول والبصيرة.

وأوضحت الإفتاء في بيانها أنه حين يقال «لو تراضى المجتمع على المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، فلماذا لا يشرع ذلك؟»، فهذه فرضية مفتعلة لا تغير من الحقيقة شيئا؛ فإن الأحكام الشرعية توقيفية لا تغير بالتصويت ولا بالتوافق المجتمعي، خصوصا وأن من يدعون إلى ذلك أوينادون به يتغافلون أن من أسماء هذا العلم علم الفرائض، جمع فريضة، وهو ينزع عنه صفة الفريضة والواجب عند التوزيع إلى صفة الحق فقط، وينسى أن الله تعالى قال في آيات الميراث: {فريضة من الله} [النساء: 11]، فأحكام الميراث ليست حقا فقط لصاحبه التبرع به؛ بل واجب وفريضة وليس رأيا بشريا قابلا للإلغاء أو التطويع.

وتابعت دار الإفتاء قائلة:” القياس بين التبرع (وهو مباح) وبين تغيير فريضة الميراث (وهو محظور) هو قياس فاسد، أشبه بمن يقترح توزيع أموال الأغنياء بين الفقراء بالقوة لأنهم «يستطيعون التبرع بها!» فلو كان هذا منطقا سليما، لما بقي حق ثابت ولا مال مصون”.

وأكدت الإفتاء أن ما يراد فعليا من هذه الدعوات ليس المساواة كما يدعى؛ بل نزع القداسة عن النصوص القطعية، وتحويلها إلى ساحة نقاش وجدال، لكنها أمور محفوظة بحفظ الله لها، لأنه إذا قبل هذا المنطق غير المستقيم، فستفتح الأبواب لكل تأويل باطل، يقاس فيه المشروع «التبرع» على غير المشروع «تغيير الفرائض»، ويمهد لهدم الضروريات الخمس، تحت غطاء «الاجتهاد المجتمعي»، والواقع أنه إلغاء للشريعة باسم الاجتهاد.

إذا ما تم تشريع المساواة في الميراث، فلن يعود التبرع خيارا؛ بل يصبح حقا قانونيا يمكن أن يقاضى الأخ إن لم يعط أخته ما لم يفرض عليه شرعا، فيسلب الإنسان ماله، ويحمل ما لم يكلفه الله به، وهذا هو عين الظلم.

إن الثوابت ليست قاصرة على العبادات أو أركان الإسلام، بل كل قطعيات الدين، أي التي ثبتت بنص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة- سواء في كل مجالات التشريع الإسلامي كما لا يخفى ذلك على العامة فضلا عمن ينتسب للعلم.

إن هذه الدعوى من شأنها قلب الموازين فبدل أن يحمى التشريع القانوني الحق الشرعي ويضمن تنفيذه على خير وجه، يحاول صاحب هذا الطرح أن يجعل التشريع القانوني معتديا على الحقوق الشرعية وطريقا لسلب الناس حقوقهم وأموالهم، مستندا في سلبه إلى قابلية الحق للتبرع بعد وجوبه، وهو من أغرب أوجه الاستدلال وأبعدها عن قواعد النظر السليم، وتحريف لمفهوم الإحسان عن موضعه الصحيح.

واختتمت دار الإفتاء بيانها بأن الدعوة إلى المساواة المطلقة في الميراث، تحت لافتة التطوع أو الاستفتاء الشعبي، ليست إلا ستارا خادعا يراد به نقض الحكم الشرعي، وإسقاط القدسية عن النص، وإلحاق الأمة بركب مفاهيم دخيلة لم تنتج إلا اضطرابا وانهيارا في مجتمعاتها فالنص القطعي ليس مادة لإعادة التشكيل؛ بل هو نور يهتدى به، وحد لا يتجاوز.