صلاح طاهر.. بطل مصر فى المـلاكمة والرسم

بسبب العقاد اعتزل الرياضة.. وحاول الانتحار «16»
فى شبابه تألق فى الملاكمة والعزف والرسم.. وصدفة حددت مصيره
كان أول رسام يدخل السجن 4 سنوات بتهمة العيب فى الذات الملكية
أبوه من أصول هندية سورية وأمه مصرية تركية.. أما هو فـ«ابن بلد» من العباسية
كان زميلًا لنجيب محفوظ فى المدرسة.. ثم جمعهما هيكل فى الأهرام
توقفت طويلا وأنا أبحث فى سيرة المقرئ العظيم الشيخ محمود على البنا عند عشقه لرياضة الملاكمة، حيث مارسها فى سنوات شبابه بشغف، وكان يواظب على تمارينها ومنافساتها بنادى جمعية الشبان المسلمين حين كان قارئا لمسجدها، وظل السؤال يشغلنى عن سر تعلق “ملك قرآن الفجر” – كما كان يحلو لمحبى الشيخ أن يلقبوه – بتلك الرياضة العنيفة والخطرة والغريبة والمتناقضة مع مهنته ورسالته، وحاولت أن أجد له عذرا وألتمس مبررا بأن اللياقة البدنية مهمة وضرورية للمقرئ، فى ظل مجهود شاق يبذله خلال ساعات التلاوة..
كانت دهشتى أكبر وأنا أبحث فى سيرة “ملك البيانو” الموسيقار مدحت عاصم، ومن جديد شغلنى السؤال نفسه عن سر تعلقه فى شبابه برياضة الملاكمة واهتمامه البالغ بها وحرصه على أن ينافس أبطالها وينال ألقابه حتى لو اضطر لأن يجرى يوميا من العباسية إلى مصر الجديدة، وهو الفنان المرهف صاحب الألحان العذبة والمقطوعات الرقيقة، وصاحب الفضل فى اكتشاف وتقديم أصوات فى روعة فريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد، ومن جديد التمست له العذر نفسه، فالجلوس إلى البيانو والعزف عليه يحتاج إلى لياقة بدنية عالية، ربما لم يجد سبيلا إليها إلا بممارسة الملاكمة!
لكنى فشلت أن أجد عذرا لواحد من عشاق الملاكمة، ولم أتصور أن يرتدى “ملك البورتريه” القفاز الخشن ويصارع الخصوم فى شراسة ويفوز بالضربة القاضية 3 مرات وينال لقب بطل مصر فى الملاكمة، إذ ما حاجة رسام إلى لياقة استثنائية وقوة بدنية خارقة وليس مطلوبا منه سوى أن يحمل الريشة؟!..لكن كان السؤال الأهم: كيف خرجت مئات اللوحات الساحرة شديدة الجمال وباذخة العذوبة من بين أصابع ملاكم.. اسمه صلاح طاهر؟!
(1)
صلاح طاهر رسام مذهل مبهر مدهش بلغة الإعلانات التليفزيونية هذه الأيام، وبلغة أكثر رصانة هو تجربة شديدة الثراء والتناقض، وربما كان هذا التناقض المذهل هو الذى صنع منه تلك التجربة شديدة الثراء، والتى جعلت منه أشهر رسام للبورتريهات، بل صاحب الألف بورتريه.. وربما لن تصدق ما ستقرأه عن سيرته ولكنها الحقيقة، وهى بالضبط ما عاشه دون تذويق أو خيال..
نحن أمام فنان كان مدهشا منذ لحظة ميلاده لأسرة عجيبة التركيب، إذ تمتد جذورها من ناحية الأب والأم إلى أربع جنسيات وثقافات مختلفة: الهند، سوريا (وربما إيران)، تركيا، مصر، ويشرح هو تلك الخلطة الثقافية العجيبة:
“جد أبى كان هنديا واسمه محمد على الهندى، والجد الثانى لأبى كان سوريا ويقال إنه كان إيرانى الأصل، أما جد أمى فكان مصريا فلاحا من قرية اسمها “بهنس”، وجدها الآخر تركيا، فاجتمعت فيّ العناصر الأربعة، أما أنا فمصرى جدا ومولود فى حى العباسية”.
ورغم أن أصول والده غير عربية إلا أنه كان عاشقا للثقافة العربية، هذا الأب الذى يعمل بالتجارة كان يحرض أولاده على حفظ الشعر العربى وعيون قصائده، ورغم أن “صلاح” كان أصغر أولاده فإن الأب كان فى غاية الحرص على أن يرث ابنه الصغير عنه عشقه الشديد للأدب والشعر، فكان يأتى إليه وهو فى الثامنة من عمره بدواوين الشعراء القدامى ومعلقاتهم، ويكافئه بقرش تعريفة عن كل قصيدة يحفظها، ومن أجل القرش تعريفة حفظ الطفل صلاح طاهر قصائد البحترى وأبى تمام والمتنبى وعنترة وغيرهم من أكابر الشعراء، ويعلق بسخرية:
“وطبعا كنت أحفظ هذه القصائد ولا أفهمها، ومع ذلك كان أبى يكافئنى بسخاء، وكنت أستغرب فى البداية أنه يكافئنى على حفظ شيء لا أفهمه، ثم تبين لى المغزى عندما كبرت، فقد كان يدرك أن هذه القصائد سوف ترسخ فى ذهنى الصغير وتختزن فى اللاشعور حتى يجيء اليوم الذى أقرأها فيه وأنا كبير، فتكون هى الركيزة الأساسية لتكوينى الأدبي”.
ويبلغ التناقض مبلغه فى تكوين صلاح طاهر عندما يتعلق الأمر بالرسم، فلم يكن فى أسرته أحد من المهتمين به أو البارعين فيه، ومارسه جنبا إلى جنب مع العزف والملاكمة.. ولك أن تتخيل صبيا يحب الرسم وشغوفا بألوانه ومفتونا كذلك بآلة الكمان ويعزف عليها بإتقان وموهبة، ويترك باليتة الرسم والآلة الشجية ليذهب إلى حلبات الملاكمة، يصارع الأشداء ويفوز بالضربة القاضية ويحصل على المراكز الأولى على مستوى مصر كلها..!
فكيف تحول مسار ومصير صلاح طاهر من بطل للملاكمة وعازف للكمان إلى واحد من أساطير مصر فى فن الرسم؟.. الإجابة تستوجب أن نبدأ القصة من أولها.
(2)
ولد صلاح طاهر فى 12 مايو 1911 بحى العباسية، وهو العام نفسه الذى ولد فيه صديقه وزميله نجيب محفوظ، فقد جمعهما فصل واحد فى مدرسة “الحسينية” الابتدائية، ثم فى مدرسة “فؤاد الأول” الثانوية، ثم تزاملا فى “الأهرام” بعد أن جمعهما هيكل ضمن تلك الباقة الاستثنائية الفريدة من كبار الكتاب والمبدعين، وكانا من سكان “الدور السادس” مع توفيق الحكيم ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وصلاح جاهين وحسين فوزى وغيرهم من تلك الأيقونات، ورسم صلاح طاهر ما يزيد على 35 لوحة زُينت بها جدران الجريدة، بالاضافة إلى مجموعة كبيرة من الجداريات الضخمة أصبحت من علامات المبنى الجديد للمؤسسة، وعُين كمستشار فنى للأهرام عام 1966 حتى رحيله فى العام 2007 عن 96 عاما.
نشأ صلاح طفلا مدللا لعائلة ميسورة، بحكم أنه كان أصغر أشقائه الأربعة – ولدان وبنتان- ، والغريب أن الفارق بينه وبين شقيقه الأكبر يصل إلى عشرين عاما، ولذلك كان يعامله على أنه أب ثان وليس أخا أكبر..
كانت الثقافة حاضرة فى بيت “طاهر”، فالأب كان شغوفا بالأدب والشعر، ولديه مكتبة عامرة بأمهات كتب التراث العربى والإسلامى، وكان من الرواد الدائمين لصالون الشيخ المحقق والكاتب والأديب سورى الأصل محب الدين الخطيب، وكان الشيخ يمتلك مكتبة معروفة بشارع عبد العزيز القريب من ميدان العتبة، وفيها كان يعقد صالونه الثقافى الأسبوعى، وغالبا ما كان الأب يصحب ابنه الصغير صلاح ليحضر معه الصالون، فيجلس وهو الطفل ابن السادسة يتابع المناقشات الصاخبة فى الأدب والشعر وهو لا يكاد يفهم منها شيئا، ولم يجد الأب من وسيلة يجذبه بها إلى هذا العالم الغريب سوى أن يخصص له مكافأة سخية إذا ما حفظ قصائد الشعر..
وفى هذا الصالون حدثت تلك الواقعة الغريبة التى ظل صلاح طاهر يتذكرها ولا يعرف ما الذى دفعه يومها لتلك الإجابة، فقد حدث أن جاء صديق سورى يدرس فى لندن لزيارة الشيخ فى العتبة، ولاحظ الضيف وجود الطفل الصغير بين رواد الصالون الثقافى، فأخذ يتودد إليه ويداعبه ويدير معه حوارا طفوليا، ولما سأله السؤال المتوقع: عايز تطلع إيه لما تكبر يا صلاح؟، ففوجئ بإجابة غير متوقعة: عايز أطلع رسام كبير زى “روفائيل”، وكان يقصد الرسام الإيطالى الشهير الذى شكّل مع زميليه مايكل أنجلو وليوناردو دافنشى الثلاثى الأعظم لرسامى عصر النهضة فى إيطاليا..
كان مدهشا وغريبا أن يعرف طفل فى السادسة رساما عالميا مثل روفائيل ويتخذه مثلا أعلى، والمؤكد أن الدهشة لم تكن من نصيب الضيف السورى وحده، بل امتدت لأسرته، إذ كان اختيار الطفل على عكس المتوقع، إذ كانت كل الشواهد تقول إن هوايته الأولى ستكون إما الشعر بتأثير الأب، أو الموسيقى والعزف بتأثير الأم.
ورغم أن الأم كانت “ست بيت وحظها قليل من التعليم، إلا أنها امتلكت درجة عالية من الاستنارة والوعى والتذوق الفنى، وكان لها تأثيرها الكبير فى تكوين ابنها الأصغر.. يحكى عنها صلاح طاهر:
“نالت أمى قسطا بسيطا من التعليم وخرجت بعد المرحلة الابتدائية حسب العادات وقتها، ولم تعمل بالطبع بشهادتها، وتفرغت للزواج وتربية الأبناء، ولكنها كانت سيدة محبة للموسيقى والغناء، وكانت هى وصديقاتها يجتمعن فى بيتنا يوما محددا فى الأسبوع وكان يسمى وقتها “يوم المقابلة”، فيعزفن على العود والقانون وغيرهما من الآلات الموسيقية، ويغنين الأغانى المنتشرة وقتها ومعها الموشحات والبشارف القديمة.. وكنت أنا كطفل مسموحا لى بحضور هذه الجلسات الموسيقية الغنائية والاستمتاع بها.. وتركت هذه الجلسات أثرا كبيرا فى نفسى وفى تكوينى الفنى، حتى أننى فى سن الخامسة عشرة بدأت أعزف على الكمان.. وشجعتنى أمى مثلما شجعت أختى التى تكبرنى مباشرة على الغناء وكانت تمتلك صوتا جميلا”.
ورغم أن الأسرة كانت مهتمة بالفنون والثقافة، ولكنها لم تعرف رساما ولم يكن لها اهتمام بالفن التشكيلى، ولذلك بدا شغف ابنها الصغير بالرسم غريبا ومدهشا، كان يجلس إلى الورق والألوان ليرسم بشغف، صحيح أن الأطفال فى عمره يمارسون الرسم وينجذبون إليه، ولكن الصبى صلاح طاهر كان مختلفا فى ألوانه ورسوماته وخيالاته، ربما ساهم فى ذلك الاختلاف عاملان، كان والده سببا مباشرا فيهما، لنتركه يحكى عنهما بطريقته:
“كنت فى نحو العاشرة من عمرى حين كان أبى يصحبنى معه إلى القناطر الخيرية، نذهب وحدنا كل يوم أحد لنقضى اليوم كله فى حدائقها، نقعد تحت الشجر ونتكلم ويحكى لى ويشرح لماذا يختلف اللون الأخضر فى لون الشجرة التى نجلس تحتها عن لون النجيل الذى نجلس عليه، والفرق بين شجرة وأخرى ووردة وأخرى، وماذا يحدث لألوان النباتات حين تنعكس عليها أشعة الشمس.. كلام على قدر عقلية طفل فى سنى، ولكن أبى كان يفتح أمامى أبوابا من المعرفة ومن التذوق الفنى كم أنا مدين له بها.. وقبل ذلك بسنوات قليلة كان أبى يقعد معى ويحكى لى حواديت خيالية أسطورية، تفتح معها ذهنى وجعلتنى أتخيلها وأرسم لها صورا فى خيالى”.
ولكن رغم هذا الشغف بالرسم، إلا أن الصبى صلاح طاهر وجد نفسه مشتتا بين هوايات مختلفة ومضروبا بأكثر من شغف.. فمع الرسم فتنه كذلك العزف، وهو أمر قد يبدو طبيعيا، فالمجالان متقاربان وتظلهما سماء الإبداع، لكن الذى ليس عاديا ولا طبيعيا أن يضربه الشغف برياضة الملاكمة!
(3)
ربما يكون لعلاقة “الجيرة” التى ربطت بين صلاح طاهر والموسيقار مدحت عاصم أثر فى هذا الشغف، فقد جمعهما شارع واحد وعمر متقارب، وسبقه مدحت إلى هواية الملاكمة رغم براعته فى مجال الموسيقى والعزف على البيانو.. وربما كان لفترة المراهقة وتقلباتها أثر آخر فى اتجاهه إلى حلبات الملاكمة..
صلاح طاهر نفسه لا يعرف متى ضربه الشغف بالملاكمة، المدهش أنه كان فى طفولته يخاف من النهر ولديه “عقدة” من السباحة ويكاد قلبه يخرج من ضلوعه كلما ركب مركبا فى النيل، عندها يتذكر ما حدث له مرة مع والده عندما كاد يغرق مركبهما ونجيا بأعجوبة من الموت، وظلت العقدة تلازمه من السباحة ويصفها بأنها “أول أشباحى”.. فكيف امتلك من يخاف من السباحة هذه الجرأة لأن يمارس رياضة تحتاج إلى قلب ميت ويدخل خلالها “معركة” قد يفقد فيها حياته؟!
عن بداية علاقته بالملاكمة قال صلاح طاهر:
“فى مرحلة البلوغ – وهى مرحلة حرجة جدا – وجدت نفسى أيضا دون سوابق فى العائلة (كالرسم) أهتم بالرياضة جدا، ومارست لعبة الملاكمة وتفوقت فيها، وفى سن الثامنة عشرة كنت بطل القطر المصرى فى الملاكمة، ولعدة سنوات متصلة (حتى بلغت 22 عاما) كنت بطل مصر فى وزن خفيف المتوسط.. وفى الوقت نفسه كنت أهوى الموسيقى وأعزف على الكمان، وأهوى الرسم وأمارسه، وأخوض تدريبات الملاكمة ومبارياتها، وكانت هذه واحدة من كبرى المتناقضات فى حياتى، أن أجمع بين رقة الفن وعنف الملاكمة”.
إلى أن جاءت تلك المصادفة التى وضعت فى طريقه الكاتب العملاق عباس محمود العقاد، وبسبب العقاد قرر صلاح طاهر أن “يعتزل” الملاكمة، بل ويشعر بالخجل أنه يمارس تلك الرياضة العنيفة التى لا تتفق مع رقة فنان وسموه ورهافة مشاعره!
وقتها كان صلاح طاهر قد انتقل مع عائلته إلى مسكنها الجديد فى حى مصر الجديدة، شاب يافع محب للحياة، يرسم ويعزف ويلاكم، ولا يجد حرجا فى أن يمارس الهوايات الثلاث معا ويبرع فيها جميعا.. وحدث أن دعاه صديق له على حفل عيد ميلاده وتمنى عليه أن يقدم خلال الحفل وصلة من العزف على الكمان تحية للضيوف، وفعلا عزف صلاح ونال استحسان المدعوين وتصفيقهم، وفوجئ بأن أحد المدعوين هو الكاتب والمفكر العملاق عباس العقاد، وكان صديقا لوالد صديقه الشاب الذى يحتفل بعيد ميلاده، وجاء العقاد – وكان يومها ملء السمع والبصر- ليجلس بجانب صلاح ويسأله بفضول: “أنت صلاح طاهر بتاع الملاكمة؟!”، وأربكه السؤال وقال متحرجا ومتحشرجا: “آه”، وفوجئ بالعقاد يطلق ضحكة طويلة وهو يعلق مندهشا: “مش معقول!”، فلم يتصور أن بطل مصر فى الملاكمة يمكن أن يكون فنانا بتلك الرقة!
وربما على سبيل السخرية من هذه التركيبة المتناقضة سأله العقاد: “ويا ترى إيه آخر كتاب قرأته يا بطل؟”، وبكل ثقة وبلا تردد أجاب صلاح: “كتاب مختارات من شوبنهور”، وهذه المرة انحبست الضحكة والدهشة فى حلق العقاد عندما بدأ بطل الملاكمة يحدثه بوعى وفهم عن الكتاب الصعب الذى قرأه بالإنجليزية عن الفيلسوف الألمانى العظيم.
لم يكن الظرف لحظتها يسمح للشاب الصغير أن يحكى للكاتب العملاق عن ولعه وحبه للقراءة بتأثير والده، وعن المكتبة العامرة التى تملأ كتبها أركان بيتهم، وعن قراءاته المتنوعة فى الآداب العربية والعالمية، وعن إجادته للقراءة بالعربية والإنجليزية، وبلغت دهشة العقاد منتهاها عندما جاء والد صديقه ليضيف: “صلاح كمان رسام موهوب ودخل كلية الفنون الجميلة”.. ولم يكن العقاد فى حاجة إلى المزيد ليدرك أنه أمام شاب عبقرى، ولم يتردد فى دعوته لحضور صالونه الشهير الذى كان يعقده فى بيته صباح كل جمعة ويحضره نوابغ الفكر والثقافة، وأصبح الطالب صلاح طاهر أصغر رواد صالون العقاد، بل الأهم أنه أصبح أقرب أصدقاء الكاتب العملاق!
(4)
هذا اللقاء الذى تم بالصدفة فى حفل عيد الميلاد كان حدثا فارقا فى حياة صلاح طاهر، وتغيرت بعد لقائه وصداقته بالعقاد اهتماماته ورؤاه وقراراته، بل اتخذ قراره الصعب بأن يعتزل الملاكمة ويتفرغ للفن..
عن تأثير العقاد يحكى صلاح طاهر:
“كان للعقاد فضل كبير فى تكوينى الفنى والأدبى منذ لقائى به، فقد أصبحت الابن الروحى له، انضممت إلى صالونه وعمرى 19 عاما، وظللت لا أتخلف عنه أسبوعا واحدا حتى رحيله فى العام 1964.. كان يتناول عشاءه فى الساعة الثامنة بالضبط، ثم يخرج ليتمشى فى شوارع مصر الجديدة الهادئة حتى العاشرة والنصف، فكنت أحيانا أتعشى معه وأحيانا أذهب إليه بعد العشاء مباشرة وننزل لنتمشى معا، فيحكى لى وأحكى له عن آخر ما قرأه وقرأته، ونتبادل الرأى فيه والحديث عنه، فكأننا كنا عاملين “صالون أدبى متحرك” كل ليلة بعد العشاء، أو إننا كنا نفعل كما كان يفعل أفلاطون وسقراط وأرسطو ومدرسة “المشائين” الذين كانوا يتحاورون فى أدق قضايا الفلسفة وهم يمشون.. هذه المرحلة من علاقتى بالعقاد أثرت فى تكوينى الفنى والأدبى تأثيرا بالغا.. ورغم مشاغلى وقتها كنت أقرأ لمدة 6 ساعات على الأقل كل يوم حتى أستطيع أن “ألاحق” العقاد وأناقشه.. وما أدراك ما المناقشة مع العقاد!”.
ولا يبالغ صلاح طاهر عندما يصفه بأنه “أبى ومعلمى وصديقى.. والأستاذ الذى أدين له باتساع آفاقى الثقافية والأدبية والفكرية”.. وليس أدل على متانة هذه العلاقة الإنسانية بين التلميذ والأستاذ من تكليف العقاد له أن يرسم لوحة تعبر عن خيانة حبيبته، ليضعها فى غرفة نومه وتكون أول ما يفتح عليها عيناه فيشعر بـ”القرف” منها، وقتها كان العقاد يعيش أزمة عاطفية عاصفة بعدما اكتشف عدم إخلاص حبيبته، وحكى لتلميذه عن الآلام النفسية التى يعيشها، واقترح عليه أن يرسم لوحة يتصور فيها المحبوبة “يعفُ” عليها الذباب، فجاءه صلاح طاهر فى اليوم التالى باللوحة الشهيرة “طبق العسل والكعكة التى يعف عليها الذباب والصراصير” ومن فرط إعجاب العقاد بها علقها فى غرفة نومه!
وبسبب العقاد وتأثيره اعتزل صلاح طاهر الملاكمة، بل والرياضة كلها، حتى يتفرغ للفن: دراسة وممارسة، وهو خطأ جسيم أدرك نتائجه وتبعاته التى أوصلته إلى حالة من الارتباك العصبى والعضلى والاكتئاب النفسى، لدرجة أنه – وباعترافه الشخصى- فكّر وقتها فى الانتحار، وكان عليه أن يذهب إلى الطبيب ويتلقى العلاج للخروج من هذه الأزمة.. وأدرك السبب بعدها، فبعد عشر سنوات من ممارسة الرياضة يوميا وبانتظام، فإن جسده شعر باضطراب عندما توقف فجأة عن الرياضة وكان ينبغى عليه الإقلاع تدريجيا، وكانت “اليوجا” هى الحل والعلاج..
وعلاقة صلاح طاهر باليوجا يمكن أن تضاف إلى بقية المتناقضات المدهشات فى حياته، فبعد الملاكمة والرياضة العنيفة وجد نفسه غارقا وسابحا فى بحور السكون والتأمل وترويض النفس لا المنافسين.. يحكى:
“شاء القدر أن يأتى وقتها مدرب يوجا هندى إلى نادى الجزيرة وكنت عضوا فيه، والتحقت بالمجموعة التى اختارها المدرب الهندى، ووقعت فى غرام اليوجا، بل توسعت فى دراستها وسافرت إلى لندن للحصول على كورس فيها، ومن حينها وعلى مدار 45 سنة وأنا أمارسها بانتظام، وأعتبرها من أسباب حيويتى ونشاطى”.
(5)
لنعود إلى الطالب صلاح طاهر، أصغر أصدقاء وتلاميذ العقاد، والذى من أجله اعتزل الرياضة كلها وتنازل عن لقب بطل مصر فى الملاكمة لمدة 4 سنوات، حتى يتفرغ للفن ودراسة الرسم..
الثابت أن صلاح طاهر التحق بمدرسة الفنون الجميلة فى العام 1929، وتخرج فيها فى العام 1934 ليبدأ رحلته الطويلة المثيرة من عرش الملاكمة إلى عرش البورتريه.. وتلك حكاية أخرى.. وللحديث بقية..