«اسمها فلسطين».. رحالة إنجليزية تؤكد أحقية الفلسطينى التاريخية فى أرضه

“اسمها فلسطين.. المذكرات الممنوعة لرحالة إنجليزية فى الأرض المقدسة”، عنوان الكتاب الصادر عن دار الرواق، للرحالة الإنجليزية آدا جودريتش فريير، وترجمته مؤخرا الكاتبة والمترجمة خميلة الجندى، وفاز بجائزة أفضل كتاب مترجم فى معرض القاهره الدولى للكتاب فى دورته الـ56 هذا العام.
من المؤكد أن هذا العنوان، بعيدا عن كونه فائزا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، سيقف عنده كثير من عشاق القراءة، خاصة ممن يفضلون قراءة الكتب أو الروايات التاريخية هذا بالإضافة إلى أهميته فى ظل ما يحدث فى غزة وما يعانيه الشعب الفلسطينى من اعتداءات وجرائم على يد العدوان الإسرائيلى الغاشم، وهذا ما دفعنى لمعرفة المزيد عن هذا الكتاب، وما يحتويه من مشاهدات وصور سجلتها الرحالة الإنجليزية “إدا جودريتش فريير”، خلال زيارتها للقدس من أجل الحج، وتنشر هذه المذكرات لأول مرة.
الكتاب يتكون من ثمانية فصول، فى الفصل الأوّل، “عند عتبة يافا”، تذكر أنَّ لسان أهل القدس هو العربية، وانتشار الجنسيات المختلفة فوق الأرض بجانب العرب، فمثلًا تقول إنّ خمسين تركيًا على الأكثر فى المدينة، وأن معظم السكان المسيحيين يدينون للكنيسة اليونانية، وأن الألمان يمثّلون غالبية السكان الأوروبيين، وأن ثلثى الحجيج روسيون. وفى يافا تصف الأجزاء المزدحمة من المدينة وهى الأسواق وما يبيعه القرويون من بيض ودجاج ومزروعات وجرار اللبنة واللبن الرائب، كما تصف ثياب النساء الكحلية والحمراء وحجابهن المنسدل إلى ظهروهن، إما باللون السماوى وإما بالأبيض، أمَّا الرجال فيرتدون عباءات من وبر الماعز وأقمصة زرقاء أو بخطوط ملونة، وهناك أمثلة على سيدات يرتدين ثياب صارخة الموضة.. أغلبهن على الأرجح من الشام، وجزء منهن أوروبيات، وأُخريات أوروأسيوات من الشرق الأقصى، وتذكر من المعالم المهمة فى البلد باب الخليل وميناء القدس.
الفصل الثانى.. بريق الأرض المقدسة، فتشير فيه إلى عراقة الأرض وتاريخيها الدينى والاجتماعى والثقافى ثم تعرّج بالحديث عن الزراعة فى يافا، وأنواع الفول المختلفة، والأعشاب، والخيار بأنواعه، والخضراوات، وكل المزروعات المهمة للإنسان، خاصة المزروعات الخضراء. وكذلك الحبوب، والدُّخن، والسمسم، وتوضّح أن وقت حصاد العنب هو أوان بديع فى فلسطين، وتذكر من النباتات نبات العائق، والجَعدَة، وأذن الفأر، واللوف الأرجوانى.
وفى الفصل الثالث.. حياة الصّحراء، تسهب فى وصف منظر الصحراء، مثل أنَ الصحراء لا تفتقر للغطاء النباتى كما تتحدث عن القبائل العديدة من بين سكان الصحراء، يختلفون فى الصفات والتصرفات والمظهر، وتتناول أصولهم التاريخية.
الفصل الرّابع “حياة القرية”، توضح فيه أسماء القُرى وتأثرها بالديانة المسيحية والإسلاميّة، ثم تتناول عادات الفلاحين والفلاّحات العاملات، وكيف يُنظر إليهن فى المجتمع، وكيف أنَّ عملهن قد يمنع عنهن الزواج، كما تصف الحاجة التى دعت إلى زيادة الطلب على النساء ليعملن ممرضات فى بيت لحم، كما تصف الأغراض الموجودة فى القرى؛ والجرار التى تُستخدم لأغراض منزلية. فى حالة الحاجة إلى كميات مياه أكبر، فهى مهمة الرجال إحضارها فى قِرَب مصنوعة من جلد الماعز أو الخراف. تُصنع هذه القِرَب فى الخليل.
الفصل الخامس، وعنوانه “حياة المدينة”، توضح الكاتبة فيه الفرق بين القرية والمدينة، وأنَّ المدينة هى البلد المحاطة بالسور، وتذكر أن من بنى الأسوار فى القدس هم الأتراك، فى عهد سليمان العظيم، فى زمن الملكة فيكتوريا. وأوضحت أن حياة المدينة متأثرة بالوجود الأوروبى، مثل مدينة الرملة، ثم تتحدث عن ما يُميز كل مدينة وهى المآذن، التى يُدعى الناس إليها لأداء الصلوات، وكذلك الأسواق والنوافير، ثم تتنقل إلى وصف البيوت الصغيرة بمداخنها.
أما الفصل السادس فتناولت فيه الكاتبة الحياة الدينية فى فلسطين، وتصف فيه كيف أنَّ الأماكن العامة، مثل المحاكم، والحمامات، والمؤسسات الخيرية مزينة بمشاعر دينية تتكيف مع غرض المبنى. ثم تنتقل بالحديث إلى ممارسة الطبقات المختلفة لهذا الدين، كطبقات الفلاحين، من ذكر الله، والتفرقة بين الحلال والحرام، ثم تعقد موازنة بين المسلمات والمسيحيات من حيث التعامل مع الدين فى منظور المعتقدات أو “الخرافات” المرتبطة بالدين، مثل.. إن الأمهات المسلمات والمسيحيات، وإن لم يكن يهوديات، سيحصلن على قطع صغيرة من تراب المغارة أو الكهف فى بيت لحم، يقال إن بعض قطرات حليب الأم العذراء سقطت فيها على الأرض.
وفى الفصل السابع تناولت الظروف الاجتماعية فى الأرض المقدسة، وفى الفصل الثامن، الأماكن المقدسة فى الأرض المقدسة، تتناول الكاتبة المواقع المقدسة والأسباب الدينية التى جعلت منها مكانًا مقدسًا، مثل بعض الأماكن فى حيفا، وبيت لحم، والقدس.
عن الكتاب تقول مترجمته خميلة: “ما كتبته آدا ما هو إلّا قول حقّ، مهما ابتعد عن أعين القراء فهو آمن بين دفتيْ كتاب. لا يُدافِع بحمية لسانٍ أو عرق أو دين، بل بكل بساطة تقول: لهذه الأرض أهل منذ قديم الأزل، وعادات أهلها عندما زرتها كذا وكذا”. موضحة أن “الكاتبة تتناول لمحات من حياة الفلسطينيين قديمًا (1913 تاريخ نشر الكتاب الإنجليزيّ)، وبعض الحقائق التاريخية”.
وعن المؤلفة آدا جودريتش فريير، أوضحت خميلة أنها لم تكن رحالة فى المقام الأول، بل كانت عالمة ما ورائيات وباحثة فى علم النفس، ولكن نتيجة لنزاعات حصلت بينها وبين العلماء فى بريطانيا، كان سببها الأساسى إنها امرأة، وإطلاق ادعاءات مشبوهة عليها قررت أن تسافر القدس للحج، ومنها سافرت إلى نيويورك واستقرت هناك. واستغلت رحلاتها حتى تسجلها وتنتهج نهج الرحالة.
وتضيف: كان سبب اختيارها للسفر لفلسطين هو رحلة الحج. أما المشاهدات فهى كتبت عن كل شىء من لحظة وصولها لميناء يافا، وعن المدن الرئيسية كلها (يافا وبيت لحم ونابلس والقدس وغزة….) واختلافاتهم، عن العرب فى المدن وعاداتهم، وأيضا العرب فى البادية وعاداتهم، وكتبت عن حركتى التجارة والزراعة، وعن علاقات الفلسطينين بجيرانهم فى مصر والشام وأيضا عن المسلمين والمسيحيين واليهود والسامريين، وكذلك عن الجاليات الأوروبية وأعدادها فى البلاد.
وتضيف خميلة: لم تلجأ آدا إلى وصف الأماكن بعينٍ زائرة متجوّلة فقط، بل بطنّت رؤيتها بعدسة دينية؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو دليلٌ واضح وصريح منها على أنَّ أهل هذا البلد لهم جذور كجذور الزيتون، راسخة عميقًا فى باطن الأرض، حتى إن حسبت أن تقتلعهم فلن تستطيع، لذا كان من الضرورى أن نُعيد إحياء تلك الكلمة التى أخفتها الأيادى عمدًا أو سهوًا. فإثبات أن فلسطين أرض الفلسطينيين وأجداد أجدادهم أمر لا يحتاج إلى جُهد كثير، لكنه لا محال يحتاج إلى تسليط الضوء والتوثيق بجهد أكبر مِن المبذول.
وتؤكد خميلة أن ملاحظات الكاتبة الدقيقة، ووصفها للأرض المُقدسة، لا تخلو أبدًا بين سطر وآخر من تأكيد -غير مُفتعل- وتوثيق -غير متعمد- أحقية الفلسطينى التاريخية فى أرضه، كما أسهمت الصور التى زادت عن خمسين فى توثيق الحياة اليومية، فى البادية والريف والمدن، للعربى على أرض فلسطين، لتمحى ما هو مزيف من قول إن فلسطين كانت قبل وصول العصابات الصهيونية إليها أرضًا خاوية، وصحراء جرداء، مُجهزة لاستقبالهم، وأنهم عمرّوها وزرعوها. بل تقص الكاتبة بالتفصيل حكايات عن المستشفيات والمستوصفات والمدارس والمعاهد فى أرض فلسطين وكيف بُنيت، والمنازل القديمة والحديثة آنذاك، ومعمارها العربى الأصيل الفريد فى بنيانه وزخرفته، والكنائس العتيقة، والمساجد التى وُضع أول أحجارها على أرض فلسطين قبل قرون من وصول العصابات الصهيونية، وكذلك لا تغفل أن تتحدث عن اليهود باعتبارهم جزءًا من نسيج البلاد، فهم اليهود العرب، يعيشون على الأرض شأنهم شأن المسيحى والمُسلم، لهم منازلهم ومعابدهم وطقوسهم واحتفالاتهم. ولا يخلو هذا الكتاب من تسليط الضوء على ما جَمَع بين الأديان الثلاثة من عادات، ليس لأنها عادات دينية، بل لأنها تقاليد عربية مشتركة اتسم بها أهل هذا البلد آنذاك.
وتقول خميلة:ترجمة المذكرات كانت محاولة لتوثيق تسجيلات ومشاهدات الغرب عن منطقتنا العربية، أما الامتداد لفلسطين كان ضرورى فى هذا الوقت الحساس وجزء من سعينا لإعادة إظهار السردية الحقيقية وبعيون الغرب، وهذه المذكرات تنشر مترجمة لأول مرة فعلًا، أما منعها فى زمنها كان منع النشر نتيجة لاضطهاد ذكورى لآدا شخصيًا.
وعن فوز الكتاب بأفضل كتاب مترجم هذا العام فى معرض القاهرة الدولى للكتاب تقول خميلة: انتابنى إحساس بالسعادة الغامرة والإنجاز، فى سن صغيرة، وفى بداية خطوات لطريق طويل، وسعادة بالتقدير من مؤسسة عريقة بقدر المركز القومى للترجمة، وكذلك فخر لأن العنوان له قضية مهمة جدًا، وكان يهمنا وقت إصداره أن تحصل على كل تقدير وضوء ممكن، والجائزة مهّدت الطريق لهذا الهدف أكثر.
وتوجه خميل الشكر إلى الأستاذة ماريا جورج على مجهودها الفائق فى مراجعة بعض المعلومات المسيحية، حتى يخرج الكتاب إلى القُرّاء على النحو المطلوب كما يليق بمحتواه الثمين.