مؤتمر الحسنة.. القصة الكاملة فى أوراق «اليماني»

مؤتمر الحسنة.. القصة الكاملة فى أوراق «اليماني»

هكـذا نجـح الأبطـال فى إفشـال مخطط تدويل سيناء

هى صفحات من سجلات البطولة والفداء، ودرس فى أغلى معانى الانتماء.. صفحات سطّرها مشايخ سيناء إبان ملاحم حرب الاستنزاف، حين قاموا بإفشال مخطط العدو لتدويل أرض الفيروز، ووجهوا لكبار قواده صفعة مخابراتية مصرية على مرأى ومسمع من وكالات الأنباء العالمية.

إنها قصة مؤتمر الحسنة.. ولنا فيها أسوة حسنة تدعونا لكى نتذكر كيف انخرط الأبطال ضمن منظمة سيناء العربية فتحولوا – تحت قيادة المخابرات الحربية – لرادارات بشرية أمكنها أن تنذر بالخطر وأن تصيب معاقل العدو فى مقتل.

اليوم نعود فنقرأ ما كتبه الأبطال من نخبة هذه الأمة عن تلك الأيام الخالدة ومنهم ابن سيناء البار الفدائى الراحل محمد محمود اليمانى – أحد صقور إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع – والذى سجل وقائع ما جرى بمؤتمر الحسنة فى كتابه “بطولات على رمال سيناء” .. 

أول ما يلفت انتباه القارئ لما سجله البطل “اليماني” هو التقديم الذى كتبه المشير محمد عبد الغنى الجمسى عن سيناء وأهلها الأبطال تحت عنوان “بوابة مصر الشرقية” بقوله:

“لعلنا نتذكر دائماً أن سيناء لعبت دوراً رئيسياً فى الدفاع عن مصر منذ زمن بعيد. وازداد هذا الدور خلال الصراع العربى الإسرائيلى منذ نشأة إسرائيل على حدودنا الشرقية.

لقد كانت سيناء مسرح العمليات العسكرية فى الحروب التى خاضتها مصر ضد الاعتداء الاسرائيلى حلال العدوان الثلاثى عام 1956، وحرب يونيو 67، والمعارك التى دارت إثر هذه الحرب التى تصاعدت إلى حرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر.

ونتيجة لهذه الحروب المتتالية تحمل المواطنون فى سيناء عبئاً ثقيلاً تحت الاحتلال الاسرائيلي، الأمر الذى أوضح المعدن الحقيقى لشعب سيناء فى مقاومة القوات المعادية بالطرق والوسائل المناسبة. وقد تعددت وتنوعت الوسائل بما يتمشى مع الموقف العسكري، الأمر الذى كبد العدو فى سيناء الخسائر فى الأرواح والمعدات، والحصول على المعلومات الصحيحة والدقيقة عن حجم قوات العدو فى سيناء واكتشاف نواياه وقدراته على العمل العسكرى ضد قواتنا وتسهيل عمل قواتنا ضد العدو على ضوء معلومات مؤكدة عن أوضاعه وحجم قواته وقدراته.

وقد أسعدنى الزميل محمد محمود اليمانى – ضابط سابق بالقوات المسلحة ومن أبناء سيناء- عندما سجل فى كتابه – بطولات على رمال سيناء- بعض وليس كل البطولات، حيث أنه أسهم شخصياً فى بعض هذه الأعمال وأشرف على تنفيذ البعض الآخر. وهنا لا بد من الإشارة لجهد أبناء سيناء فى هذه الأعمال والتى بدونها ما كان يمكن أن يكتب لها النجاح. وقد أثبتت تعليقات الصحافة والكتاب الإسرائيليين والمحاكم العسكرية الإسرائيلية ما كان يقوم به أبناء سيناء من أعمال بطولية فى خدمة الأعمال العسكرية المصرية ضد القوات الاسرائيلية”.

 قصة مؤتمر الحسنة

كثيرة هى قصص البطولة والفداء التى سجلها الفدائى البطل محمد محمود اليمانى فى كتابه “بطولات على رمال سيناء” وفى موقع القلب منها قصة مؤتمر الحسنة لتدويل أرض الفيروز حيث يسجل البطل: ضمن محاولات العدو اليائسة والمتكررة لاستمرار احتلاله لسيناء وللتخفيف عما تتعرض له قواته من خسائر نتيجة للضربات المتلاحقة سواء من التشكيلات المصرية المقاتلة أو من جانب عناصر منظمة سيناء العربية فى العمق البعيد، حيث قام العدو بالترويج والدعاية لإحدى أفكاره الشيطانية، وهى لماذا لا يعمل على إقناع المواطنين بفكرة تدويل سيناء، وإلغاء مصريتها، وإقامة دولة تحت حماية إحدى الدول القوية وفقاً لمزاعمه، ولقد قام بالدعوة لهذه الفكرة الشيطانية فى النصف الأول من عام 1968، ومن خلال الاتصال المباشر بمشايخ القبائل والعائلات والتجمعات السكانية مهما بلغ حجمها، مستخدماً فى ذلك العربات المجهزة للسير بالصحراء، وكذا الطائرات العمودية مع الإغداق بالهدايا والمعونات العينية.. وتابعت القيادة السياسية من خلال المخابرات الحربية تصرفات العدو وإجراءاته للترويج لفكرته الجديدة، وكانت المخابرات الحربية على علم ومعرفة بكل التطورات يوميا، بل وأحيانا متابعة كل عدة ساعات وكان هناك وضوح رؤية لجميع مشايخ ومواطنى سيناء لما يهدف له العدو لا تتمثل فى رفض هذه الأفكار الاستعمارية فقط، فالجميع لن يقبلوا بذلك ولو كان مقابل رفضهم الاستشهاد والتضحية بأرواحهم فى سبيل الحق والوطن، ولكن أيضا لتلقين العدو درسا فى أن المصريين الذى سبق لبلادهم أن احتُلت من قوى أجنبية لفترة طويلة لم تستطع هذه القوى الاستعمارية أن تؤثر فى معنوياتهم، أو أن تغير أو تبدل من تصميمهم على طرد المستعمر مهما طال أجله.

واستمرت المخابرات الاسرائيلية فى ترغيبها ووعودها بالحياة الرغدة التى سينعم بها مواطنو سيناء فى حالة توقيعهم على وثيقة التدويل. وعندما اطمأنوا لنجاح فكرتهم بعد اتصالاتهم المكثفة قرروا عقد مؤتمر بمنطقة الحسنة بوسط سيناء يحضره جميع مشايخ القبائل والعائلات وكذا مندوبى وكالات الأنباء والصحافة العالمية، دون أن يعلموا أن المخابرات الحربية المصرية كانت خلف كل تحركات لهم لإفشال المؤتمر وتعريته أمام المواطنين الشرفاء.. وكانت هناك خطة خداع من جانبنا صورت للعدو بأنه سيحقق ما يهدف إليه من هذا المؤتمر، وقد عُقد المؤتمر وافتُتِح بكلمة من الحاكم العسكرى لقطاع غزة وشمال سيناء قال فيها إن هذا المؤتمر ينعقد لمصلحة أهالى سيناء واستقرارهم، حيث إنه لا فائدة لهم فى أن تكون بلادهم مسرحًا للحروب.. وأن إسرائيل تمتلك اليوم كل أرض سيناء إلا أنها لصالح مواطنى سيناء لن تتمسك بملكية هذه الأرض فى حالة توقيع المشايخ على وثيقة تطالب بتدويل سيناء، وفى التدويل ستكونون تحت حماية دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية خاصة وأن إمكانيات سيناء البترولية والتعدينية والسياحية والزراعية تؤهلها لذلك؛ وطلب من الحاضرين الموافقة على التدويل إلا أنه لم يتلق الرد بل قوبل بصمت مطبق رغم حضور أكثر من مائة فرد من المشايخ والأعيان.

 يواصل البطل محمد اليماني: وفقاً لخطة المخابرات الحربية قام إلى المنصة المرحوم الشيخ “سالم على الهرش” من قبيلة “البياضية” والمعين متحدثًا رسميًا برضاء جميع القبائل والعائلات.. وقد أشار الحاكم العسكرى الإسرائيلى هل هو مفوض للحديث نيابة عنكم فأجاب الجميع بالإيجاب، وأخذ الشيخ “الهرش” يتحدث:

” أشهد الله وأشهد هذه الأرض المباركة أننا نرفض فكرة التدويل من أساسها،  كما نرفض الاحتلال، كما نرفض ما ذُكر بشأن ملكية إسرائيل لهذه الأرض، فأنتم لستم إلا قوة احتلال، وأن هذه الأرض مصرية وستظل وإلى الأبد مصرية، وأننا مواطنون مصريون نؤمن بوطننا وقيادتنا فى مصر، ولن نفرط فى شبر واحد مهما كان الثمن، وإن مصلحتنا ومستقبلنا نحن أدرى به وهو فى الأيدى الأمينة التى تتولى أمورنا، والتى لا يمكن أن نؤمن بأن هناك قيادة أو شرعية سواها.. نحن هنا تحت أسر الاحتلال ونحن جزء من كل وهو جمهورية مصر العربية، وقائدنا ورئيسنا هو السيد الرئيس جمال عبد الناصر” .

يعود البطل اليمانى ليسجل: أُسقط فى يد العدو رغم الجهود التى بذلها والاستعدادات التى سبقت هذا المؤتمر سواء فى النوعية أو الأعداد وحتى مظاهرة نقل الطعام لحاضرى المؤتمر بطائرات الهليكوبتر من بئر سبع،  ناهيك عن المظاهر المصطنعة التى تم إحاطة مكان عقد المؤتمر بها بما يوحى بأن الراعين لهذا المؤتمر ليسوا بعيدين عن الأعراف والتقاليد الجارية بين أهالى سيناء، حيث أجبر الأهالى على إقامة بيوت من الشعر، وأشعلت أمامها النيران، وأعدت القهوة العربية وكأنه يوم فرح كان ينتظره الجميع وفقاً لتصورات العدو الواهية.. وقد انتهى هذا المؤتمر مؤكداً مرة أخرى أن شعب سيناء – وهو الجزء الغالى من شعب مصر- سيظل وإلى الأبد حامياً لهذه الأرض التى تعطرت بدماء الشهداء وعرق المقاتلين من جميع أنحاء الوطن.. سيظل إلى الأبد رافضا للاحتلال بمختلف ألوانه وأشكاله، وسيكون الصخرة العاتية التى تنكسر عليها كل آمال العدو ومحاولاته المتكررة للنيل من حبه لوطنه، وسيبقى دائماً الوفى بالحفاظ على أرضه وعرضه حتى يرتفع علم الوطن مرة أخرى خفاقاً على كل شبر من سيناء وعندها يفرح المؤمنون بنصر بالله وكثيراً ما تساءل القوم عن يوم النصر.. وكانوا يرددون جميعاً عسى أن يكون قريبا.. وقد عاد هؤلاء المواطنون الشرفاء إلى أهليهم وقد استطاعوا بتضامنهم وولائهم المطلق لوطنهم وترابه المقدس أن يجهضوا هذه المحاولة اليائسة، وقد عمّت الفرحة جميع أنحاء سيناء بما انتهى إليه هذا اللقاء والذى كان أول مواجهة أمام ممثلى الصحافة ووكالات الأنباء العالمية والإدارة الاسرائيلية من جانب ومشايخ وأعيان سيناء من جانب آخر.

 قيود بعد فشل مؤتمر الحسنة

يكتب الفدائى البطل محمد اليماني: كانت نتائج فشل مؤتمر الحسنة بداية جديدة من الضغط على المواطنين، ووضع القيود والعقبات على تحركاتهم، ومداهمة مساكنهم بين وقت وآخر، كما اتخذ العدو عددا من الاجراءات التعسفية لتكريس الاحتلال كالآتي:

– إضافة مناطق جديدة للمناطق المحظور تواجد المواطنين بها والحد من تحركاتهم على الطرق الرئيسية وحظر السير ليلا.

– الاستيلاء على المناطق الصالحة للزراعة والرعى وصيد السمك وطرد المواطنين لإقامة مستعمراته العسكرية فى مصفق والعريش والشيخ زويد ورفح، وأعطيت لها أسماء “منظمة الناحال” وهى فى حقيقتها مستعمرات عسكرية مثل “ناحال يام” و “ناحال ديكلا” و”ناحال سيناء”.. إلخ.

– أقام العدو قرى سياحية إسرائيلية على شاطئ خليج العقبة بمناطق دهب وشرم الشيخ، كما أقام فندقاً ومطاراً بمنطقة سانت كاترين بإنشاءات ومعدات توحى بنيته على استمرار الاحتلال.

– تكثيف الدوريات على الحد الشرقى للقناة والخليج وجميع طرق الاقتراب المحتلة سواء من البحر الأبيض المتوسط أو خليج العقبة.

– قيام العدو بحركة اعتقالات واسعة استهدفت أغلب مشايخ وعواقل القبائل بمختلف أنحاء سيناء كوسيلة ضغط وتهديد وتخويف، وكانت التهم الموجهة إليهم أنهم يعملون ضده بالتعاون مع المخابرات الحربية المصرية.

ويا لها من تهمة مشرفة، إنه وسام نعتز به، فلم يكن لهذه الإجراءات التعسفية والتى تتعارض مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان، وما صاحبها من تعذيب داخل السجون الإسرائيلية إلا مردوداً إيجابياً وكراهية للعدو، وصلابة فى مقاومته، والعمل ضد مخططاته ومنشآته.

وبهذا أكد شعب سيناء مرة أخرى أن جراح وآلام الوطن لا تتجزأ، وأن احتلال سيناء لن يستمر طويلاً.. وبهذه الروح الوطنية العالية استمرت المخابرات الحربية فى تنفيذ مهامها بسيناء بكفاءة عالية سواء على مستوى العمل الفدائى من خلال منظمة سيناء العربية أو مجال جمع وتصوير ورصد تحركات العدو.

ولعل المخابرات الإسرائيلية بعد مرور سنوات على مؤتمر الحسنة والاستعدادات التى كان من بينها إعداد برامج لزيارة بعض المدن الإسرائيلية وقطاع غزة المحتل وتهيئة الإقامة وتغطية تكاليفها لعدد من مشايخ وأعيان قبائل سيناء فى الأيام التى سبقت اللقاء المرتقب.. لعلها تدرك الآن أن الذين حاولت استقطابهم لم يكونوا سوى عناصر للمخابرات الحربية المصرية (!)

 مقابلة التحدى بالتحدي

يواصل البطل اليماني: كانت المخابرات الحربية على بينة بالإجراءات التى سيتخذها العدو بعد فشل مخططه الاستيطانى بمؤتمر الحسنة، ولذا فلم يكن لهذه الإجراءات أى تأثير على غريزة التحدى لدى المواطنين، واستمرت المخابرات الحربية فى تنفيذ احتياجات القوات المسلحة وفقاً لما هو مخطط، فكانت المعلومات عن العدو تتدفق من خلال الأجهزة اللاسلكية ومجموعات الأخبار التى يعمل عليها أبناء سيناء، بالإضافة إلى العمليات التعرضية التى قام بها شباب منظمة سيناء العربية.