البرنامج الثقافى من القاهرة.. شاهد على نهضة الـقوة الناعمة

فى الخامس من مايو 1957 استمع المصريون لأول مرة لإذاعة تسمى «البرنامج الثانى»، وكان الإذاعى الرائد الراحل «سعد لبيب» هو من تولى وأشرف مع فريق من الإذاعيين على خروج هذه الإذاعة من دائرة الأحلام إلى دائرة الواقع،
وكان معه من المبدعين المعروفين: الفنان محمود مرسى والقاص والروائى بهاء طاهر.. وقدمت إذاعة البرنامج الثانى مئات المسرحيات العالمية «باللغة العربية»، أسهم فى تصوير أحداثها أساطين الفن المصرى، وقدمت مئات المسلسلات الدرامية والبرامج التى تروى تفاصيل حيوات الشخصيات المؤثرة فى الوجدان المصرى والعربى، رغم أن مدة البث لم تزد على ثلاث ساعات، زيدت إلى أربع، ثم أصبحت تبث برامجها من الثالثة عصراً إلى الثالثة من صباح اليوم التالى.
والمعنى المقصود هنا ـ غير احتفالنا بذكرى تأسيس هذه الإذاعة الفريدة ـ هو نهضة القوة الناعمة المصرية وارتباطها باللحظة التاريخية التى عاشتها الشعوب العربية فى حقبة ما بعد الاستعمار الغربى، فقد كانت مصر هى التى تقود هذه الشعوب من «راديو القاهرة» وكان العرب جميعاً ينتظرون ما يرسله «راديو القاهرة».. فى السياسة «صوت العرب» وفى الثقافة «البرنامج الثانى» الذى هو نفسه البرنامج الثقافى الحالى.. وما زالت مصر قادرة على استعادة هذا الدور، فنحن نملك القوة البشرية الثرية الخصبة المبدعة، ونملك التاريخ العريق، ونستطيع إنهاض قوتنا الناعمة وجعلها تحمل رسالتنا إلى العرب والعالم.. كل ما نحتاجه فى هذه الفترة الراهنة إدراك قيمة «القوة الناعمة» وحشد الموهوبين المخلصين ومنحهم الفرص للخلق والإبداع.
وللقارئ العزيز نقول، إن «مصر» قدرها أن تكون «قائدة العرب» وهذا ما عرفه لنا الراحل «الدكتور جمال حمدان» صاحب المؤلف الأشهر «شخصية مصر».. وفى مصر ما زالت كل أسباب النهضة الثقافية موجودة، شريطة أن نوظفها التوظيف المناسب.. وفى ذكرى تأسيس «البرنامج الثقافى من القاهرة» نهنئ الإذاعيين العاملين فيه والإذاعيات ونشكرهم على ما يقومون به من جهد يستهدف توصيل صوت مصر الثقافى إلى الداخل والخارج بقوة وجمال يليقان بتاريخنا المجيد.
سعد القليعى.. كاتب وشاعر كبير ومؤلف درامـا إذاعيــة
صديقى «سعد القليعى» من مواليد «قرية المحروسة» فى قنا، عرفته منذ سنوات ونشأت بيننا صداقة ومودة عميقة، وهذه الصداقة جعلتنى أعيد تذكير الناس بإبداعاته، وبالطبع هذه المساحة لن تكفى، لكن نتذكر له مجموعة برامج قدمها على موجة «البرنامج الثقافى» منها «ألوان من الشعر»، وهذا البرنامج فكرته قامت على البحث فى تاريخ الشعر العربى وتقديم النماذج المهمة التى اخترقت حواجز التاريخ والجغرافيا وعاشت فى وجدان العرب وغيرهم من المهتمين بالشعر، وبرنامج «أمثال من حكايات الأجيال» وهو برنامج درامى، وله عطاء كبير فى مجال الدراما الإذاعية والتليفزيونية.. ومن أعماله الإذاعية الدرامية المشهورة «ورد النيل» وهو معالجة لرواية «النمل الأبيض» للكاتب الراحل «عبدالوهاب الأسوانى» و»فرسان الانتصار» و»غيّاث الدمشقى» و»قمر بغداد» و»قيود ناعمة» وهى أعمال حققت شهرة ونجاحاً.. و»سعد» يكتب القصة القصيرة والسيناريو التليفزيونى والسينمائى، من أعماله السينمائية «طرح الصبّار» وهو فيلم روائى قصير، ومن أعماله التليفزيونية «القاهرة 2000» و»ورد النيل» تاذى قدمته الإذاعة وجعل نجاحه المبدع الكبير «سعد القليعى» يعده فى صيغة تليفزيونية وحقق نجاحاً جماهيرياً، لأنه المسلسل الوحيد الناطق بلهجة المنطقة التى وقعت فيها تفاصيل الرواية التى كتبها عبدالوهاب الأسوانى رحمه الله، ولأن الصديق سعد القليعى يعرف الصعيد معرفة المبدع والمثقف، فقد نجح فى رسم الشخصيات والتعامل الأمين مع النص الروائى، وجعل الفنانين ينطقون لهجة «عرب أسوان» نطقاً سليماً ليس فيه الصخب والمبالغة التى قدمها صفاء عامر فى «ذئاب الجبل» وغيره.
رصيد سعد القليعى من الدراما الإذاعية بلغ الخمسين عملا، وله أغنيات جميلة تغنى بها المطربون: على الحجار ومحمد الحلو وعفاف راضى ولطفى بوشناق وغادة رجب، وهو يكتب المقال النقدى فى جريدة «القاهرة» ومجلة «فنون» اللتين تصدران عن وزارة الثقافة المصرية، وحاز جوائز أدبية عديدة فى مجالات الشعر والقصة القصيرة والسيناريو، وما زال يؤدى رسالته بقوة وإيمان بقيمة الثقافة الوطنية وانحياز لكل ما هو أصيل.
عاطف الطيب..
مخرج سينمائى منحاز للجماهير
عاطف الطيب، من مواليد جزيرة «الشورانية» الموجودة داخل نطاق مركز «المراغة» فى محافظة سوهاج، فى 26 ديسمبر 1947، تخرج فى المعهد العالى للسينما، ولم يكن من الطبقة الغنية، كان من الطبقة التى استفادت بإصلاحات ثورة 23 يوليو 1952 وعاش عيشة جيله، الجيل الذى نام فى الخنادق والملاجئ على الجبهة، فى الفترة الزمنية الواقعة بين «5 يونيو 1967» و»6 أكتوبر1973» وقضى فى الخدمة العسكرية خمس سنوات، مثله مثل كل الشبان فى تلك المرحلة، وكان انحيازه للجماهير انحيازاً حقيقياً، فهو عاش طفولته وشبابه فى مرحلة الحروب العربية الإسرائيلية، وهو الذى أخرج فيلم «ناجى العلى» الذى قام ببطولته «نور الشريف» وتناول فيه قصة المقاومة الفلسطينية والدور الذى قام به رسام الكاريكاتير المناضل «ناجى العلى». وقدم فى مسيرته الفنية واحداً وعشرين فيلماً، ومن أفلامه التى تركت أثراً طيباً فيلم «الحب فوق هضبة الهرم» وهو معالجة لقصة الكاتب نجيب محفوظ، وفيها هموم «الجماهير» التى وجدت نفسها غير قادرة على مواكبة «الانفتاح الاقتصادى» الذى خلق التفاوت الرهيب بين طبقات المجتمع، وخلق «البطالة المقنّعة» التى اضطرت لها الحكومات لامتصاص «البطالة» فى قطاع خريجى الجامعات، وقام بالبطولة «أحمد زكى» و»آثار الحكيم».. وفيلم «كتيبة الإعدام» وهو من أهم الأفلام التى بحثت عن «أصول» رجال الانفتاح، وقدمت صورة للذين حاربوا من أجل تحرير الأرض، وقدم «نور الشريف» دوراً مهماً فى هذا الفيلم، وكذلك فى فيلم «سوّاق الأتوبيس» الذى كان صرخة احتجاج على الانهيار الاقتصادى الذى لحق بالطبقات الشعبية.. وفى فيلم «الزمّار» قدم ـ عاطف الطيب ـ البيئة الصعيدية، منطقة شرق النيل، وجعل «محسنة توفيق» و»نور الشريف» مواطنين من «ساقلتة، وأخميم، ودار السلام»، وهذا الفيلم عُرض فى مهرجانات عالمية منها مهرجان موسكو ومهرجان برلين، ولا يمكن نسيان جوهرته السينمائية «البرىء» الذى تحول إلى أيقونة سينمائية، الكل يحبه ويحفظ الحوارات والمشاهد التى كتبها «وحيد حامد» وجعلت منه الفيلم الكبير الذى شارك فيه الكبار «الأبنودى، عمار الشريعى، أحمد زكى، ممدوح عبد العليم»، فأصبح فيلماً يحكى قصة الحرية، وقصة المثقف الذى يواجه القبضة الحديدية فى زمن غاب فيه الأمن، رغم أنه يتناول قصة فلاح مجند فى فرق الأمن المركزى «أحمد سبع الليل» ـ قدمه باقتدار الفنان أحمد زكى.. وفيلمه المهم أيضاً «ملف فى الآداب» وفيه أبدع الفنان الراحل صلاح السعدنى، وأثبت أنه قادر على تقديم كل الشخصيات بقوة وقدرة على الإقناع، وفيلم «الهروب» الذى حقق شهرة واسعة هو من أهم الأفلام التى عبر فيها «عاطف الطيب» عن العلاقات التى تحكم أهل الصعيد، وهى علاقات تتجاوز القانون والوظيفة، والفيلم جمع بين عبدالعزيز مخيون وأحمد زكى على أرض سوهاج، وكأنه أراد تقديم ثقافة «العربان» وأثرها على مجتمع المدينة والقانون الحديث وقبضة الدولة، وهى ثقافة موجودة وحية فى الصعيد والشرقية والبحيرة ومصر الوسطى ومطروح وسيناء ومحافظات القناة.. رحم الله عاطف الطيب وجعل مثواه الجنة.