سيف وانلي: مؤلف 80 ألف رسم و3 آلاف لوحة فنية

أسرع من رسم الاسكتش.. وأبرع من صوّر «حياة الليل» «19»
كيف ساهم ثروت عكاشة فى صناعة أسطورة الأخوين وانلى؟
سيف.. أول رسام مصرى تمنحه الدولة درجة الدكتوراة الفخرية
بعد صدمة رحيل شقيقه أدهم كتب: أنا الرجل الذى فقد ظله
فى يوم افتتاح مرسم الفنان الإيطالى العالمى “أتورينو بيكى” بالإسكندرية يوم 9 أكتوبر 1925، طلب من تلميذيه الصغيرين سيف وأدهم وانلى أن يرسما بالفحم وجه سقراط، وقدم لهما تمثالا من الجبس لوجه الفيلسوف اليونانى العظيم، وقدّر أن الأمر سيستغرق ساعات، ولكنه فوجئ بعد ربع ساعة بالتلميذين ينجزان المهمة على أكمل وأروع ما يكون، ولم يملك “بيكي” نفسه من الإعجاب ونادى على زوجته “السنيورا أرميدا” أن تأتى مسرعة لتشاهد هذين الشابين المصريين المذهلين..
عندما قرر “بيكى” أن يعود إلى وطنه عام 1930، همس فى أذن صديقه وبلدياته “زانييرى” صاحب المرسم المعروف بالإسكندرية: “إننى فخور لأننى سأترك لمصر ثلاثة فنانين ستتباهى بهم”، وكان يقصد الأخوين وانلى وصديقهما الفنان أحمد فهمى، رفيق البدايات والمرسم الأول الذى جمعهم فى أول المشوار.
تحققت نبوءة “بيكى”، وحقق الأخوان وانلى نجاحات باهرة جعلت منهما الثنائى الأشهر فى الحركة التشكيلية المصرية.. لكن مشوار النجاح لم يكن مفروشا بالزهور والعطور والألوان.. بل بالعقبات والمصاعب والآلام..
فبعد رحيل أستاذهما “بيكى” وإغلاق مرسمه (الذى كان بمثابة كلية الفنون الجميلة التى تلقيا فيها دراسة أكاديمية عملية لفن الرسم)، عاشا الأخوان فترة من الضياع والتخبط، واضطرا لأن يرسما فى الشوارع وعلى ضفاف ترعة المحمودية وأسواق الإسكندرية.. فإذا ما عثرا أخيرا على مرسم متواضع لم يجدا نفقات تأسيسه لولا مساعدة صديقهما المخرج السينمائى محمد بيومى.. فإذا ما تحقق الحلم وافتتحا المرسم لم يجدا ما يدفعانه للموديل، ولم يكن أمامهما سوى رجل عجوز رث الملابس طويل اللحية أشبه بفلاسفة الإغريق، جاءا له بملابس تاريخية ووضعا على رأسه تيجان من ورق ملون، وتنافسا فى رسمه!
ولما لم يجد الأخوان فى المرسم المتواضع ما يُشبع نهمهما وشغفهما ورؤيتهما خرجا إلى الشارع من جديد يسجلان حياة الناس اليومية، ويرسمان ما تقع عليه عيونهما، أو بتعبير الناقدين كمال الملاخ وصبحى الشارونى فى دراستهما القيمة عن الأخوين وانلى:
“وجدا الجمال فى الحوارى والشوارع والميادين، فى ملابس بنات الإسكندرية متباينة الألوان، وفى النسوة المتلفعات بالملايات اللف، ورسما حركة البيع والشراء وسجلا حركة المدينة ككائن حى بدلا من البقاء بين جدران المرسم.. صنعا الإطارات بأيديهما وعلقا لوحاتهما على جدران مرسمهما حتى أصبحت جدرانه لوحات، وأحسا أنهما اجتازا مرحلة التكوين والبداية واستحقا الدخول بين كبار الفنانين”.
(1)
فى ذلك الزمن من سنوات العشرينيات والثلاثينيات كان الرسامون الأجانب هم أصحاب النفوذ والسطوة والشهرة والكلمة العليا فى الحركة التشكيلية بالإسكندرية، لوحاتهم تتصدر المعارض المقامة بأتيليه الإسكندرية، وهى صاحبة النصيب الأوفر من اهتمامات ومشتروات هواة الفنون وجمهورها ومتذوقيها..
ومن ثم كان أمل الأخوين وانلى يبدو معدوما عندما حملا لوحاتهما ليشاركا بها فى الصالون السنوى الذى تقيمه جمعية أتيليه الإسكندرية، ورغم الحفاوة التى قابلهما بها الفنان الرائد محمد ناجى وثنائه على لوحاتهما، فإنهما اعتبراها مجاملة عابرة غير ذات شأن، وعادا إلى مرسمهما على قناعة بأن المسئولين عن المعرض سيتجاهلون أعمالهما، فمن يمكن أن يهتم بلوحات لشابين مغمورين، وترسخت تلك القناعة عندما أزف موعد الافتتاح ولم يتلقيا دعوة للحضور أو ما يفيد قبول المشاركة، وعندما ذهبا على سبيل الفضول وجدا مفاجأة مدوية فى انتظارهما، فقد شاهدا كل لوحاتهما معروضة جنبا إلى جنب مع أعمال كبار الفنانين..
ما تلقاه سيف وانلى من كلمات إعجاب بعد المعرض السكندرى شجعه على المشاركة فى المسابقة التى تنظمها وترعاها الرائدة الجليلة هدى شعراوى وتحمل اسم المثّال المصرى العظيم محمود مختار.. ويذكر سيف تاريخ هذه المسابقة تحديدا (العام 1936) لأنه فاز بجائزتها الأولى فى التصوير.
واستمرت رحلة الصعود والتألق وإثبات الذات، وهنا يمكن أن نقف على محطات رئيسية فارقة فى مشوار الأخوين وانلى:
– إقامة أول معرض خاص لأعمالهما، حدث ذلك فى العام 1939 وهو العام الذى اشتعلت فيه الحرب العالمية الثانية، ومعها تدفقت القوات البريطانية على الإسكندرية، وتقرر حينها إنشاء معهد بريطانى يكون من بين أنشطته دعم هواة الفن من بين الجنود الإنجليز، ووجه المعهد الدعوة للفنانين السكندريين والأجانب المقيمين بالإسكندرية للمشاركة فى هذا النشاط.. وتعددت الفعاليات بين ندوات ومحاضرات وعروض لوحات.. وكان من بينها معرض قرر الأخوان وانلى مع ثالثهما أحمد فهمى إقامته بالمعهد البريطانى بالإسكندرية، كان هو الأول لرسامين مصريين بالمعهد، ولفت المعرض الأنظار إلى أعمال وموهبة وتجربة الرسامين السكندريين.
– معرض جماعة الصداقة المصرية الفرنسية، وهى جماعة ثقافية أسسها وترأسها المثقف الموسوعى د. حسين فوزى، وامتدت أنشطتها إلى الإسكندرية، وتحمس د. حسين فوزى لإقامة معرض للثلاثى نفسه: سيف وأدهم وانلى وأحمد فهمى، وافتتح المعرض فى 3 ديسمبر 1945، وحظى المعرض بإقبال جماهيرى كبير ومتابعة نقدية واسعة، وقدم الأخوان فى المعرض عددا كبيرا من اللوحات التى تصور واقع الحياة اليومية بالإسكندرية، ووصلت أعمالهما لحالة من النضج الفنى جعلت النقاد يعتبرونهما تيارا فنيا مميزا أطلقوا عليه اسم: جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان المعرض فى أعقاب تلك الحرب الكونية التى كانت حدثا فارقا فى تاريخ العالم على كل الأصعدة.
– معرض جماعة مصر أوربا، وهى جماعة فنية أنشئت عام 1949، وتميزت بأنشطتها الفنية والأدبية، وكان بينها سلسلة من المعارض الفنية، باكورتها لخمسة من الرسامين السكندريين، بينهم الأخوان وانلى وصديقهما أحمد فهمى.. وكان نجاح المعرض وتميز لوحاتهم سببا فى زيارة قام بها أساتذة كلية الفنون الجميلة لمرسمهم، وسببا فى إسناد تصميم الديكورات والمناظر الفنية لعدد من الأعمال المسرحية لسيف وانلى أبرزها أوبريت “مهر العروسة” الــــذى كتبــه عبد الرحمن الخميسى ولحنه بليغ حمدى..
– أول معرض بالقاهرة.. فبعدما بدأت شهرة الأخوين وانلى تتسع وتصل إلى القاهرة، فإن الأصداء التى وصلتهما شجعتهما على غزو القاهرة بإقامة أول معرض لهما بالعاصمة، وهو ما حدث فى متحف الفن الحديث وكان مقره حينها بميدان التحرير.. الآن: العاصمة الأولى لمصر تعترف رسميا بعبقرية أخوين ينتميان فنا وسكنا إلى عاصمتها الثانية.. الإسكندرية.
(2)
هذا عن أبرز الأحداث الفارقة والمحطات البارزة فى بدايات صعود الأخوين وانلى، توازى معها تجارب فنية مؤثرة، تركت أثرها وصداها ونتائجها وبصماتها، ولا يمكن أن ترصد مسيرتهما بدون التوقف عندها والإشارة إليها..
– أولى هذه التجارب حكايتهما مع السيرك أو كما يسميه بعض النقاد: حياة الليل، وهى تجربة بدأت عام 1946 عندما جاء سيرك “تونى” ليقدم عروضه فى الإسكندرية، وذهب الأخوان ليجلسا فى ركن بعيد من المسرح ليرسما ويسجلا حركات اللاعبين والموسيقيين والحيوانات والاستعراضات.. وهو ما تكرر مع سيرك “ميدرانو”، ولكن بشكل أعمق وأقرب، عندما أتيح لهما أن يدخلا كواليسه بالنهار ويرصدا بالمعايشة تدريبات اللاعبين والمهرجين وراقصات الاستعراض ويشاهدا الصورة بلا مساحيق ولا رتوش..
كانت التجربة شديدة الأثر فى رؤيتهما الفنية والإنسانية، فبعد هذا الاقتراب من أبطال السيرك ونجوم الليل ومعرفة الدخائل والخلفيات – كما يقول الملاخ والشارونى – احتلت رسوم السيرك جانبا هاما من إنتاج الأخوين وانلى.. فكانا أبرع الفنانين الذين صوروا الفرق التى زارت مصر وقدمت عروضها على مسرح دار الأوبرا بالقاهرة ومسارح الإسكندرية، بتشجيع من ابن خالهما الفنان سليمان نجيب أول مصرى يتولى منصب مدير دار الأوبرا، وتواصل التشجيع من المدير التالى شكرى راغب، الذى كان يحجز لهما مقعدين دائمين فى جميع حفلات دار الأوبرا، خاصة فى عروض الفرق الأجنبية الزائرة، فكانا يتركان مقعديهما الوثيرين ويجلسان على الأرض وراء خشبة المسرح، يرسمان فى شغف ونهم ومتعة..
وهو شغف لازمهما فى تسجيل “حياة الليل” فى رسوماتهما البديعة خلال الرحلات التى قاما بها إلى عديد من الدول الأوربية.. فعندما زارا إيطاليا مثلا فى صيف العام 1952 وقضيا هناك شهرا عاد كل منهما بأكثر من 80 لوحة أقاما لها معرضا خاصا فى جمعية الصداقة المصرية الفرنسية بالإسكندرية..
وأثارت لوحات ورسومات الأخوين وانلى عن عالم السيرك وراقصات البالية نظر الصحافة الأوربية؛ فكتب مراسل جريدة “اللوموند” الفرنسية الشهيرة عنها وبلغ من إعجابه بها أن وصفهما بأنهما “خلفاء الفنان ديجا”، و”ديجا” هو واحد من أعظم الرسامين الفرنسيين فى القرن التاسع عشر، ويعد أبرز من رسم حياة الليل وأضواء المسارح وراقصات البالية.. ولم يكن الأخوان وانلى مجرد منافسين لديجا كما كتب ناقد اللوموند، بل ذهب بيكار إلى القول إنهما تفوقا على ديجا فى التعبير عن هذا الجو المسرحى بدرجة تقترب من الإعجاز!
– التجربة الثانية تتصل بالعلاقة الاستثنائية التى ربطت الأخوين وانلى بوزير الثقافة الأشهر د. ثروت عكاشة، فبحكم اهتمامه الواسع بالفن التشكيلى وترجماته لأعظم رساميه فإنه أدرك أنه أمام موهبة مصرية عبقرية متمثلة فى الأخوين السكندريين، فكان من أشد الداعمين لهما، وأصدر قرارا استثنائيا بمنحهما منحة التفرغ مدى الحياة.. كما رشحهما لأن يكونا من بين صفوة الرسامين المصريين الذين جرى تكليفهم بالسفر إلى النوبة لرسم وتسجيل وتوثيق معالم تلك المنطقة قبل أن تغمرها مياه السد العالى وتطمرها إلى الأبد..
وكتب كمال الملاخ عن تلك التجربة:
“فى ذلك العام (1959) كان سيف وأدهم وانلى ضمن مجموعة كبار الفنانين وأساتذة الفن فى مصر الذين سافروا إلى النوبة على ظهر باخرة نيلية فى رحلة فنية.. وقد رسم الفنانان القرى ومعابد النوبة الأثرية والسكان فى أفراحهم وخلال حياتهم اليومية بملابسهم الشعبية الملونة وعماراتهم مميزة الطابع، وبعد عودتهما أعادا صياغة تلك الرسوم فى لوحات ذات طابع مسرحى، فعبرا عن النوبة فى مشاهد أقرب إلى المشاهد المسرحية منها إلى المناظر الطبيعية المعروفة مما أضفى عليها مسحة من الجدية والشموخ..” وخلال أسبوعين قضياهما فى النوبة رسما ما يقرب من 400 اسكتش، نفذا منها ما يقارب 150 لوحة بالألوان..
وكان الأخوان وانلى مضرب الأمثال فى سرعة رسم الاسكتشات نقلا عن المناظر الطبيعية، وهى عادة اكتسباها من تجربتهما فى السيرك وحياة الليل وراقصات الباليه، فكان لهما طريقتهما المميزة والخاصة، فيرسمان عن الطبيعة بسرعة مذهلة، وغالبا فى الظلام وفى أجواء صعبة، ثم يختاران من بين مئات الاسكتشات ما يصلح لتحويله إلى لوحات ..
وفى ذلك العام (1959) حصل سيف وانلى على الجائزة الأولى من بينالى الإسكندرية الثالث.. لكنه بعد ثلاثة أيام فقط من افتتاح البينالى وفرحته بالجائزة الكبرى تلقى أكبر خسارة وأعنف صدمة فى حياته بالرحيل المفاجئ لتوأم رحلته ورفيق عمره شقيقه أدهم وانلى..
(3)
عقب عودته من النوبة عكف أدهم على لوحاته، وكان يضع اللمسات الأخيرة للوحة “الرقص فى النوبة” حين داهمته آلام مبرحة، فأدخلوه مستشفى المواساة، وزاره وزير الثقافة ثروت عكاشة وأصدر قرارا بسفره للعلاج فى الخارج على نفقة الدولة بعد أن أثبتت الفحوصات إصابته بسرطان فى الرئة..
المدهش أن أدهم تعامل مع الأمر ببساطة، وانتظارا لإجراءات السفر طلب من شقيقه أن يُحضر له أوراقه وألوانه، وراح يرسم الأطباء والممرضات وحجرته بالمستشفى، وفجأة ساءت حالته وانفجر الشريان المتضخم أسفل رقبته..
رحل أدهم وانلى فى 20 ديسمبر 1959، وهو فى الخمسين من عمره، ولم يستوعب سيف فى البداية صدمة الفقد؛ فعاش حالة من الضياع استمرت نحو عامين أغلق خلالهما مرسمه مع شقيقه واعتكف على أحزانه، واسودت الحياة فى عيونه وفى ألوانه، وعبّر عن حالته ومأساته بتلك الكلمات:
“ماذا أقول وقد صرت وحيدا رغم ما يحوطنى من الأهل والأصدقاء، إن فقدى لأدهم لا يعوضنى عنه أحد، لقد كان كل منا ظلا للآخر.. فتصوروا رجلا فقد ظله فى يوم امتد طوله.. رأيته يتلاشى أمامى، وكان الأمل فى شفائه يقف أمامى متجسدا حتى تبدد، ولم أصدق أبدا ما حدث، وتجمع الدمع فى عينى إلى أن أسالته مرارة الحقيقة.. بعد أن ذهب هو إلى مكان لم يترك لى عنوانه.. أصبحت ألوانى سوداء، ما هذا أنا الذى كانت ألوانى صداحة وكنت معروفا بها.. أنا الذى كنت أضع اللون الأخضر أو الأخضر مع الأخضر والأحمر مع الأحمر متحديا المصطلح فى فن التصوير.. ها أنا قد وصلت أخيرا إلى القمة الجلالية للون الأسود ومشتقاته الرمادية”.
حاول سيف أن يداوى أحزانه بالرسم، وغلبت على رسوماته مظاهر الحزن والقلق، واتشحت لوحاته بدرجات اللون الرمادية، ومن أبرز ما أنجزه حينها لوحته الخالدة “السيمفونية السادسة الحزينة لتشايكوفسكى”..
كما انغمس فى التدريس لطلبته فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وهى الكلية التى تأسست فى العام 1957، واختاره مؤسسها الفنان أحمد عثمان مع شقيقه أدهم لتدريس فن التصوير الزيتى، وواصل سيف مهمته بعد رحيل شقيقه، وتولى تدريس مادة الديكور المسرحى..
وانتصرت الحياة على الموت – كما يقول بيكار- وانطلقت الريشة فى بحور الألوان غير معترفة بأرقام السنين ولا أزمات المرض، واعترفت الدولة بفضل الرجل العملاق فمنحته جائزة الدولة التقديرية، وكرمته مرة أخرى وأهدته الدكتوراة الفخرية فى عيد الفن، فكان أحد عملاقين حصلا على هذا الشرف الكبير: سيف وانلى الرسام ومحمد عبد الوهاب الموسيقار..
وتنازل سيف عن عزوبيته المقدسة التى حافظ عليها طوال عمره، وكان قبلها على قناعة راسخة أن عليه أن يعيش راهبا فى محراب الفن، يمنح كل وقته وجهده للرسم وحده، لكنه فى مرحلة متقدمة مع العمر قرر الزواج، وكانت شريكة آخر حياته هى الفنانة إحسان كامل، وكان محظوظا بتلك المرأة وذلك الاختيار، فقد كانت ملاكه الحارس فى سنواته الأخيرة ومحنة مرضه، كما لعبت دورا شديد الأهمية فى جمع تراث الأخوين وانلى وتوثيقه والمحافظة عليه من الضياع..
قبل رحيله بعام أصيب سيف وانلى بشلل نصفى، ولكنه رغم ذلك قاوم الألم وتحدى المحنة وواصل الرسم، بل اتفق على إقامة معرض لأعماله فى السويد والنرويج والدانمارك، ووصل بصحبة زوجته إلى العاصمة السويدية ستوكهولم فى 2 فبراير 1979، وراح يتابع كل تفاصيل وترتيبات المعرض، ولكن جسده المنهك وقلبه الذى هده الحزن خاناه، وداهمته نوبة قلبية حادة فارق على أثرها الحياة فجر يوم 15 فبراير 1979 بمستشفى “كالوراتيسكا” بالعاصمة السويدية، ونقل جثمانه إلى الإسكندرية حيث ودعته مدينته يوم 20 فبراير فى جنازة حاشدة..
(4)
أحاول أن أرسم صورة من قريب لسيف وانلى، بورتريها لهذا الرسام السكندرى المبدع، ولأننى لا أتقن الرسم مثله فإننى سأرسم بالكلمات، وسأختار أبرز العناصر التى تتكون منها تفاصيل اللوحة..
– طويل القامة، ممتلئ الجسم قليلا، أشعث الشعر، تتدلى دائما نصف سيجارة من بين شفتيه، محب للحياة ويسعد الناس بلقائه وهو يسير فى شوارع مدينته الإسكندرية.. يتمتع بطيبة ملائكية يندر أن توجد بين البشر، وتواضع لم يعرف به إلا العباقرة، وذكاء فطرى يبدو من وراء غلالة من البراءة الطفولية التى يكللها الوهن والمشيب والصمت المهيب.
– يعشق الموسيقى والمسرح.. ويقرأ بنهم.. لكن يظل الرسم هو هوايته الأهم والأحب والأبقى، كأنه جاء إلى الدنيا ليرسم كل ما هو جميل فيها، الرسم عنده يعنى الحياة، أسعد أوقاته وأمتعها تلك التى يقضيها أمام لوحته وفى يده فرشاته.. لم يفكر أبدا فى أن يعيش من عائد لوحاته أو يحول موهبته إلى استثمار وتجارة، فى فترة من حياته كانت اللوحات تتكدس فى مرسمه، ويسعده أن يحدثه عنها زواره من الأصدقاء والنقاد، وغالبا يمنحها لهم كهدايا.. يعيش على الكفاف من مرتبه الهزيل فى الوظيفة الحكومية المتواضعة التى حصل عليها، لكن لا شيء يهم ما دام يذهب إلى مرسمه كل يوم فى الخامسة مساء ليمارس الرسم.. إن الحياة عنده تبدأ فى الخامسة..
– صنع لنفسه مدرسة فى الرسم يمكن أن نسميها “الوانلية”، إنه فنان التجربة الحرة الطليقة كما يصفه النقاد، لديه ولع شديد بالألوان والتشكيل.. حتى يحس المشاهد للوحاته بنوع من الطرب والنشوة كالتى يحسها وهو يستمع إلى مقطوعات الموسيقى.. فى لوحاته يتشكل عالم فريد يجمع فنون متنوعة فى فن واحد، فالموسيقى والباليه والأوبرا وحتى الشعر كلها تتجسد فى لوحاته.. وهو المعنى الذى قصده د. نعيم عطية عندما كتب:
“كان وانلى قادرا على مخاطبة كل الأذواق والنفاذ إلى كل القلوب، فهو يستطيع بفرشاته وأقلامه أن يعلم، ويستطيع أن يشجو ويطرب، ويستطيع أن يبهر، ويستطيع أن يهمس، ويستطيع أن يجأر بالصوت ويصم الأذن، ولكنه فى أغلب الأحيان يفضل أن يخاطب العين والقلب حديث الحب والود، هذا لأن تجريديته كانت غنائية وليست مأساوية كما اعتدنا أن نراها عند معظم التجريديين”.
– ثم إنك لابد أن تقف عند هذا الانتماء الذى يصل لحد التصوف لمدينته الإسكندرية، وتجسد عشقه لها فى مئات اللوحات والمناظر، رسم بحرها وصياديها ومراكبها وحواريها وبناتها وناسها.. ولذلك لم يبالغ النقاد عندما وصفوا ريشته بأنها ريشة سكندرية خلاقة تنتمى إلى ذلك البحر العريق صانع الحضارات..
– ثم إنك لابد أن تقف كذلك عند غزارة إنتاجه وطاقته الخلاقة، فقد كان بمقدوره – كما يقول مؤرخو سيرته – إنجاز أكثر من 200 رسم فى أسبوع واحد، وكل رسم يختلف عن الآخر، وظل حتى آخر لحظة يتفجر بالحيوية والشباب دون أن يتوقف عن الإنتاج رغم ظروفه الصحية.. ظل فنانا هاويا محتفظا بقدرته على الاندهاش والفرح أمام كل جديد يشاهده..
وبلغة الأرقام يقدر ما رسمه سيف وانلى بـ 3 آلاف لوحة، وأكثر من 80 ألف اسكتش.. ويتوازى مع هذا العدد الهائل من اللوحات عدد هائل من الموضوعات، فلم يترك موضوعا دون أن يرسمه.. بما فيها نفسه، رسم الطبيعة الصامتة، رسم الشوارع والكنائس والحدائق، رسم الإسكندرية والنوبة وعشرات من المدن التى زارها حول العالم..
إنه صاحب الريشة المتعطشة بتعبير بيكار البليغ..
وإذا شئت تعليقا على هذا البورتريه لسيف وانلى، فلن تجد أصدق ولا أجمل مما كتبه سيف وانلى عن نفسه:
“حياتى كلها أوهام وأطياف تؤكد وجودها الألوان متداخلة الأنغام والمقامات على قطع من القماش أو الورق.. يعيش فيها معى كل من أحب الحياة التى تسمو إلى عالم الوجدان، أعيش وحيدا مع معاناتى فى مجال الخلق الفنى، إن طريق الفن وعر وشاق، ويا له من طريق”.